وينشر مركز مجتمع للدراسات الثقافية والتاريخية محتوى الورقة البحثية التي عرضها الأستاذ مجدي ممدوح، خلال إحدى حلقتَي نقاش، في العاصمة الأردنية عمَّان.. إلى نص الورقة البحثية:
وقال مجدي ممدوح، خلال عرضه للورقة البحثية، إن الإشكالية التي تواجه المفكر العربي المعاصر، وهو يصوغ مشروعه النهضوي، هي الإشكالية المتعلقة بالذات والهوية في مواجهة الآخر. وإذا أردنا أن نرسم ملامح الوعي المنشود في مجتمعاتنا المعاصرة، فإننا نتصوره وعياً بالأنا ووعياً بالآخر ووعياً بالمصالح. والأنا لا يمكن أن تتحدد أصلاً إلا عندما يوضع آخرها مقابلها.
صورة الغرب التنويري وصورة الغرب الاستعماري الطامع
وقد كان رواد عصر النهضة في غاية الوضوح عندما وضعوا الحضارة الغربية كمكون أساسي في النهضة الحديثة إلى جانب الموروث الحضاري العربي الإسلامي؛ بل إن بعضهم ربما يكون قد أعطى وزناً نوعياً أكبر للمكون الحضاري الغربي.
وأضاف مجدي ممدوح: ويمكن القول إن رواد عصر النهضة كانوا يفصلون بين صورة الغرب التنويري وصورة الغرب الاستعماري الطامع. ولكن انكشاف خيوط المشروع الاستعماري الغربي وتحققه على أرض الواقع كمشروع مضاد للمشروع القومي العربي، أدى إلى تبدلات جوهرية في صورة الآخر الغربي لدى النهضويين العرب.
وتابع مجدي ممدوح: يمكن القول إن جيل ما بعد الرواد انقسم إلى تيارين متضادين حيال الموقف من الآخر الغربي؛ التيار الأول الأصولي الذي دعا إلى الأصالة وتطهير مشروع النهضة مما شابه من شوائب غربية، وظهر أوضح ما يكون لدى رشيد محمد رضا التيار الثاني كان تياراً تغريبياً دعا للتبني المطلق لعناصر الحضارة الغربية والتخلص من كل عناصر الموروث الحضاري العربي الإسلامي، وظهر ذلك أوضح ما يكون في النتاج الفكري للطفي السيد وسلامة موسى.
واستكمل مجدي ممدوح: المتتبع لمسيرة الرأسمالية، خاصة في مراحلها الامبريالية المتأخرة، يلتقط ظاهرة لافتة ترافقت مع هذه المراحل، وتتمثل هذه الظاهرة بالإنتاج المستمر للأعداء، حيث نلحظ أن الأنظمة الرأسمالية تلجأ على الدوام لتسوية تناقضاتها الداخلية من خلال اختراع آخر جديد في كل حقبة، وربما يكون اختراع الآخر الإسلامي هو الذي ميز حقبة ما بعد انهيار المعسكر الاشتراكي، حيث تم استبدال الآخر الاشتراكي الذي كان ممثلاً بالاتحاد السوفييتي طوال سبعة عقود بالمارد الإسلامي الذي تم تصويره بوصفه التحدي القادم. وهذا يدعو للتساؤل: لماذا تحتاج الرأسمالية على الدوام إلى آخر متجدد؟ ويمكن صياغة السؤال السابق بشكل آخر: ما التناقضات التي تنخر هذا النظام وتحتاج من منظريه إلى إنتاج آخر جديد للخروج من أزماته المتلاحقة. تتلخص أزمة الرأسمالية الغربية، وكل نظام رأسمالي بالتناقض القائم بين العمل ورأس المال، وهو تناقض دائم لا ينتهي إلا بنهاية النظام الرأسمالي. وهذا التناقض ليس ناتجا عن الممارسات الوحشية للرأسمالية الغربية وانحرافاتها الخطيرة، بل هو تناقض بنيوي لا مناص من ظهوره، حتى لو اتخذت الرأسمالية