وهذه الآراء ليست جديدة في الحقيقة؛ لكن الجديد أن يتبنَّاها علي جمعة. وللعلم، فإن هذا الرجل قد تولَّى منصب الإفتاء في مصر على مدى عشر سنوات، من 2003 إلى 2013، وهو متخرج في الأزهر، وعضو في مجمع البحوث الإسلامية التابع للأزهر، وشخصية نافذة وذات شعبية، فضلاً عن علاقاته بالسلطة المصرية الحالية. وكان قد أبدى موقفاً نقدياً من حكم الإخوان المسلمين، كما يُعرف عنه تشبثه بالمذهب الأشعري في كل مراحل حياته، خلافاً للكثيرين الذين مالوا إما إلى السلفية وإما إلى الإخوانية. وهو يشترك مع الشيخ أحمد الطيب، الذي سبقه في هذا المنصب، وهو شيخ الأزهر حالياً، في الانتماء إلى أسرة ذات جذور صوفية. وهذا ما قد يفسِّر بعضَ مواقفه المنفتحة رغم صلابته العقدية، فهو أيضاً الشخص الذي صرَّح بقوة بعد الثورات العربية بمناهضته فكرة الديمقراطية باعتبارها فكرة غربية لا يمكن أن تنجح في وسط إسلامي، مع أنه اشتهر في عهد حسني مبارك بفتوى تحريم توريث الحكم، وقد اعتبرت، آنذاك، إشارة إلى مشروع نقل الحكم لابن الرئيس الذي خلعته الثورة لاحقاً.
أكاد أجزم أن المؤرخين سيكتبون بعد عقود أن التصريح الذي قال به جمعة، في بداية رمضان، خطوة من الخطوات البطيئة جدّاً التي شهدها الإسلام في العصر الحديث؛ للتخلص من عقيدة جهنم أو على الأقل التخفيف من حضورها في الحياة اليومية للمسلمين، كما هو الشأن لدى أتباع الأديان الأخرى التي شهدت هذا التطوُّر. فاليهودية التي أدخلت في فترة متأخرة من تاريخها عقيدة جهنَّم، متأثرة بالديانة البابلية أو الفرعونية، تخففت منها في العصر الحديث، وألغتها اتجاهاتها الأكثر ليبرالية. والمسيحية الكاثوليكية لئن لم تتخلَّص منها كلياً؛ فقد خففت كثيراً من حضورها. وأغلب التيارات اللاهوتية البروتستانتية قد حسمت أمرها في هذا الموضوع منذ عقود.
وسيكون هذا مسار الإسلام أيضاً في يوم ما، لأنه ليس من المعقول أن يواصل الخطباء في كل صلاة جمعة مخاطبة المسلمين بطريقة الترغيب والترهيب التي هي طريقة مستعملة للأطفال، بل تجاوزها الأطفال في العصر الحديث، وهي من مخلفات عصر الطفولة الإنسانية ولم تعد تليق بالإنسان اليوم، وقد بلغ مستوى من التطور الحضاري يفترض أن يتعالى به من أن يعامل بسياسة العصا والجزرة.
والحقيقة أن مسألة حقيقة جهنَّم قد طرحت في الفكر الإسلامي منذ بداياته الأولى. على سبيل المثال، نذكر أن إخوان الصفا الذين عاشوا في القرن الثالث الهجري (العاشر ميلادي) عدُّوا جهنَّم من العقائد الفاسدة، وقالوا إن الإنسان الذي يعتقد أن العالم قديم (الفلاسفة الماديون) أو الإنسان الذي يعتقد أن الناس سيرمون في الآخرة إلى جهنم (المتدينون المحافظون) يشتركان في أنهما لن يعرفا السكينة.
