فعبارة مثل "فلا تذهب إلى ما تُريك العين، واذهب إلى ما يريك العقل، وللأمور حكمان: حُكم ظاهر للحواس، وحكم باطن للعقول، والعقل هو الحجَّة"، تثير الارتياب من هذا النسَّاخ الذي أفنى حياته يكتري دكاكين الورَّاقين في بغداد، ويبيت فيها للنظر والمعاينة. ترسَّخت فكرة "الرجل الذي قتلته الكتب" عن موت الجاحظ بهذه الطريقة التراجيدية في القرن الرابع عشر، وذلك بعد موته بخمسة قرون على وفاته، ما يضعنا في مقام الحيرة والشك في صحتها. ولعل ما ساعد على توطين هذه الفكرة هو اختفاء أرشيف تلك الحقبة المضطربة تحت سنابك خيل تيمورلنك في الغزوة المغولية الثانية لبغداد ودحر جيش المماليك بهزيمة ثقيلة.
وربما كان السبب الآخر للثأر من الجاحظ على هذا النحو هو ميله إلى فكر المعتزلة، أولئك الذين أسَّسوا عقيدتهم على العقل وقدَّموه على النقل، والاستناد إلى الشك والتجربة وإعمال العقل في التفكير والتأمل والملاحظة، وهو ما اختبره تشريحياً حتى في دراسة طبائع الحيوان، وكان الجاحظ قد أسرفَ في تناول أفكار المعتزلة في كتابَيه الموسوعيَّين "الرسائل" و"الحيوان"، مبجِّلاً أستاذه إبراهيم بن سيّار النظّام، بقوله "الأوائل يقولون: في كل ألف سنة رجل لا نظير له! فإن كان ذلك صحيحاً فهو أبو إسحق النظّام"، فهل أراد المؤرخون القدامى دفن الجاحظ تحت كتبه بدلاً من موته بالفالج، وهو في التسعين من عمره، وبالتالي إطفاء شعلة أفكاره التي لم تعد تلائم انحطاط أفكار القرن الرابع عشر الذي انتهى على عتبة سقوط غرناطة وبداية أفول أنوار الأندلس؟
كأن قدر المشتغلين بالكتابة من موقع مضاد أن يُدفنوا تحت أكوام الكتب، أن يختنقوا بغبار الورق ورائحة الحبر؛ لكن محنة الجاحظ لا تقف عند تزوير طريقة موته وحسب، وإنما حياته بأكملها، فقد كان يؤلِّف كتباً تحتشد بالمعاني فلا يرى الأسماع تصغي إليه، ثم يؤلف كتباً أقل فائدة وأنقص مرتبةً، فينسبها إلى ابن المقفَّع وسواه من الكتَّاب المصنَّفين، فيقبل عليها القراء، ويسرعون إلى نسخها. وفي منعطفٍ آخر من حياته رفض العمل في "ديوان الرسائل" بتكليف من الخليفة العباسي المأمون؛ إذ لم يمكث أكثر من ثلاثة أيام، وذلك لضجره من المكاتبات الرسمية الجافة، ولشغفه بالتأليف والغرق في سحر قراءة الكتب. يقول "ولربّما أراد مؤلف الكتاب، أن يصلح تصحيفاً أو كلمة ساقطة، فيكون إنشاء عشر ورقات من حرّ اللفظ وشريف المعاني، أيسر عليه من إتمام ذلك النقص، حتى يردّه إلى موضعه من اتصال الكلام".