إجراءات تلطيفية للتخفيف من حدة هذا التناقض. وقد نبه ماركس وكبار المنظرين الماركسيين إلى هذه المسألة، والتي تبلورت في المقولة الماركسية المعروفة "الرأسمالية حفارة قبرها.." لهذه الأسباب، فإننا عندما نستعرض تاريخ الرأسمالية الغربية، فإننا سنكتشف بسهولة أنه تاريخ إدارة الأزمات، وما يُسجل للرأسمالية أنها كانت قادرة على الدوام على إدارة هذه الأزمات بكفاءة عالية. إن الرأسمالية، وفي سعيها للخروج من أزماتها المتلاحقة، لا تستبعد أيا من الحلول المتاحة أمامها، مهما بدت هذه الحلول قاسية ولا أخلاقية، وقد كانت الظاهرة الاستعمارية أحد هذه الحلول التي اجترحها الفكر السياسي الرأسمالي للخروج من الأزمة العاصفة التي كادت تطيح بهذا النظام في ثورات عام 1848. لقد بدا واضحاً من خلال هذه الثورات أن ثمة آخَرَ يقبع في هذا النظام، وهو الآخر العمالي منظوراً إليه من منظور الأنا الرأسمالي، وهو أيضاً الآخر الرأسمالي منظوراً إليه من قبل الأنا المرتبطة بالعمال وغير المالكين. وهذه الثنائية الضدية لا يمكن إخفاؤها، وستبقى قائمة حتى مع كل الإجراءات والمحاولات المستمرة للتخفيف منها، فهي لا تلبث أن تعود من جديد وبدرجة أعلى من التناقض. فعندما خرجت الدول الرأسمالية في أوروبا مثخنة الجراح بعد الحربين الكونيتين، عمدت الرأسمالية إلى سلسلة من الإجراءات لتخفيف الفجوة بين العمل ورأس المال، وقامت باختراع ما يعرف بالنظرية الكينزية، والتي تهدف إلى منح سلسلة من المكاسب للطبقة العاملة متمثلة بالصحة والتعليم والأمن الاجتماعي، وقد عمل هذا النظام الجديد بكفاءة عالية في ما عرف بدولة الرفاه، واستطاع أن يتغلب على الآثار المدمرة للكساد الكبير الذي ضرب الاقتصاد الرأسمالي في ثلاثينيات القرن العشرين. ولكن، ومع تزايد الأعباء المالية المترتبة على هذا النظام، بادرت النظم الرأسمالية للانقلاب على هذا النظام والتهرب من التزاماتها الاجتماعية، حيث افتتحت حقبة الثمانينيات بالهجوم الواسع على مفردات الرفاه وظهور ما يعرف بالليبرالية الجديدة التي تدعو إلى الانسحاب الكامل للدولة من الالتزامات الاجتماعية والتحول نحو حرية الأسواق وتوسيع عمليات الخصخصة. وهذا يعطينا تصوراً عن مصير كل الحلول التي يتم اجتراحها للتخفيف من هذا التناقض. هذا هو التناقض الأساسي الذي ينخر النظام الرأسمالي، وهو المولد الدائم للأزمات، وهو الذي يقود الرأسمالية في كل حقبة لاختراع آخر خارجي وهمي لصرف الانتباه عن التناقض والصراع الذي يمور داخل النظام الرأسمالي ويفند دعاوى الواحدية المزعومة.
ويشير سمير أمين أن اختراع الآخر قد تم على خلفية خرافية مفادها "الادعاء بالاستمرارية في تاريخ القارة الأوروبية، وإبداع جذور قديمة وهمية للتضاد بين هذا التاريخ المزعوم وبين تاريخ المنطقة التي تقع على الشواطئ الجنوبية للبحر المتوسط"، هذا هو مضمون التمركز الغربي، وهو مضمون قسم العالم إلى مركز وأطراف، استنادا إلى خرافة الغرب الأبدي المضاد للشرق الأبدي..
