الإسلام وَفق الدراسة اللسانية التدبرية للقرآن الكريم | د. يوسف فؤاد أبو عواد

القرآن الكريم
القرآن الكريم

الجزء الأول


في مقالنا السابق وضحَّنا أهمية الالتزام بالمنهجية اللسانية العربية في فهم القرآن الكريم؛ تلك المنهجية التي دعا إليها القرآن نفسه، وبيَّن أنها الطريق الصحيح لفهم رسالته.

وسنفصِّل في هذه المقالة الأثر البالغ لفهم دلالة كلمة (الإسلام)؛ انطلاقاً من القواعد اللسانية في فهم النص، مقارنين ذلك بالصورة المنتشرة لدى عامة المسلمين قديماً وحديثاً عن مفهوم الإسلام، تلك الصورة التي تولَّدت من جعل الظنِّي حَكَماً على القطعيّ، وتقزيم المفهوم الكبير للكلمة بسبب هذا الخطأ المنهجي الجسيم.

ولعلّ أفضل ما نبدأ به خوض غمار بحثنا هذا هو قوله تعالى: ﴿إِنَّ ٱلدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلۡإِسۡلَٰمُۗ وَمَا ٱخۡتَلَفَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ إِلَّا مِنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلۡعِلۡمُ بَغۡيَۢا بَيۡنَهُمۡۗ وَمَن يَكۡفُرۡ بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ فَإِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلۡحِسَابِ19﴾آل عمران، بالاقتران مع قوله تعالى في السورة نفسها: ﴿وَمَن يَبۡتَغِ غَيۡرَ ٱلۡإِسۡلَٰمِ دِينًا فَلَن يُقۡبَلَ مِنۡهُ وَهُوَ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ مِنَ ٱلۡخَٰسِرِينَ85﴾آل عمران. وتُبرِز هاتان الآيتان بما هما إعلان صريح بأن الدين عند الله الإسلام وأنه لن يقبل غيره أهمية تحديد المفهوم الدقيق لكلمة (الإسلام) تحديداً ينطلق من أُسس اللسان العربي المبين الذي نزل به القرآن الكريم.

إن مفهوم الإسلام تشكَّل لدى معظم المسلمين قديماً وحديثاً بأنه الشهادتان والصلاة والزكاة والصيام والحج، وهو مفهوم قائم على تفسير غير لساني للمفردة اعتماداً على حديث مروي، وليس المقصود هنا إبطال الحديث، ولكنّ المقصود إظهار الفرق بين المنطلق اللساني في فهم المفردة وانعكاسه على المعنى أولاً، وتطبيقاته على الواقع ثانياً، وبين تقزيم الدلالة اللسانية لمفردة (الإسلام)؛ بسبب جعل الرواية حاكمة عليها عوضاً عن إدراج ما دلت عليه الرواية ضمن معنى المفردة العام والكبير -إنْ أمكن ذلك-. 

إن المنهجية التي رسمنا خطوطها العريضة في المقال السابق تفرض علينا أن ندرس استخدامات هذه المفردة في النص القرآني الحكيم حيثما وردت، وقرْن ذلك بمعناه المعجمي الشامل العام بقدر عموم المفردة، ثم النظر في سياقها النصِّي الذي وردت فيه في الحديث عن الدين، والخلوص للنتيجة النهائية بعد كل ذلك.

إن النظر في مشتقات كلمة الإسلام وتصريفاتها في النص القرآني الحكيم يبدأ بتتبع الأصل اللساني للكلمة، وهو (سلم)، وقد ورد هذا الأصل في قوله تعالى: (وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ 61) الأنفال، ولعلّه من نافلة القول ذكر أن ذلك جاء في مقابلة الكلام على الحرب، فقد ابتدأ السياق بقوله تعالى: (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ 55 الَّذِينَ عَاهَدتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ 56 فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ 57 وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَىٰ سَوَاءٍ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ 58 وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا ۚ إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ 59 وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ 60 وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ 61) الأنفال، وهذه الآيات فيها معانٍ كثيرة عند التأمُّل؛ تختلف بقدر كبير أو قليل عمّا هو دارج في عامّة كتب التفسير، وليس هذا موضع بسط الكلام في ذلك، لكنّ شاهدنا هنا هو إثبات أن السِّلم مضاد للحرب وما يرافقها من التشريد والإرهاب وغيره، وهذا المعنى الذي ذكرناه يؤكده تمام التأكيد قوله تعالى: (وَلَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ لَسَلَّطَهُمۡ عَلَيۡكُمۡ فَلَقَٰتَلُوكُمۡۚ فَإِنِ ٱعۡتَزَلُوكُمۡ فَلَمۡ يُقَٰتِلُوكُمۡ وَأَلۡقَوۡاْ إِلَيۡكُمُ ٱلسَّلَمَ فَمَا جَعَلَ ٱللَّهُ لَكُمۡ عَلَيۡهِمۡ سَبِيلٗا 90) النساء، فأنت تلاحظ كيف جعل إلقاء السّلم مقابلًا للقتال ومعزّزاً ومبيّناً عن الامتناع عن القتال.