بينما الإنسان الذي يؤمن بوجود خالق حكيم للكون رحيم بعباده لا يتلذذ بتعذيبهم، يعيش في طمأنينة وسكينة. وصرَّحوا بأنه لن يخلَّد أحد في الشر المطلق الذي هو نار جهنم. لأن خلق الله لإنسان ثم تخليده في جهنم يتنافى أولاً مع صفة الرحمة فيه، ويتنافى خاصة مع صفة الحكمة؛ إذ لا حكمة في التعذيب إذا لم يؤدِّ إلى نتيجة. فلماذا يخلق الله بشراً ثم يرمي بهم في النار؟ إنها وضعية عبثية لا يمكن أن تقبل من إله حكيم. وقد أوَّل إخوان الصفا القيامة بأنها توقف دوران الفلك بانقطاع النفس الكلية عنه. وأوَّلوا الجنة بأنها عالم الروحانيات والأرواح، وهو عالم الأفلاك والكواكب. وأوَّلوا جهنم بأنها عالم الأجسام الذي تحت فلك القمر. وأوَّلوا طبقاتها السبع المذكورة في القرآن بأنها الأركان الأربعة (النار والهواء والماء والطين) مع المولّدات الثلاثة (المعدن والنبات والحيوان)؛ أي مجموع مكونات عالم الكون والفساد. وأوَّلوا أبوابها السبعة بأنها الكواكب السبعة السيارة. وشدَّدوا على أن جهنم لا يمكن أن تكون خندقاً يُرمى فيه بالكفار، فهذه الصورة لا تليق بالله الغفور الرحيم المنزَّه عن الحقد. وشدَّدوا أيضاً على أن الجنة ليست مكاناً للذات المادية التي تتنافى مع المقام الروحاني للنفس، بعد أن تنفصل عن المادة.
وكما ذكرنا، صنّف إخوان الصفا من المعتقدات الفاسدة تلك التي تجعل الإنسان يعيش على الخوف؛ مثل عقيدة عذاب القبر وسؤال منكر ونكير، أو تصوُّر أن الله يرمي بالناس في النار يوم القيامة وهو الغفور الرحيم. وفي فلسفة إخوان الصفا، لا مكان للبعث الجسماني، وإن تفادوا الخوض المفصّل في هذا الموضوع. ذلك أن الأجساد لا تنتمي إلى عالم الروحانيات؛ فلا يمكن أن تلتحق به. فإذا ما سئلوا عن الآيات الكثيرة في القرآن التي تصوّر بعثاً جسدياً، في الجنة أو في النار، أجابوا بأن تلك الصور القرآنية كانت ضرورية لإقناع عرب الجزيرة، وهم "أميون غير مرتاضين بالعلوم"، فخاطبهم الدين بما يفهمون؛ لأن بعث الأجساد أقرب إلى تصورهم من بعث النفوس، فتصوُّر ما هو متعلِّق بالمحسوس أسهل من تصور ما هو متعلق بالمجرَّد. فمهمة الجسد تنتهي في الحياة الدنيا، من حيث هو وعاء للنفس كي تحصّل فضائلها وترتقي إلى العالم العلوي. ومع ذلك، أوصى إخوان الصفا بأن لا يصرِّح بهذه الفكرة للعامة، ليس بسبب التقيّة، ولكن لسبب أخلاقي بحت. فهي فكرة قد تدخل في نفوس هؤلاء بذور الشك في الدين، وتدفعهم إلى التخلي عن الواجبات الأخلاقية الدينية. فالأولى حينئذ أن يبقوا على عقائدهم البسيطة؛ لأن الإيمان بالبعث الجسماني حافز أخلاقي لديهم. "فهذا الرأي والاعتقاد جيد للنساء، وللصبيان، والجهال، والعوام، ومن لا ينظر في حقائق العلوم ولا يعرفها"، كما كتبوا في إحدى رسائلهم (ومع الأسف، كان موقفهم من المرأة محافظاً رغم جرأته في مواضيع كثيرة أخرى، كما هو واضح من هذه العبارة).