الاستشراق وصناعة الآخر الشرقي:
وتابع مجدي ممدوح: ظهر الاستشراق بوصفه الوجه الآخر للظاهرة الاستعمارية، حيث كانت وظيفته تتلخص في تقديم صور نمطية عن الشرق تبرر الظاهرة الاستعمارية، بالإضافة إلى ذلك كان على الاستشراق أن يصنع من الشرق آخر في مواجهة الأنا الغربية ذات الواحدية المزعومة، ولأن الأنا الغربية تمظهرت على شكل عقل، فإن آخرها لا بد أن يكون نقيضها على صورة اللا عقل والخرافة، ولأن الأنا الغربية ديمقراطية، كان لا بد من إظهار الطابع الاستبدادي للشرقي. وقد رسم المستشرق إرنست رينان صورة نموذجية للسامي جعلت منه كائناً غير قادر على التفكير المنطقي والعقلاني والذي اعتبره من سمات الأوروبي فقط.
وقد أشار رينان إلى أن السامي يتسم من حيث الفطرة بالشعور بالوحدة والمطلق الغيبي المجهول، وأنه لا يمتلك القدرة على التحليل والتركيب. وعلى العكس من ذلك، فإن العرق الآري مهياً غريزيا للقيام بعمليات عقلية معقدة تتسم بالتحليل والتركيب وبالتفكير في دقائق وتفصيلات الوجود" 2. وقد أدى هذا إلى تشكل ما يُعرف المركزية الأوروبية والتي تهدف برأي تيزيني إلى "تعرية التاريخ والتراث العربي من كل حلقة فكرية نقدية مهمة كثيراً أو قليلاً وجعلهما تاريخ وتراث الروحانيات والطرق الصوفية والقديسين والخرافات والتصورات الوهمية، أو تاريخ وتراث الملوك العتاة الأجلاف الجهلة، والعوام واللصوص والمفلوكين المجاذيب"3. هذه صورة واضحة من صور إنتاج الآخر كنقيض للأنا لغايات واضحة ومحددة.
كانت المركزية الغربية قد اتخذت صورتها الفلسفية في الفلسفة الهيجلية قبل أن تتبلور في كتابات رينان. فلقد وضع هيجل الشرق بوصفه نقيضا للغرب في كل وجه من أوجه النشاط الإنساني كالفن والأدب والفكر، وحتى الدين. فإذا كان رينان قد أعطى للشرق صفة العبقرية الدينية، فإن هيجل لم يقر بهذه العبقرية، بل اعتبر المسيحية بشكلها الأوروبي هي الدين الحقيقي والتحقق الأرقى للظاهرة الدينية. وقد اتجه الباحثون الغربيون المنضوون تحت لواء تيار الاستشراق لإعادة إنتاج الشرق وفق معايير تخدم المصالح الغربية، حيث بالغ المستشرقون في تصوير الحضارات الشرقية بوصفها قائمة على الوحي الديني، وتصوير الحضارة الغربية بوصفها قائمة على العقل ولا شيء غير العقل.
وتابع مجدي ممدوح: وأصبح الهم الأول للمستشرقين هو محاولة إلصاق كل الصفات الروحية والسحرية والحدسية بالحضارات الشرقية عامة، والحضارة العربية على وجه الخصوص. وقد ظل الغرب يبالغ في كيل المديح لحضارتنا العربية بوصفها مصدر الرسالات السماوية، ومهبط الوحي إلا أن كل هذه المحاولات كانت تهدف إلى خلق آخر نقيض، أخرا لا عقلاني، من أجل تكريس السمة العقلانية الغربية. وقد حاول الكثير من المستشرقين الإيحاء بأن حل أزمة الغرب الحضارية المتفاقمة لا يمكن أن يتم إلا من خلال استلهام الجوانب الروحية الموجودة في الحضارة العربية الإسلامية، واتجه اهتمامهم إلى الممارسات الروحية كالتصوف والزهد، وقد صرح المستشرق رينيه جينون أن على الغرب أن يستلهم الروحانية الشرقية من أجل إنقاذ الحضارة الغربية المقبلة على الانهيار بسبب إفراطها في تغليب الجانب المادي وتجاهل الحياة الروحية. وقد دعا جينون إلى ضرورة أن يبادر بعض المفكرين الغربيين للاتصال بمنابع الحياة الروحية في الشرق من أجل بعث الحياة في الحضارة الغربية المتهالكة، كل ذلك من أجل هدف فقد كان الشرق الإسلامي في عرفه، روحانياً، سامياً، قبلياً، ووحدانياً بصورة جذرية، ولا أدرياً.