كان الجاحظ موسوعة معارف متنقلة بما يشبه "محرِّك بحث" بمقياس اليوم؛ ما جعل ياقوت الحموي يقول عنه: "لم أرَ قط ولا سمعت من أحب الكتب والعلوم أكثر من الجاحظ؛ فقد كان موسوعة تمشي على الأرض، حتى استطاع أن يكتب كتباً في كثير من العلوم التي كان يهتم بها"، ذلك أن إطلالة بانورامية على كتاب موسوعي مثل "الحيوان" سيتجاوز فيه طبائع الحيوان نحو شؤون مختلفة، فهو خلاصة تجربته في العلوم والبلاغة والتاريخ وعلم الكلام، أو كما قال عنه "جمع بين معرفة السماع وعلم التجربة، وبين وجدان الحاسَّة وإحساس الغريزة، وما الفرق بين الميتة والجثة، والوثن والصنم". هكذا اقتحم بائع السمك الفقير في البصرة عالمَ القراءة والتأليف في ورديتَين، نهارية في بيع السمك، وليلية في تحصيل المعارف، حتى إن أمه ضاقت باهتماماته التي لا تغني عن جوع، ويروى أن الجاحظ طلب من أُمه يوماً طعاماً، فجاءته بطبق مملوء بكراريس أودعها البيت، وقالت له: "ليس عندي من طعام سوى هذه الكراريس"؛ إلا أن هذه الصفعة لم تثنه عن القراءة بلغات مختلفة، كالفارسية والهندية واليونانية، بالإضافة إلى لغة الضاد بالطبع.
اتساع التحديقة نحو العلوم المختلفة يتصادى مع جحوظ عينَيه؛ إذ لا جهة واحدة للبوصلة إنما الذهاب إلى كل الجهات لالتقاط ثمرة من هنا وثمرة من هناك مشكِّلاً شجرة كثيفة الأغصان، ثم بستان من الدلالات والإشراقات، الأمر الذي قاده إلى الاستطراد متنقِّلاً من فكرة إلى أخرى في حركة لولبية قبل أن يعود إلى نقطة المركز، وذلك بالقفز والوثب؛ ما شكَّل أسلوباً خاصاً به، سيتبعه آخرون لجهة الشك والاستقراء والضبط والبراهين. يقول في هذا المقام "عقل المُنشئ مشغول، وعقل المُتصفح فارغ".
في كتابه "الرسائل" سيحلِّق عالياً في مراقبة وقائع عصره التاريخية والفكرية والسياسية برؤية نقدية وبحسّ تهكمي لطالما ميَّز أسلوبه كما نجده خصوصاً في "رسالة في التربيع والتدوير" التي يهتك بها صورة المثقف المدَّعي، وكأنه يعيش في زمننا هذا "كان قليل السماع غُمْراً وصَحَفِيّاً غُفلا، لا ينطق عن فكر ويثق بأَوَّلِ خاطر ولا يفصل بين اعتزام الغُمر واستبصار الحق. يَعُدُّ أسماء الكتب ولا يفهم معانيها، ويحسد العلماء من غير أن يتعلَّق منهم بسبب، وليس في يده من جميع الآداب إلَّا الانتحال لاسم الأدب.
فلما طال اصطبارنا حتى بلغ المجهود مِنَّا، وكدنا نعتاد مذهبه ونألف سبيله، رَأيتُ أن أَكشِف قناعه وأُبدِي صفحته للحاضر والبادي وسُكَّان كلِّ ثَغر وكلِّ مِصر، بأن أسأله عن مئةِ مسألةٍ أهزأ فيها وأُعرِّف الناس مِقدار جهله، وليسأله عنها كل من كان في مكة ليكفوا عنَّا من غربه، وليردوه بذلك إلى ما هو أولى به". وفي "البيان والتبيين" سوف يخوض في علم اللغة وفلسفة الكلام والبلاغة، والنطق والصمت، وذلك بمنهجية صارمة ونزعة عقلانية واضحة معوّلاً على الوعي الذاتي والسرد التخييلي.
المفارقة أن معظم نقَّاد اليوم أعلنوا القطيعة مع التراث النقدي القديم وانخرطوا في أسئلة الحداثة وما بعدهاـ متجاهلين فتوحات الجاحظ في علم اللسانيات والبلاغة والسيمياء والتفكيكية، وانبهروا ببحوث جاك دريدا ورولان بارت وجيرار جينيت، لزوم الوجاهة النقدية ورنين اللغات الأخرى، على الرغم من أن الجاحظ أنجز نقدياً كل ما يتعلَّق بهذه الحقول قبل قرون كقوله في البلاغة "لا يكون الكلام يستحق اسم البلاغة حتى يسابق معناه لفظه، ولفظه معناه، فلا يكون لفظه إلى سمعك أسبق من معناه إلى قلبك".