وينشر مركز مجتمع للدراسات الثقافية والتاريخية محتوى الورقة البحثية التي عرضتها الدكتورة بَسكال لحُّود، خلال إحدى حلقتَي نقاش، في العاصمة الأردنية عمَّان.. إلى نص الورقة البحثية:
"كلنا متماثلون وكلنا مختلفون.
كلنا متماثلون في الاختلاف..
وكلنا مختلفون في التماثل..
وما دمت لا تجعل بينك وبين غيرك فارقاً يبطل الأخوة الإنسانية الكاملة،
فلا حرج عليك من أن تكون مختلفاً عن غيرك حتى أقصى درجات الاختلاف".
مَن أنا لأقول لكم ما أقول لكم؟
ويختم محمد نور الدين أفاية، كتابه عن صورة الآخر في الفكر العربي الإسلامي الوسيط، بالقول: "عندما يطمئن المرء إلى هويته، يكون أكثر قدرةً على المغامرة بعرضها على التواصل مع الماضي بتعبيراته الحقيقية والعجائبية، أو مع الغرب في وجوده المادي أو المتخيل". ويستوقفني حديثه عن اطمئنان إلى الهوية لا عليها، لكأن العربي يخشى أن تأتيه الطعنة من الخلف من هويته نفسها، بينما هو متأهب على جبهتَي "آخريها" التقليديين الغرب والماضي. ولكن ما معنى يطمئن المرء -أو لا يطمئن- إلى هويته؟
ألا يفترض ذلك أن يعترف أنه ليس هويته وحسب؟ بل بينه وبين ما يسميه -أو يسميه له الآخرون- هوية مسافة غير قابلة للرتق؟ وأن الانتماء ليس مفهوماً طوبولوجياً تستنفده علاقات الاحتواء والإقصاء والتقاطع؟
لا بد لنا إذن قبل سؤال الأنا عن آخرها، أن نسائلها عن اختبارها لذاتيتها.
كتب عبد الإله بلقزيز في سياق تحليله سمات التيار الحداثي العربي الجديد:
لقد شهد سؤال الأنا، في هذه الحقبة الفكرية الجديدة، منعطفاً معرفياً كبيراً. ليست الأنا كياناً برسم الدفاع في مواجهة آخر يتهددها -كما درج على ذلك خطاب الأصالة، وليست الأنا سؤالاً زائفًا
وغير تاريخي، كما في خطاب للحداثة متغربن ونزاع إلى التماثل مع الآخر؛ الأنا مثل الآخر بنية غير مغلقة تنطوي على تناقضات داخلية، وتتحكم فيها يقينيات، بعضها تكلس، وبعضها قابل للحياة
تنسلك محاولتي ضمن هذه الترسيمة، ولكنها تنطلق منها لتغامر على مستويين..
- مساءلة اضطراب الهوية -كيما أستعيد تعبير جاك دريدا- بوصفه الشكل الأساسي لوعي الذات الذي تفرزه الأصالية؛ إذ تغالي في دعوتنا إلى البحث عن هويتنا في تراث مؤمثل لدرجة يغدو من الصعب علينا ألا نشعر بالغربة داخل "الهوية" نفسها.
- الانطلاق في هذه المساءلة من تجربة الفرد العربي. لا من التراث، ولا من وجهة عقل بانوبتيكي يطل على الواقع من علٍ. قد يكون وراء انحيازي لهذا المقترب -وقد يبدو للبعض مشبوها إبستمولوجياً وأيديولوجياً- تتلمذي على الفلسفة الفرنسية التي كما قال كونت سبونفيل، لا تحب الإطلال على الدنيا من وجهة نظر السماء، أو لأنني امرأة، ونحن النساء، في عرف فلاسفة كثر ضعيفات القدرة على التجريد، أو لأنني أنتمي -أريد أن أنتمي- إلى تراث الحداثيين العرب ففي كتابات بعضهم، نرى أوّل مرة في الفكر العربي إحساسًا بوجود الإنسان العادي.. وبوجود الطبقة الضخمة المسحوقة في المجتمع العربي. وأول مرة لا ينظر فيها إلى الجماهير من علٍ.
