تعقيب على الورقة البحثية "النحنُ وعنّا نحنُ الآخرين" لبَسكال لحُّود | د. رياض الصبح

مركز "مجتمع" ينظم حلقتَي نقاش في عمَّان عن "نحن والآخر"
مركز "مجتمع" ينظم حلقتَي نقاش في عمَّان عن "نحن والآخر"

عقب الدكتور رياض الصبح على الورقة البحثية للدكتورة بَسكال لحُّود بعنوان "النحنُ وعنّا نحنُ الآخرين"، التي عرضتها، خلال حلقتَي نقاش نظَّمهما مركز "مجتمع" للدراسات الثقافية والتاريخية، في العاصمة الأردنية عمَّان، يومَي ١٨ و١٩ مايو ٢٠٢٤؛ تحت عنوان "نحن والآخر"؛ بمشاركة واسعة من المهتمين والمختصين.





وقال د.رياض الصبح، خلال تعقيبه على ورقة د.  بَسكال لحُّود، إن الشكر موصول لمركز "مجتمع للدراسات الثقافية والتاريخية" الذي نظَّمَ هذا اللقاء، وللمحاضرة الدكتورة باسكال لحود، التي قدمت ورقة مليئة بالأفكار والمفردات والإشكاليات التي هي موضوع تساؤل في عالمنا العربي أو الشرقي.


وأضاف د.رياض الصبح: أثارت المحاضرة سؤال الهوية بطريقة مثيرة كونها تشكل سؤال القلق الوجودي وما يرتبط به من تداعيات ذات صلة بحقوق الفرد وكيان المجتمع، وقد وصفته بـ"الاطمئنان إلى الهوية لا عليها"، وهو ما جعلها تحاول أن تفهم إشكالية الهوية للفرد العربي على مستوى التجربة العملية متجاوزةً الحدود التي يفرضها التجريد ومماحكات الأبستمولوجيا والأيديولوجيا، طرحت سؤال الهوية ما بين تداخل للذات والآخر الذي هو بذات الوقت يشكل الأنا، وما بين الأقلية والأغلبية، ومستحضرة أمثلة عن أشكال الجدال الدائر في فضاء حياتنا اليومية حول الهوية؛ ما جعلها تتساءل عن جدوى تلك الصراعات المفتعلة حول هويتنا، بحيث أصبحنا في حراك الواقع مقتلعين رغمًا عنا.


استحضرت لنا الدكتورة باسكال موضوع الأقلية، هذا العنوان ولا أقول الفئة -حتى لا يتم تصغيرها- والتي قد تم السكوت عنها في الوقت المعاصر من حياة أمتنا العربية، في حين أن نقاش هذا السؤال -أي علاقة الهوية بالأقلية- استحقاق للنهضة وتحقيق للحقوق والاستقرار، إنه سؤال القضايا المسكوت عنها، ومقترحة علينا بديلاً لسؤال الجذور الذي أقلقنا إلى مقترح الجذمور.


سؤال الهوية.. أبرز مشكلات العصر الحالي

وتابع د.رياض الصبح: اسمحوا لي أن أشارك محاضرتنا قلقها حول سؤال الهوية، والذي أعتبره من أبرز مشكلات العصر الحالي، فبعد أن حددت معاهدة وستفاليا معالم هُويتنا برسم حدود الدولة بشكل يتطابق والهُوية القومية، بديلًا من سطوة معادلة الدين والإمبراطورية إلى شكل جديد يُسمى بالدولة القومية التي نتج عنها مفاهيم جديدة؛ مثل العقد الاجتماعي ومنظومة الحقوق والدولة المدنية، ما لبثنا أن دخلنا في إشكالية جديدة للهُوية في منظومة العولمة.


وتكمن مشكلتنا في العالم العربي أننا لم نكد نخرج من منظومة الدين/ الإمبراطورية (الدولة العثمانية) التي سبقتنا أوروبا في الخروج منها قبل قرون، محاولين الدخول إلى المنظومة الجديدة وهي الدولة القومية، كان لاستعمار الدول الغربية للعالم العربي ما خلفه من تبعية وهيمنة وشكل عقبة أمام مشروع النهضة لديها، وقبل أن ننجز قوميتنا العربية بوصفها دولة وهُوية، دخل الغرب في منظومة ملامح موجة حضارية جديدة ثالثة، كما يحلو لآلفن توفلر أن يسميها، بينما أسماها أنتوني جيدنز وهابرماس وأولريش بيك ورونالد روبرتسون وغيرهم بالعولمة، أو ما بعد الدولة القومية.


وقال د.رياض الصبح: إذن تكمن إشكاليتنا في أننا لا ننجز المراحل التاريخية مثل بقية الشعوب المتقدمة، فتتراكم علينا جردة حساب المفاهيم، والمساهمة في إنجاز صيروراتها، ومن ذاك سؤال الهُوية الذي يتشاكل مع الحاضر والماضي، ما جعلنا نتخبط في جميع رؤانا الأيديولوجية.