وبعد إخوان الصفا، دافع العديد من الفلاسفة، ثم خاصة الصوفية، على هذا الموقف، بعبارات صريحة حيناً، ورمزية إشارية في أغلب الأحيان. لكن لا شيء من هذه الآراء اخترق العقائد السائدة للمسلمين. والذين تحرروا من هذا الموضوع؛ إما أنهم لم يجرؤوا على نشر رأيهم على نطاق واسع، وإما أنهم قدَّروا، مثل إخوان الصفا، أن الأفضل أن يبقى هذا الرأي في مستوى النخبة؛ لأنه مستند لأخلاق "العامة" لا يصحّ التفريط فيه. ولكننا نعيش عصراً لم يعد مقبولاً فيه تقسيم الناس إلى خاصة وعامة، ولا الأغلبية فيه "أميون غير مرتاضين بالعلوم". ومع ذلك، فإننا ما زلنا لم نصل بعد إلى مستوى ما قاله إخوان الصفا في القرن الثالث، فضلاً عن تجاوزه وتحويله إلى رأي شائع بين المسلمين.
من هنا، يبدو لي تصريح علي جمعة لافتاً ومهماً. فهو قد اتجه إلى إعادة فتح الموضوع، ولا شكّ أن لجذوره الصوفية دخلاً في هذا الموضوع. لكن المهم أنه سعى إلى تبريره من منطلقات أشعرية بحتة. ذلك أن الأشاعرة قالوا منذ القديم إن الله يفعل ما يريد يوم القيامة، مخالفين بذلك عقيدة الوعد والوعيد المعتزلية التي تفرض أن يفي الله بما وعد به من خيرات وما توعد به من عقاب. وهذه الصرامة الأخلاقية المعتزلية هي التي انتقدها الشاعر أبو نواس، في أبياته المشهورة التي يهجو فيها النظّام، أحد كبار شيوخ الفرقة:
فَقُل لِمَن يَدَّعي في العِلمِ فَلسَفَةً
حَفِظتَ شَيئاً وَغابَت عَنكَ أَشياءُ
لا تَحظُرِ العَفوَ إِن كُنتَ اِمرَأً حَرِجاً
فَإِنَّ حَظرَكَهُ في الدينِ إِزراءُ
لكن لم يعرف أن المعتزلة والأشاعرة قد خاضوا في مسألة الوجود الحقيقي لجهنم. ولم يكن خيار الأشاعرة في هذا الموضوع إلا محاولة لإثبات الإرادة الطلقة للإله الذي يفعل ما يريد بعباده ولا يلزمه شيء حتى ما سبق أن صدر عنه. ومن هنا وجد علي جمعة ثغرةً يدخل منها إلى مراجعة عقيدة جهنم دون أن يخرج من الأشعرية؛ بل بالعكس، انطلق من هذا المبدأ الذي خالفت به المعتزلة للدفاع عن فكرة جديدة وجريئة، لم ينجح الفلاسفة والمتصوفة قديماً في إقناع أغلبية المسلمين بها.
ويبقى السؤال: هل ينجح علي جمعة، الأشعري الصلب، في تحقيق ما لم يتحقق في السابق، أم هو تصريح على مثال "البوز" في وسائل التواصل الاجتماعي، قصد به حشد المتابعين للبرنامج التليفزيوني لا غير؟ اعتقادي أن الأمر أعمق من ذلك وأنه يحتاج إلى متابعة دقيقة. وهو في كل الحالات دليل على أن الإصلاح الديني في الإسلام سيفرض نفسه عاجلاً أم آجلاً، وأن أكثر المحافظين بدؤوا يتزحزحون عن مواقفهم؛ لإدراكهم هذا المعطى الجديد، بل ربما أصبحوا راغبين في إثبات تأهلهم لحسم العديد من المسائل الشائكة، حسب المثل العربي القائل "بيدي لا بيد عمرو"؛ لأن التجديد قادم لا محالة.