هذا ولا يفوتني بالطبع أن العربي ليس جوهرًا ثابتاً، وأن صورته في وعي الطرف الذي يضع العربي في موضع الآخر شيء، وفي الوعي الذي يتخذ منه أنا (...) شيء آخر تماماً وبين هذين المتقابلين صور متعددة للعربي بعضها امتداد لهذه وبعضها فروع من تلك. ولكن بين هذين القطبين النظريَّين، ماذا عن عربي عالق في مطهر لا هو الذات ولا هو الآخر؟ إذ بعدما صرخ بوجه المحتل، والمستعمر، والمستكبر، وضد من مواطنيه لا يشاركونه هوس الهوية نفسه، سجل أنا عربي"، اكتشف أن هويته تغدو أقل ضيافة ما أن تغادر خط التماس، وأن أكثر أولادها تمسكاً بها لا ينجون من متلازمة الطفل المتبنى، لسان حالهم، كلما تأهبوا لقول ما لا يستطيعون نسبته إلى السلف: "من أنا لأقول لكم ما أقول لكم؟
المقتلعون رغما عنهم
مسوغ هذين السؤال والمقترب شخصي أولاً.. فلقد جئت إلى الكلام في زمن صعود لغة الهويات عالمياً، وفشو الأصالية في الثقافة العربية، فوقفت مسألة الهوية بيني وبيني في عقر الـ"اعرف (ي) نفسك"، لا كموضوع دراسة بل كشرط ترنسند نتالي لأي قول. وللـ"اعرف نفسك" في سياق الهويات المأزومة، وقع خاص أن اعرف نفسك حدك والزمه"، لكأنه رد إلى بين الطاعة بيت الجماعة، وضع في الإقامة الجبرية.
أنا الآتية من دولة عربية لغتي العربية، أعمل وأكتب وأحلم وأصلي بالعربية، تحجب عني بعض الدول تأشيراتها لأنني عربية، وتحاربني إسرائيل لأنني عربية... هل أنا عربية بما يكفي كي أقول لكم ما (سـ) أقول لكم؟ لطالما وقف بيني وبين أهليتي للكلام عربي مثالي، "قياسي"، نموذجي، قح، كنت أتخيله ذكراً ليكون أصلاً لا فرعًا؛ سنّيّاً، لا غبار أقلوياً على إسلامه دمشقي النسب أو بغدادية هنا أتردد، إذ إن ما أتخيله عاصمة أو نواة جغرافية للعروبة لا ينفك يتنقل)؛ يتكلم عربية المعاجم القديمة، فلا يلحن ولا يلكن، ويتعاطى مع التراث كأرغن كبير هو الأدرى بمفاتيحه، يعزف عليها بدربة الوريث، ويعبث بها بدالة الأبناء، هو المركز وأشكال العروبة الأخرى تنفلش من حوله أطرافاً وأقليات.
أما أنا فطرفية وأقلوية وهجينة في كل شيء، فكيف تراني لا ألكن؟
أنا امرأة في ثقافة الذكر فيها الأصل، مسيحية في ثقافة الإسلام فيها المركز مولودة في القرن العشرين، وكلما تقدم بي الزمن ابتعدت عن عصور العروبة الذهبية، وازداد عالمي استعجاماً... لائحتي تطول. لكن أليس ذلك وضعنا جميعاً؟ هل ثمة مكان في هذه الهوية يشعر فيه الإنسان بالشرعية التامة؟ أم كلنا لاجئون، ومن شأن هوس الهوية أن يمسخنا جميعاً غرباء؟ ألسنا، حتى عندما ننتمي إلى دين واحد، ونتحدث لغة واحدة ونسكن جغرافاً واحداً، نعيش هذه الانتماءات بأشكال فريدة خاصة بكل منا؟
لو لم أكن أهجس بسؤال "مَن أنا لأقول لكم ما أقول لكم؟"، لكان طرحي اليوم في ما يعني مسألة الآخر (وما تستدعيه حول التراث والمعاصرة.. سيشبه إلى حد بعيد طرح من يسميهم هشام شرابي أكثر جماعات النهضة العربية "لا انتماء" ويعني بهم المثقفين المسيحيين في مصر والشام. كنت سأنحاز إلى التحديث، وسأدعو إلى النظر إلى المستقبل عوض الانهماك بالماضي، وإلى تناول شجاع وبراغماتيكي للتراث والغرب على السواء. كنت سأثمن الدور التغييري التحريري الذي يمكن للعلوم أن تلعبه، وسأدعو إلى النظر إلى القيم نظرة ديناميكية لا تقول بنسبية القيم بل بنسبية إدراكنا لها وترتيبنا لعلاقاتها بعضها ببعض. والواقع أن هذا الطوبوس تحديداً هو الفضاء الذي تحرك فيه المقتلعون.