تأثر الكثير من المفكرين العرب بهذه الرؤية الاستشراقية واعتبروها من المسلمات، ويشير هشام غصيب على سبيل المثال أن مفهوم العقل البياني الذي صاغه محمد عابد الجابري هو مفهوم مغرض، لأنه يؤبد الصورة النمطية التي أنتجها الغرب للعقل العربي فهو بياني أخلاقي في جوهره، ولا يمكن له أن يتطور ويتقدم إلا بالعلاقة مع العقل البرهاني الأوروبي، إنه لا يتطور بذاته لأنه عقل تفسيري بياني في أساسه، لكنه يتطور بغيره.
تنبه إدوارد سعيد إلى عمليات الإنتاج التي قام بها الاستشراق من أجل خلق الشرق النقيض للغرب وتحميله كل التناقضات التي كانت تمور في ساحة العقل الغربي في القرن التاسع عشر. ولم يتورط كارل ماركس والماركسيون عموماً في هذه اللعبة التلفيقية، ولم يشتركوا في عمليات الإسقاط والانزياح التي مارسها المستشرقون، بل أن ماركس شخص بصورة محايدة الآخر النقيض، ونبه أنه قابع في صميم الأنا الغربية وليس خارجها. لقد قال ماركس في تنظيراته أن الآخر النقيض المتخفي هو النقيض الطبقي، الذي لا يمكن أن يكون منضوياً تحت أنا واحدية". والطريف أن ميشيل فوكو كشف عن آخر متخفي في ثنايا العقل الغربي ظل هذا العقل يخفيه طوال تاريخ الحداثة، ودأب منذ اللحظة الديكارتية على طمسه ومصادرته وعدم الاعتراف بوجوده، أو نزع المشروعية عنه. فلقد أوضح فوكو في كتابه "تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي" أن المجتمعات الغربية أنكرت الجنون بوصفه الحالة المناقضة للعقل، وسلبته الحق في الوجود. وكان الطب النفسي الكلاسيكي في الغرب يسم كل اختلاف بالجنون. ولكن هذا الآخر اللاعقلاني (المختلف)، والذي ألصق زورا وبهتانا بالآخر الشرقي، كان على الدوام موجوداً داخل ساحة العقل الغربي، وطوال تاريخ الحداثة والمفارقة الهائلة التي كشف عنها أحد دارسي فوكو أن كتابه السابق قد تزامن صدوره مع انفصال الجزائر عن فرنسا ونيلها الاستقلال في عام 1962، وهذا يمثل لحظة سقوط الآخر الملفق الذي تم استعماره بوصفه النقيض اللا عقلاني المتخلف المستبد الذي لا يستطيع أن يحكم نفسه بنفسه.
يشير الجابري إلى تبدلات مهمة في الآليات التي يتم وفقها صناعة الآخر في الغرب، فإذا كان الفكر الرأسمالي الغربي طوال الحرب الباردة ظل يضع الآخر بوصفه آخرا ايدولوجيا، فإن هذا الآخر قد تبدل ليتخذ صورة أخرى هي صورة الآخر الحضاري. هكذا فجأة، وبعد سقوط الاتحاد السوفييتي حامل الأيديولوجيا الشيوعية، تحول الفكر الرأسمالي ليتبع معياراً جديداً في التصنيف، والذي قاد إلى إنتاج آخر مختلف (عدو مختلف، وينوه الجابري بأن انهيار المعسكر الاشتراكي قد أحدث خلطاً كبيراً بين فضاء الأنا وفضاء الآخر بعد أن اختفت الثنائية الضدية التي كانت تتغذى على العالم ذي القطبين أشار هنتنغتون إلى أن الصراع القادم سيكون بين الحضارة الغربية من جهة، والحضارتين الإسلامية والكونفوشية من جهة أخرى، وهكذا ينبه الجابري بأن صناعة الآخر أصبحت تتم وفق معايير تلفيقية، حيث يتم اعتماد الدين تارة، وتارة أخرى يتم اعتبار الموقع الجغرافي، كما هو في الحضارة الإفريقية، ثم بعد ذلك يتم القفز إلى معيار متهافت هو المعيار الحضاري. وهذا يثبت أن المعايير التي يتم وفقها صناعة الآخر هي معايير ديناميكية يستطيع الفكر الرأسمالي أن يسخرها بالطريقة التي يشاء من أجل مصالحه الخاصة. فما أن يحدد الفكر الرأسمالي "آخرَ" مستهدفاً، حتى يبادر إلى إيجاد المبررات المختلفة والمعايير الملفقة من أجل تكريسه وإسقاط كل التناقضات والأزمات التي تمور في ساحة الرأسمالية عليه.