 وكما يتشاكل سؤال الهُوية مع تحديد ملامح الأنا والآخر، وكما جهدت محاضِرتنا اليوم في إبراز إشكال كيف يكون الأنا والآخر حالًا فينا، نعم فأنا الذات والموضوع عندما يحل سؤال الهُوية، ويبرز ذلك عند طرح مشكلة الأقليات في عالمنا العربي. اتفق مع الدكتورة باسكال أنها حالة اضطراب للهُوية، ويتمثل ذلك بنرجسية النظر إلى تراث نفتخر به، على الرغم من أننا لا نعيشه، بل حتى لا نعيش قيمه، وبواقع نرفضه، فإننا نتمسك بحدود دولته التي رسمها الاستعمار لنا، والمنافية للتراث المفتخر به، واستحقاقات الواقع المرحلي، أي الدولة القومية.


مجتمعاتنا تعيش أزمة ثلاثية الأبعاد

تعيش مجتمعاتنا أزمة ثلاثية الأبعاد في مسألة الحقوق الجماعية والفردية: أزمة حقوق الأقليات، وأزمة حقوق أفراد الشعب (الأغلبية) في التمتع بحقوقه الإنسانية بوصفهم مواطنين فاعلين، وأزمة الدولة في تبعيتها السياسية والاقتصادية للدول العظمى، وهذا كله يؤثر في سؤال الأقليات في الوطن العربي.


ونوه د.رياض الصبح: تعاني الدولة العربية المعاصرة أزمة مشروعيتها وجودًا وبنيةً، فمشروع دولة (كليب) في سرديات تراثنا تحوّلت إلى المطالبة بثاراته، وما زال الزير منغمسًا بانفعالاته الغريزية، وما زال استحضار تهمة "الردة" السياسية ماثلًا أمام كل من يناهض السياسات القمعية والفاسدة للدولة العربية؛ بما فيها محاولات الأقليات التعبير عن نفسها. إذن، أصبح سؤال الأقليات أحد أشكال ردود الفعل على فشل الدولة العربية المعاصرة في تحقيق مشروع دولة الحقوق والحريات.


لم يُجدد تأويل مفاهيم أهل الذمة والمستأمن والموالي والشعوبية في زمننا المعاصر، في حين بقيت مرجعًا لبعض من يحلمون بالعودة إلى حياة السلف، في حين يُغفل الجانب المضيء من تراثنا الذي تضمن قدرًا من "التسامح" بين الثقافات والأديان في ظل الحضارة العربية الإسلامية، على الرغم من أن الشعوب المعاصرة تخطته إلى مستوى المواطنة وحقوق الإنسان. وقد تشكلت الأقليات في العالم العربي نتيجة تاريخ عريق من تعاقب الثقافات، وفي الوقت المعاصر فإن سؤال الأقليات هو سؤال ما بعد الدولة/ الأمة، وثمرة حقوق الإنسان العالمية بوصفها قيمة. يصبح السؤال إذن: كيف يمكن إيجاد صيغة معاصرة للأقليات في ظل التحولات العالمية؟


واستطرد د.رياض الصبح: تجلت الأدبيات الفلسفية المعاصرة التي ناقشت أسئلة الأقليات في مفهوم الديمقراطية التداولية الدستورية عند هبرماس، التي يقف فيها الجميع على قاعدة المساواة، بغض النظر عن أي مرجعية اجتماعية لأي فرد أو جماعة، بل ينبغي منح الجميع حق التعبير عن ذواتهم والتفاعل فيما بينهم، ومفهوم الاعتراف عند إكسل هونث لجميع المكونات الاجتماعية، خاصة تلك التي عانت الاضطهاد والإقصاء، وجون رولز في مفهومه للعقل العمومي الذي يعبّر عنه من خلال فضاء المجتمع الديمقراطي، وأمارتيا سين الذي يؤكد أهمية التعددية الثقافية والحريات الثقافية المعبرة عن الهُويات المتعددة على قاعدة المساواة، وويل كيميليكا الذي يؤكد أن الأقليات في العالم أصبحت واقعاً سياسياً وحقوقياً، كما يؤكد أهمية التزام الدول بحقوق الأقليات، وحق تقرير المصير في الحكم الذاتي، واحترام حقوق الإثنيات المتعددة، وحقوق التمثيل الخاصة. وأمام ما ذُكر أصبح سؤال الأغلبية موضع اتهام ورفض، وتراجع لتحل محله مفاهيم جديدة للمجتمعات المتمدنة.