لم أكن لأذهب في الحداثوية حد النظر إلى التراث نظرة عدمية ترى فيه مضيعة للوقت، وتعتبر أن "مقتضيات الحداثة والكونية الإعراض عن الماضي ونسيانه بشجاعة 15. بل كنت لأنحاز لما يسميه ناصيف نصار "الوفاء الخلاق للتراث لأن:
"مشكلات الحياة هي مشكلات الإنسان الذي يدرك ذاته كموجود حي، مفكر وفاعل في الوجود، والموجود الحي الذي يدرك ذاته كموجود حي مفكر وفاعل في الوجود يرفض أن يغمض عينيه عن مشكلات وجوده لكي يستحضر محلّها مشكلات تراثه، لأنه يدرك أصلاً، من خلال شعوره بانطلاق الحياة من ذاته، أن التراث في خدمة الحياة والأحياء، وليست الحياة في خدمة التراث".
لكنني بالاقتلاع والاستئصال والغربة والواقع أن شرابي ليس الوحيد الذي يفرض على خارطة الفكر العربي الحديث موقعاً خاصاً بالأقليات، سواء أكانت الأقلية دينية أم إثنية أم لغوية، ولعله من المفيد أن نغير زاوية النظر، ونسائل مقولتي الأنا والآخر انطلاقاً من هذا الموقع المطهري، أكاد أقول الديستبوي، الذي اسمه "الأقلية" فلا هي الذات، لذا لا يحق لها أن تشارك في تحديد هوية الذات، ولا هي الآخر، لذا لا يُسمح لها أن تختلف مع الذات التي هي أقلية فيها. هي موقع أولئك الذين إن جاهروا بعروبتهم جاء من يذكرهم بأنهم فيها أقليات، معتبراً أن حماستهم القومية أو يونيفرساليتهم الإنسانية لا يمكن أن تكون سوى فعل تعويضي. وإن هم التفتوا إلى غيرها، أو إلى هوية لهم سابقة عليها، اتهموا بالردة والانفصال والانعزال والانكماش وسواها.
خلل انتماء أم خلل تمثيل؟
يعزو شرابي ما يعتبره "مأساة" المثقفين المسيحيين إلى إدراكهم أنهم إنما يمثلون أقلية في المجتمع، وأنهم تالياً لا يستطيعون أن يتكلموا باسم المجتمع ككل 19. ولكن مَن يستطيع ذلك؟ هل يستطيع الآتي من أكثرية ديموغرافية، أياً تكن أن يتكلم باسم المجتمع ككل؟ وإن كان واحدنا لا "يمثل" إلا من ينتمون إلى خانته الديموغرافية، فلماذا عسانا نفكر، ونبحث ونتحاجج؟ هنا نلتقي والغرب في النظر إلى أنفسنا: لسنا في نظره وفي نظر أنفسنا، رأسماليين واشتراكيين، ثوريين ومحافظين، شعبويين ونخبويين وتكنوقراطيين، نسويين، خضراً أو مناهضين للعولمة.. نحن سُنة وشيعة ومسيحيون ويزيديون وأكراد وأقباط وأمازيغ... وهنا تحديداً تكمن غربة الحداثي العربي، أياً تكن خلفيته الديموغرافية. فهو يرى الإنسان العربي مشروعًا، هويته أمامه لا خلفه، بينما الأصالية تنظر إليه كنبتة.
لا يصبح الانتماء إلى أقلية ديموغرافية عسرًا في التمثيل، ولا شطبًا عن سجل الحق في الكلام، ولا مأساة وجودية إلا حيث يُراد للهوية الجماعية أن تحل محل الإرادة العامة والرأي العام، ولدوائر النفوس أن تحل محل دائرة الأغورا. وحيث يعفي سؤال "من أنت؟" من سؤال "ماذا تريد؟".