واستكمل مجدي ممدوح: يشير الجابري إلى أن هنتنغتون "لا يستعمل الدين كمقياس للتمييز بين الحضارات إلا بالنسبة للإسلام وحده، أما الحضارات الأخرى فهو ينسبها إلى شيء آخر غير الدين، فالكونفوشية ليست ديناً، بل هي فلسفة أخلاقية وسياسية، أما الديانة السائدة في الصين فهي البوذية، تليها الطاوية، علاوة على ذلك، فإن الكونفوشية منتشرة أيضاً في اليابان، وهذا يثبت التخبط العشوائي في طريقة صناعة الآخر، والتخبط في سوق المبررات وفق معايير متهافتة من أجل هدف غائي مغرض ومعد سلفاً. ويمكن ملاحظة أن نظرية صدام الحضارات التي أنتجها هنتغتون تعتبر من أسوأ نتاجاته الفكرية، والتي من الواضح أنها أعدت عجل. فمن المعروف عن صموئيل هنتجتون أنه كان يمتاز بالتماسك المعرفي والمنهجي والرصانة البحثية قبل إطلاق مقولته الأخيرة حول صدام الحضارات والتي من الواضح أنها خرجت بناء على طلب من الدوائر الاستخبارية والسياسية الأمريكية.
وقال مجدي ممدوح: إن الظرف التاريخي الذي قاد الفكر الرأسمالي إلى سياسته المتمثلة بتصدير أزماته إلى ساحة الآخر ما زالت قائمة، وما زال الفكر الرأسمالي يحتاج إلى فبركة آخر جديد في كل حقبة تاريخية، لأن أزمة الرأسمالية غير مرتبطة بحقبة تاريخية محددة، فهي أزمة ممتدة؛ لأنها أزمة بنيوية كما أوضح ماركس والكثيرون من نقاد الرأسمالية. وفي الوقت الذي يتجه فيه الفكر القاري الأوروبي إلى طرح فلسفات التواصل والحوار، فإن الإمبريالية الأمريكية ما زالت منخرطة في صناعة أعداء جدد في كل عقد جديد. إن التوجهات الأوروبية بالانفصال عن السياسة الأمريكية ربما تقود إلى إحداث شرخ داخل النظام الرأسمالي. فالإمبريالية الأمريكية التي يقودها الليبراليون الجدد اليوم تنفذ أوسع عملية نهب للأطراف من خلال الاقتصاد النقودي الذي أضر حتى بالمصالح الأوروبية، ويبدو أن ظاهرة العولمة، والتي كان يفترض أن تقود إلى عالم أكثر تواصلًا، قد أدت إلى إعادة تكريس المركز، ولكن بعد أن أصبح هذا المركز عولمياً
الاستشراق المعكوس:
قال مجدي ممدوح: إذا كان الاستشراق قد استطاع بنجاح كبير خلق آخر شرقي كنقيض للأنا الغربي، فإن نوعاً من الاستشراق المعكوس ظهر في الفكر العربي المعاصر كنوع من رد الفعل تجاه الظاهرة الاستشراقية. وقد صنف صادق جلال العظم فكر الإسلام السياسي ضمن الاستشراق المعكوس. يستخدم العظم مسمى الإسلامانيين لنعت المنضوين أو المتعاطفين مع تيار الإسلام السياسي. ويشير إلى أن هذا التيار والذي نحى المنحى السلفي قد اشتد عوده بعد نجاح الثورة الإيرانية التي أعطت زخماً جماهيرياً كبيراً لظاهرة الإسلام السياسي. وقد استقطبت هذه الظاهرة طيفاً واسعاً من الذين فقدوا الأمل من الحركات اليسارية والقومية والراديكالية. ويلخص العظم الأطروحة الأساسية التي قامت عليها هذه الظاهرة بالقول: لا يكمن الخلاص الوطني الذي ظل العرب يبحثون عنه في القومية العلمانية بأشكالها الراديكالية أو الليبرالية أو المحافظة، كما أنه لا يكمن في الشيوعية أو الاشتراكية الثورية أو ما شابه ذلك من النظم والدعوات، بل في العودة إلى الأصالة الإسلامية وبخاصة كما تتجلى في الإسلام الشعبي المسيس.