العالم كوخ صغير تنظم حياتنا فيه الوسائل الإلكترونية

وإذا أضفنا إلى ذلك إعادة تموضع مفهوم الهُويات عند آلفن توفلر، في (الكوخ الإلكتروني)، بسبب ثورة المعلومات، إذ يشبّه العالم بكوخ صغير تنظم حياتنا فيه الوسائل الإلكترونية، وأمارتيا سين الذي يقول إن لكل فرد شبكة من الهُويات المتعددة على المستوى المحلي والعالمي، وما يؤكده رونالد روبرتسون في نحته مصطلح Glocalization وهو جمع بين مفردتَي Globalization وLocalization  أدركنا مدى تعقّد سؤال الهُوية بتداخل العولمي أو العالمي مع المحلي، إذ لا تنفك الهُوية عن الاثنين معًا، على الرغم من أن العلاقة المتشابكة بينهما لم تتوثق إلا حديثاً.


واستكمل د.رياض الصبح: فما بالنا في عالمنا العربي، حيث تعيش الأقليات في حالة توتر وشك مع كيان الدولة والجماعة، على الرغم من أن ما يُسمى بالأقليات جزء من كينونتي التاريخية وهويتي، وليست أمرًا طارئًا، فبعض تلك الأقليات حضورها حالٌ في الذات فينا لقرون، بل إن الأقليات الكبرى منها يعود تاريخها إلى ما قبل الإسلام، والإسلام الذي يعتبره الكثيرون، ومنهم أصحاب خطاب السلطة، هو الجامع الأساسي لمفهوم الأمة الأغلبية. وهذا الشعور المتناقض بعدم السماح للأقلية أن تشارك بتحديد هوية الذات، وعدم الاعتراف بها آخرًا له حق التباين، لأنها أقلية تعيش بين ظهرانينا، أقول إن هذا الشعور يؤكد حالة الاضطراب المفتعل بهوس الخوف من الهُوية والشك بالذات، بسبب المبالغة في الخوف من الغرب المستعمر، وما هذا إلا مزيد من الطعون بهويتي وتعميق لاضطرابها.


إعادة تموضع الأغلبية والأقلية

يقول آلفن توفلر في كتابه حضارة الموجة الثالثة: "إذا كانت للموجة الأولى [الزراعية] سياسة (ما قبل الأقلية) Pre-Majoritarian ثم تحولت إلى سياسة (الأغلبية) خلال الحقبة الثانية [الصناعيىة]، فإنها ستصبح مستقبلًا (الأغلبية المصغرة) Mini-Majoritarian انصهار قاعدة الأغلبية في قوة الأقلية".


ويرى أن ذلك نتيجة لتحول شبكة السلطة، نتيجة تغيّر الإنتاج المعرفي بسبب تكنولوجيا المعلومات، إذ تعيد وحدات المجتمع تموضعها وتحديد علاقتها بالسلطة، فيُعاد تشكيل الهُويات ودور الأفراد والجماعات على غير الشكل التقليدي.


وقال د.رياض الصبح: إذن، فالدولة القومية تتجه بخطى انتقالية نحو حضارة الموجة الثالثة، "فبدلًا من نشوء أمم جديدة، تتعرض الأمم القديمة لخطر الانقسام، وفي حين تبرز فيه الموجة الثالثة، تتعرض الدولة القومية -الوحدة السياسية الرئيسية لحقبة الموجة الثانية- إلى ضغوطات لا مفر منها، إحدى هذه الضغوط تريد تحويل السلطة السياسية من الدولة القومية إلى المناطق والجماعات دون القومية، وأخرى تريد نقل السلطة من الأمة إلى الوكالات والمنظمات الدولية.

إن هذه الضغوط تقود إلى تقسيم الأمم المتقدمة تكنولوجيًّا إلى وحدات أصغر وأقل سلطة، كما توحي نظرة سريعة للعالم لهذا الأمر. إن الموجة الثالثة تضغط على الدولة القومية ومفهوم الأمة المرتبط بها، وهو ما يؤسس لإعادة طرح مفهوم الهُوية وما يرتبط بتغير محتواها، أي القيم التي تحملها ونمط العلاقة الذي يتشكل من خلالها.


وأضاف د.رياض الصبح: إن إعادة تشكيل جديد للهُويات في واقع حياتنا اليومية الفعلية، بوصفنا أعضاء في جماعات متنوعة، "كالمواطنة، والإقامة، والأصل الجغرافي، والجنس، والانتماء السياسي، والمهنة، والعمل، وعادات الأكل، والاهتمامات الرياضية، والذوق الموسيقي، والالتزامات الاجتماعية... إلخ. الفرد عضو في مجموعات متنوعة، وتعطي كل واحدة من هذه الانتماءات التي ينتمي إليها الشخص بشكل متزامن هُويةً محددة، ولا يمكن لأي منها أن يؤخذ على أنه الهُوية الوحيدة لذلك الشخص، أو أنه فصيلته العضوية المفردة". وهنا يكون إعادة تموضع الهوية بتعددية الهوية لذات الوحدة الاجتماعية.