يشرح جان بيار فرنان أن الـ"بوليس" اليونانية ليست المدينة الجغرافية؛ بل هي جماعة المواطنين، إذ يرسمون بحقوقهم المتساوية دائرة رمزية، جميعهم على مسافة واحدة من مركزها. والمركز ليس أصالة ديموغرافية ولا قوامة على الماضي من أي نوع؛ بل هو المكان الفارغ الذي يتقدم إليه المواطن ليقول رأيه وليرسم بالرأي انتماءات جديدة. المدينة ابتداع يخترع فيه البشر إلى جانب الأمكنة الخاصة، أمكنة الانتماء، مكاناً للمعية، الجميع فيها متساوون. وإن وضع السلطة في "الوسط"، يتابع فرنان، يعني أخذها من الجميع وإعطاءها لما يتوافقون عليه. إذ لكل مواطن أن يتقدم إلى الوسط، ليقول لمواطنيه ما يريد. ولا مؤهلات مطلوبة ليحق له أن يقول سوى انتمائه إلى جماعة المواطنين. أما تمثيله فيأتيه من انحياز المواطنين لما يقول لا من عدد المسجلين معه في سجل طائفة أو قبيلة.
فالغلبة غلبة الفكرة التي أقنعت العدد الأكبر. لعلنا هنا نمس المشترك بين معنيي كلمة "أغلبية" في اللغات اللاتينية Majorité, Majority فهي تعني في الوقت عينه الأكثرية والرشد أي الانحياز للحجة الفضلى ليست الأكثرية جردة ديمغرافية بل محصلة سياسية تبنى بحوار المختلفين المتساوين، وبالتفاوض الخلاق مع الوقائع بهدي التطلعات... هي في الديمقراطية مفهوم حقوقي لا إحصائي.
قد لا يكون الاقتلاع بالتالي خللاً مع ماضيك؛ بل هو خلل -تعانيه، أو يفترض الآخرون أنك تعانيه- حيث تصبح الهوية مسألة جينيالوجية بحتة، ويُكتفى من البشر بجذورهم. فالجذور لا صوت لها. ومن الأسهل تحويل النظر من حق العرب في المغايرة، والتغيير، والمعارضة -أي الحق في صوت/ تصويت يعلو فوق صوت الهوية- إلى خطاب جوهراني عن صراع الهويات والحضارات؛ لأن فكرة الاختلاف بين الشعوب والدول لا تخيف الحكام إجمالاً، يقول ناصيف نصار، أما فكرة الاختلاف السياسي بين أعضاء الدولة الواحدة فهي أشد إثارة للخوف والحذر.
ليس التحدي اليوم أن نقول للغرب من نحن ومن كنا، بل في أن نبني هوية تقول لكل منا نحن أبناءها: تقدم إلى الوسط وقل للآخرين ما تريد، لكي يعرف من هم في بيوتهم، في جذورهم، في انتماءاتهم الأولية أن ثمة من يريد ما يريدونه.... عوض أن تقول له: عُد إلى بيتك وابق مع من هم مثلك، فإن أنت وهم سوى نسخ من تراثكم.
لا يعني الانتقال من سجل الهوية إلى سجل الإرادة تهميش مسألة الانتماء، فهي من أهم القضايا التي ينبغي إعادة التفكير فيها، بل يعني النظر إليها وفق مقتضى الحرية. فـ"الجماعة الحرة هي الجماعة التي تدرك تموقعها في إطار انتمائها إلى محيط أوسع منها وتدرك أيضًا أنها تتألف من أعضاء أحرار، تمارس حريتها من خلال ممارستهم لحريتهم. والأفراد الأحرار هم الأعضاء الذين يمارسون حريتهم في جماعة ينتمون إليها وتعترف هي بانتمائهم إليها بوصفهم أحراراً".
من الجذر إلى الجذمور
إن النظر إلى مفهوم الانتماء من خلال نظرية المجموعات يحجر عليه في علاقات الاحتواء والإقصاء، انتماؤك إلى مجموعة يجعل منك "عينة تمثيلية"، نسخة من صورة نمطية، وإقصاؤك ينفيك في غيرية مطلقة عصية على الترجمة. أنت في داخل مجموعة أو خارجها، وأنت كأنت مستحيل في الحالتَين.