والآن يمكننا أن ننتقل خطوة للأمام؛ حيث سنرى استخداماً آخر للأصل الثلاثي للكلمة يشكِّل حلقة وصل بين المعنى الذي ذكرناه أعلاه والمعنى الذي سيظهر لنا لاحقاً عن مفهوم دين الإسلام، أعني بذلك قوله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱدۡخُلُواْ فِي ٱلسِّلۡمِ كَآفَّة وَلَا تَتَّبِعُواْ خُطُوَٰتِ ٱلشَّيۡطَٰنِۚ إِنَّهُۥ لَكُمۡ عَدُوّ مُّبِين 208﴾البقرة ، وإنْ أردت أن تفهم المعنى بشكل أدقّ فارجع إلى السياق السابق للآية، ﴿وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُعۡجِبُكَ قَوۡلُهُۥ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَيُشۡهِدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلۡبِهِۦ وَهُوَ أَلَدُّ ٱلۡخِصَامِ 204 وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي ٱلۡأَرۡضِ لِيُفۡسِدَ فِيهَا وَيُهۡلِكَ ٱلۡحَرۡثَ وَٱلنَّسۡلَۚ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلۡفَسَادَ 205 وَإِذَا قِيلَ لَهُ ٱتَّقِ ٱللَّهَ أَخَذَتۡهُ ٱلۡعِزَّةُ بِٱلۡإِثۡمِۚ فَحَسۡبُهُۥ جَهَنَّمُۖ وَلَبِئۡسَ ٱلۡمِهَادُ 206 وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشۡرِي نَفۡسَهُ ٱبۡتِغَآءَ مَرۡضَاتِ ٱللَّهِۚ وَٱللَّهُ رَءُوفُۢ بِٱلۡعِبَادِ 206﴾ البقرة، فإنك ستجد الحديث عمّن يعجبك قوله في الحياة الدنيا، ولكنَّه ألد الخصام يفسد في الأرض ويهلك الحرث والنَّسل، يقابله مَن يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله، وقد جاءت الآية محلّ الشَّاهد بعد ذكر هذين الضّدين، وهي بذلك تطلب من الذين آمنوا أن يجتنبوا سلوك الفريق الأوّل اللدود الخصام المفسد في الأرض ومهلك الحرث والنّسل، ويلتزموا نهج الفريق الآخر الذي يبيع نفسه (أي: رغباتها وشهواتها) طلباً لمرضاة الله (أي: يسلك بها سبيلاً يتَّفق مع سُنن الله في الكون القائمة على الإصلاح والمحافظة على سلامة الحرث والنَّسل وتنميته وتطويره) وهذا ما يفهم من دلالة المقابلة بين الفريقَين؛ ولذلك أكد المعنى فقال: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱدۡخُلُواْ فِي ٱلسِّلۡمِ كَآفَّة﴾ أي سيروا متماهين مع جميع سنن الله، ﴿وَلَا تَتَّبِعُواْ خُطُوَٰتِ ٱلشَّيۡطَٰنِۚ إِنَّهُۥ لَكُمۡ عَدُوّ مُّبِين﴾ وذلك بما يدعو إليه الشّيطان من مخالفة لسنن الله تعالى، وهو بذلك عدو للناس من حيث يظنون أنه يدعوهم لما يسعدهم، فالناتج النهائي عن الاستجابة لدعواه هلاك الناس.

وقد ضرب القرآن الكريم مثلاً مجليًّا للمعنى الكبير للسِّلم ضدّ الشِّرك، فأبان من خلاله لماذا يُعد الشِّرك نقيضاً له، وذلك في قوله تعالى: ﴿ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَٰكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلۡ يَسۡتَوِيَانِ مَثَلًاۚ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِۚ بَلۡ أَكۡثَرُهُمۡ لَا يَعۡلَمُونَ 29﴾الزمر، فالصّورة الثانية تبيِّن لك كيف أن مفهوم السِّلم يعني الانسياب التام لحكم ما دون أدنى مشاكسة، وهذا يجعلك تفهم أن الشرك يجعل صاحبه يضع من الافتراضات ما ليس بسنّة لله في خلقه، ثمّ يخضع لهذه الافتراضات التي نسبها إلى شريك افتراه بلا علم، فيتولد عن ذلك مشاكسة ومناقضة لسنن الله القائمة على ما ذكرنا من الإصلاح والتنمية والتطوير، فكل سير على غير وفقها سيقود بالضرورة إلى الفساد والهلاك.