ولكن ما بال الفرد يبدو أحيانًا بهُوية فرعية منغلقة محلية وتارة بهوية عالمية إنسانية؟ يمكن القول إن العلاقة بين الهُويتين الإنسانية والفرعية تتشكل بطريقة مَلء الفراغ، فكلما فكر الإنسان في هُويته الفرعية يبحث عن المشترك في الجماعة الإنسانية، وكلما فكر في أنه يعيش في هُوية لجماعة إنسانية ارتد إلى ماضيه المجزأ، وبحث عن هُويته المحلية فيه. ولكن في الوقت ذاته "فيما يصبح العالم مضغوطًا أكثر، تصبح أسس ممارسة الهُوية شراكة باطراد، وبطريقة إشكالية أيضًا، حتى لو التقى العالم والهوية في نفس الوقت.

وفيما يرى توفلر أن (الأقليات العرقية قد طالبت بدور متقدم في العالم الصناعي)، فإن التحوّل عن الجماهيرية وفكرة الإجماع تعزز من دور الأقليات، إذ لم يعد ممكنًا احتكار القرار والسلطة بيد الأغلبية. ولتشكيل الديمقراطية بشروط الموجة الثالثة، علينا التخلص من الزعم القائل بأن التنوع الزائد يجلب معه آلياً توتراً متزايداً وصراعات متعددة في المجتمع، ولكن العكس سيكون هو الصحيح حقاً". وكما "تستطيع هذه التنوعية أن توجد حضارة آمنة ومستقرة"، أي أن التعددية الثقافية والتنوع الهوياتي يعدان عنصر إغناء للمجتمع والدولة، وأن المستقبل القادم يوجب تقدير دور الأقليات واحترام حقوقها.


خلاصة القول، إن العالم العربي ما زال غير قادر على استيعاب المتغيرات التي تحوم حوله، وهي تحولات بنيوية تمس مفهوم الهُوية وعلاقة السلطة بالفرد والجماعات. إن أمة ما زال يحدوها خطاب غلبة الأغلبية القومية على الأقلية، بحجة أن الديمقراطية الغربية تتمسك بأحقية الأغلبية، لهو خطاب مفارق للواقع، وتجاوزته الأدبيات الفلسفية أيضاً. كما أن السلطة العربية ومشروعيتها لا تستند أصلاً إلى الديمقراطية الغربية ابتداءً، وأن التحوّل في مشروعية الديمقراطية المعاصرة بدأ يبدد أحقية الأغلبية على الأقلية، وذلك لأن سيادة الأغلبية بهذا الشكل تعد طغياناً دون حدود تفكير حقيقي لكيفية إشراك الأقليات -والتي يشكّل مجموعها أغلبية أيضًا- في صنع القرار من خلال الفضاء والعقل العامَّيْن.


إعادة تموضع مكانة الأقليات في العالم العربي

إذن علينا الاعتراف بالحاجة إلى إعادة تموضع مكانة الأقليات في العالم العربي، وهذا يتطلب الاعتراف بجميع تنوعاتها، باعتبارها عنصر إغناء للتنوع الثقافي والفكري والاجتماعي، وعامل استقرار للمجتمع والدولة، وهو ما يتطلب إعادة اعتبار تاريخية لكون مكوناتنا التي أسهمت في تشكيل الذات وهُويتها، بل ينبغي العمل على توسيع اعتبار هُويات الأقليات، فلا تُحصر بالدين أو العرق أو اللغة، بل بأشكال عدة قد تكون برزت حديثًا، مثل جماعات الضغط لقضايا معينة، وحركات النساء والمهمشين، وبعض أنماط العمال الذين لا يتساوون وغيرهم بالتمتع بحقوقهم، وبعض المجموعات الثقافية المضطهدة، وغيرهم كُثر ممن يشعرون بالاغتراب. إن جمع الأقليات أغلبية، نعم إن إعادة تموضع الأقليات هو الجذور للشكل الجديد للسلطة العربية الرسمية ولبنية المجتمع، لتصبح حركتها عفوية وأفقية تعترف بالكل من غير الحسابات العددية الضيقة، مستحضرين ما قدّمه أسامة أنور عكاشة لمفهوم "الأرابيسك" لهُويتنا.


أخيرًا، يُشار إلى أن أزمة حقوق الأقليات في العالم العربي تتقاطع مع أزمة الحريات بشكلها الصريح، فمع قمع الحريات يصبح الجميع -ممن يسمون أغلبية أو أقلية- سواسية في التهميش والاضطهاد، وعليه فإن سؤال الهوية هو سؤال الاعتراف بالحرية.