يسهل أن نتمثل الآخرين ضمن هذه الترسيمة، فنصنفهم ونوزعهم أنواعاً ضمن أجناس، وفروعاً على أصول وأقليات إزاء أكثريات، ولكن ما أن يحاول واحدنا أن يطبقها على نفسه، أي أن ينتمي بأناه إليها، حتى يشعر بأن أي مجموعة هي في الوقت عينه فضفاضة وضيقة عليه. وما هذا التناقض إلا دليل على اللا ملاءمة -أو على الأقل لا كفاية- الطوبولوجيا لفهم مسألة الانتماء. كتب جاك دريدا في سياق حديثه عن اضطرابه الهويتي: "أنا مثقف أوروبي من دون أدنى شك؛ لكنني لست أوروبياً بكليتي، ولا أشعر أنني أوروبي بكليتي إن قُلت إنني أشعر أنني أوروبي من ضمن أشياء أخرى؛ فهل هذا يعني أنني أكثر من أوروبي أو أقل من أوروبي؟".
لا تملك الطوبولوجيا جواباً عن هذا السؤال..
في عالم اليوم، عالم لا مكاني بامتياز؛ بحيث يمكن أن تحمل "سكنك" عبر الشبكة، وتتصل بعالمك أينما كنت في عصر هجرة الأجساد والصور والرموز، لعله من المفيد أن نخرج في تمثل الهويات والانتماءات من منطق الصنافة الهرمية، منطق شجرة بورفيريون إلى صورة الجذمور كما بلورها دولوز وغاتاري. فالجذمور ينمو أفقياً، بشكل غير حتمي وغير قابل للتوقع، ويمكنه أن يكون جذراً وساقاً وبرعماً. لا مركز للجذمور، فهو بطبيعته متعدد الرؤوس بمعنى أن كل نقطة فيه قادرة على أن تكون رأساً، وتفتعل بالتالي تطوّراً يطول بنية الكل، لذا لا علاقات هيمنة فيه، ولا احتكار المعلومة في جزء من أجزائه دون آخر.
يسوق دولوز وغاتاري هذه الصورة دفاعاً عن التعددية واللا مركزية، ليس لأنهما تمثلان الواقع بكثرته الأصلية بشكل أصدق وحسب؛ بل لأنهما تسهمان في صنع عالم أفضل، عالم أرفق بالفرادة وأقدر على مقاومة القمع.
يشبه الأصاليون بطلاً في أفلام الخيال العلمي الذي يسافر إلى الماضي ويتسبب بعدم لقاء أبيه وأمه فينسف نفسه من الوجود... فقبل أن تكون أفكارنا في الهوية دقيقة تاريخياً أو ملائمة لمقتضيات التجييش والتأقطب، قد يكون من المفيد أن نحرص على أن نبقى فيها ممكنين، كأفراد فريدين أحراراً قد يكون من المفيد أن نتذكر أن كلاً منا قد يجد نفسه خارج السور؛ لكونه ذا حاجات خاصة، أو لأنه ملحد، أو لا إنجابي أو مثلي، أو عادي متوفر بأعداد كبيرة، أو أي شيء آخر من مصلحتنا إذن أن نبني ثقافة مضيافة يستطيع واحدنا أن يسكنها ويسكن إليها كطفل غير متبنّى أياً يكن موقعه حاكماً أو محكوماً، في الأقلية أو الأكثرية مهجوساً بالتراث أو بالمستقبل، فصيحاً أو ألكن، امرأة أو رجلاً.
ما المجتمع الذي أطمئن فيه إلى أن أكون في أي موقع جذرًا أو ساقاً أو برعماً؟ أليس المجتمع الذي يضمن لي الحقوق نفسها أياً يكن مكاني شرط أن أحترم لسواي حقوقي ذاتها؟ ما المجتمع الذي لا تؤلمني فيه جذوري؟ أليس ذلك الذين يشتهي من لم ينبتوا فيه أن ينتسبوا إليه وتنمو براعمهم تحت سمائه؟
مجتمع يعترف بنا أبناء أحراراً ويرعى اختلافاتنا بالعدل:
أوقفني أمام ذريتي، وقال لي
لا تخف يا آدم وامسح الكآبة عن وجهك
في الباب جميعهم متماثلون. اللون الآدمي واحد. وفي ما بعد الباب الفرق هو السيد الوعد والوعيد
ثم قال لي:
انظر إلى اللا مرئي يا آدم
بين الألف والياء
وفوق المثل والفرق، يوجد سيد أعلى اسمه العدل