كان جورج قرم قد شخص هو الآخر هذه العلاقة الوثيقة بين الاتجاه الإسلاماني وظاهرة الاستشراق. يقول جورج قرم وقد دهشت خلال قراءاتي للمستشرقين وللأدب الإسلامي السلفي الحديث بالتقاء الرؤية لدى الجانبين المتعاديين حول نقطة واحدة هي الادعاء بأن الدين الإسلامي له خصوصية لا يشاركه فيها أي دين آخر لكون الدين الإسلامي لا يمكن أن ينفصل عن الحياة الاجتماعية والقومية والسياسية.
وأضاف مجدي ممدوح: علينا الانتباه أن هذا الرأي في الإسلام هو رأي سلبي ولا ينم عن حسن نية من جانب المستشرقين؛ حيث يرون أن المجتمعات الإسلامية ستظل قابعة تحت التصورات الدينية دون أدنى أمل بالانتقال إلى الحداثة لسبب جوهري هو أن الإسلام يشكل بديلاً عن أي حداثة محتملة هكذا تفهم عبارة جورج قرم. ومن الواضح أن العظم قد فهمها على هذا النحو، وأدرك العلاقة الوثيقة بين الاستشراق والظاهرة الإسلامانية، ولهذا السبب تحديداً ينعتها بالاستشراق المعكوس.
من الملاحظ أن المعسكر الاشتراكي نال النصيب الأكبر من الكراهية والعصبية من قبل حركات الإسلام السياسي، وخاصة السلفية منها، لأنها تعتقد أن الشيوعية والاشتراكية تشكلان ظاهرة الكفر الصريح الذي لا يحتاج إلى أدلة. وإذا كان أقطاب الإسلام السياسي المعاصر قد تعاملوا مع الغرب من منطلقات ميتافيزيقية لا تاريخية باعتبار أن الغرب يضم أمماً ممن وصفهم القرآن بأهل الكتاب الذين يجوز التحالف أو عقد المعاهدات معهم، فإن الوضع بخصوص المعسكر الاشتراكي كان يحتم العداء والحرب التي لا مجال فيها للتسامح والمهادنة. وأقطاب الإسلام السياسي كانوا يتجاهلون الحقائق التاريخية التي تشير إلى التقاء المصالح بين أمة العرب وأمم المعسكر الاشتراكي؛ حيث أن العدو الرأسمالي الغربي هو الذي نهب ولا يزال ثروات الوطن العربي. ولا بأس من التذكير بالحادثة المعروفة عن الشيخ متولي الشعراوي أحد أقطاب التيار الديني، والذي صرح في تلفزيون القاهرة في برنامج من الألف إلى الياء الذي يخرجه طارق حبيب، من أنه سجد لله ركعتين فور علمه بالهزيمة العربية الكبرى في حرب حزيران (يونيو) 1967 لأننا لم ننتصر، ولما سأله ابنه كيف تشكر الله على هزيمة الوطن، أجاب الشيخ الوطني الجليل، لو كنا انتصرنا يا ولدي لكنا فتنا في ديننا من الشيوعية.
ويتضح من ذلك أن الإسلام السياسي ظل يلعب دوراً معوقاً في طريق إنجاز الحسم الثوري؛ وظل الإسلام السياسي مدعوماً بقواعده الجماهيرية الواسعة يحبط كل عمليات التحول الثوري ويجر المجتمع إلى الأصولية والأيدولوجيا وإجهاض كل التوجهات العلمانية. وقد شهدت الحركات العلمانية نشاطاً ملحوظاً في فترة ما بين الحربين، وكانت تؤشر في مجملها إلى قرب التحولات العلمانية خاصة في المجتمع المصري. ولكن..