وقبل أن نصل إلى مربط الفرس في بحثنا هذا، وهو مفهوم الإسلام المشتق من الفعل الرباعي المزيد (أسلم)، ولا ريب أن المعنى الذي شرحناه لأصله اللساني (سلم) سيساهم بشكل كبير في الوصول للمعنى الدقيق له، قبل ذلك، لعلَّك أيها القارئ الكريم ستفهم لأول مرة قوله تعالى: ﴿أَفَنَجۡعَلُ ٱلۡمُسۡلِمِينَ كَٱلۡمُجۡرِمِينَ 35﴾القلم،  وتعرف السرّ في مقابلة الإسلام بالإجرام، باعتبار الأول تماهياً مع السنن لا ينتج إلا خيراً وصلاحاً، والثاني سير عكس تيّار الخلق، فهو بالضرورة إجرام، ولعلك كذلك تفهم لأول مرّة أيضاً قوله تعالى في حق قوم لوط: ﴿فَأَخۡرَجۡنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ 35 فَمَا وَجَدۡنَا فِيهَا غَيۡرَ بَيۡت مِّنَ ٱلۡمُسۡلِمِينَ 36﴾الذاريات، فقد كان عامّة القوم شاكسوا سنّة الله القائمة على أن تقوم العلاقة الجنسية بين الذكر والأنثى فاكتفى الذّكور بالذّكور، وذلك سيؤدي بالضرورة الحتمية إلى أن تلجأ الإناث للإناث أيضاً، ولم يبق في القوم مسلم لسنّة الله الطبيعية في هذا المضمار إلا بيت واحد، كما أنه سيتجلَّى لك الآن معنى ربّما حيّرك لسنوات طويلة، وهو قوله تعالى: ﴿قُل لِّلۡمُخَلَّفِينَ مِنَ ٱلۡأَعۡرَابِ سَتُدۡعَوۡنَ إِلَىٰ قَوۡمٍ أُوْلِي بَأۡس شَدِيد تُقَٰتِلُونَهُمۡ أَوۡ يُسۡلِمُونَۖ فَإِن تُطِيعُواْ يُؤۡتِكُمُ ٱللَّهُ أَجۡرًا حَسَنًاۖ وَإِن تَتَوَلَّوۡاْ كَمَا تَوَلَّيۡتُم مِّن قَبۡلُ يُعَذِّبۡكُمۡ عَذَابًا أَلِيمًا 16﴾الفتح، وربّما جعلك مقدّسو الفقه التراثيّ تصدّق أنّ من لم يقبل بدين الإسلام ليس له إلّا القتل، وفطرتك ترفض هذا كما يرفضه منطق القرآن الكريم نفسه في آياته الأخرى الواضحة كنحو قوله تعالى: ﴿لَآ إِكۡرَاهَ فِي ٱلدِّينِۖ 256 ﴾البقرة، فإنّك الآن ستفهم أنّ الإسلام المذكور هنا هو التوقّف عن القتال واعتزال المؤمنين، وذلك تماماً كما قال جلّ ذكره: ﴿فَإِنِ ٱعۡتَزَلُوكُمۡ فَلَمۡ يُقَٰتِلُوكُمۡ وَأَلۡقَوۡاْ إِلَيۡكُمُ ٱلسَّلَمَ فَمَا جَعَلَ ٱللَّهُ لَكُمۡ عَلَيۡهِمۡ سَبِيلًا ٩٠﴾النساء، وهذا الفهم لكلمة مُسلم، وإن لم يكن مقصوداً به أتباع النبي محمد، عليه السلام، إلا أنّه سيساهم أيضاً بشكل كبير في إدراكنا لمفهوم الإسلام باعتباره اسماً اختاره الله لدينه.

بقي لنا في هذا الجزء من المقال أن نرجع إلى أقدم ما يمكن الرجوع إليه من أصل جامد لهذا الأصل اللغوي، وهنا، نظفر بقول النابغة الذبياني:

قوافي كالسّلام إذا استمرّت         فليس يردّ مذهبها التظنّي

ومفرد (السِّلام) سلمة، وهي الحجارة الصلبة الملساء، ومن هذا المعنى تولَّد المعنى الذهني المجرد، فهذه الحجارة واضحة المسار خالية من البروزات متَّسقة السطح، وكأنها بذلك تعكس الانتظام لشكل واحد، فتتماهى مع المكان الذي وجدت فيه وليس فيها أي نوع من إفساد أو مشاكسة لما حولها من عناصر الطبيعة.

في مقالنا القادم سننتقل إلى انعكاس هذا التأصيل اللساني على مفهوم الإسلام باعتباره ديناً لن يقبل الله غيره، ونقارن ذلك بالصورة التي قزَّمها التراثيون ممّن قصروا امتداد المعنى اللساني على رواية أو قول أو مذهب.