اللافت أن هذا الحراك العلماني قد خفت في الأربعينيات وعاد أقطابه إلى الحلول التوفيقية التي تهادن الظاهرة الدينية.
واستكمل مجدي ممدوح: إن ما أوردناه سابقا يؤكد العيب الأساسي الذي تعاني منه الأغلبية الساحقة من حركات الإسلام السياسي، وهو الاحتكام إلى المعايير الميتافيزيقية في الحكم على القضايا المختلفة، وعدم الأخذ بعين الاعتبار المصالح الحقيقية للأمة العربية. حيث تحولت الأيديولوجيا الدينية إلى عقيدة متعالية على كل الشروط التاريخية وأصبح المجتمع بأكمله، بما في ذلك مصالحه وتاريخه وحاضره في خدمة العقيدة الدينية، بدلاً من أن تكون هذه العقيدة في خدمة مصالح المجتمعات العربية والمواكبة لطموحاتها وتطلعاتها المستقبلية. ثمة شكل من أشكال الاتفاق بين الظاهرة الاستعمارية والإسلام السياسي حول إبقاء الوطن العربي خارج منجزات عصر الأنوار. وقد روى المفكر السوري القومي زكي الأرسوزي أن السلطات الفرنسية منعته من تدریس مبادئ التنوير التي تعلمها في جامعة باريس في المدارس السورية، وأنها بينت له بوضوح أن الثورة الفرنسية والتنوير والحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان والمساواة والأخوة أشياء ممتازة كلها في أوروبا ولكنها غير معدة إطلاقاً للتصدير إلى الشعوب المستعمرة، كما أنها لا تصلح للبلدان الخاضعة. ويبدو أن هذه السياسة الغربية ظلت سياسة راسخة في التعامل مع شعوب الوطن العربي، وظلت تشجع كل ما هو عتيق وبال وتتحالف مع القوى الرجعية في الوطن العربي، وظلت تعمل بشكل دؤوب على تعزيز الأساطير والخرافات حول سحر الشرق وروحانياته ومعجزاته. وهذه الصورة هي المحبذة أيضاً لدى الجماعات السلفية. وبهذا تلتقي الظاهرة السلفية والظاهرة الاستعمارية حول الأهداف.
إن الإسلام السياسي يتعامل مع الآخر الغربي بوصفه النقيض الحضاري للشرق العربي الإسلامي، ولا يوجد لدى الإسلام السياسي أية معايير تاريخية في استجلاء العلاقة مع الغرب. فالغرب برأيهم عدو لأنه غرب، وليس بوصفه إمبريالياً. إن إبراز الظاهرة الإمبريالية وإعطاءها المركز الأول في التحليل السياسي، يعني بصورة من الصور استبعاد الماركسية والشيوعية والإتحاد السوفياتي من لعبة المجابهة الحضارية المستمرة بين الشرق والغرب. إن الحديث الدائم عن صراع أزلي بين الشرق والغرب هو طرح لا تاريخي، والأصح أن يتم طرح هذا الصراع من منظور تاريخي ابتدأ بتشكل الطبقة البرجوازية وتبلور طموحاتها وأطماعها في منطقتنا وحتى لو أردنا الرجوع في الصراع الأزمنة أقدم فعلينا مراعاة الجانب التاريخي في كل الدعاوى التي نسوقها. إن النظرة الميتافيزيقية التي تبناها الإسلام السياسي أدت إلى وضع المعسكر الاشتراكي الصديق في سلة واحدة مع الإمبريالية الغربية، لأنه في نظر السلفيين لا يعدو عن كونه غرباً. وهنا تكتمل دائرة النقد الموجهة لظاهرة الفصل الأنطولوجي بين الشرق والغرب والتي تبنتها الظاهرة الاستشراقية المتحالفة مع الظاهرة الاستعمارية، وكذلك تبنتها لاحقاً الظاهرة السلفية على شكل استشراق معكوس، ما أدى إلى نتائج مغلوطة في تقييم المصالح، بالإضافة إلى العجز الكامل عن فرز الأعداء والأصدقاء. وقد وقع الإسلام السياسي في مغالطة شنيعة عندما وضع الاتحاد السوفييتي واليابان وكوبا في خانة الغرب.