في ضوء هذه المعطيات الاحتجاجية جرى استئناف التساؤل مجدداً عن: المجتمع المدني، والفضاء العام، ودور الاحتجاجات الطلابية في صياغة الرأي العام، وموقع الجامعة الأمريكية من القوى السياسية. وسبق لأستاذ الأدب المقارن في جامعة كولومبيا وملهم الحراك الطلابي فيها (إدوارد سعيد)، أن وصف الجامعة الأمريكية بأنَّها واحدة من أكثر الأماكن تناقضاً؛ إذ تحيلنا صفة التناقض على التداخل بين القوى المعرفية والقوى السياسية؛ فالجامعة الأمريكية تتمتع باستقلالية خاصة، ولكنها في الوقت نفسه موضع استغلال سياسي (سعيد، 2008، ص 91-92)، بمعنى أنها تعدُّ نقطة استقطاب وتجاذب بين القوى المدنية والقوى السياسية، فهي مع استقلاليتها البحثية مُعرَّضة على الدوام لاستغلال نتائجها (سياسياً أو عسكرياً) وتوجيهها تمويلاً وإشرافاً، هذا ما يجعل نقد تسييس المعرفة سؤالاً متجدداً، ورهاناً متكرراً لدى الفئات الطلابية على نحو متواتر.
وفي ضوء هذا الرهان المتجدد يمكن أن تُقرأ الأجندات المعرفية والأخلاقية للقوى الطلابية الداعمة لغزة والرافضة لحرب الكيان الإسرائيلي؛ إذ تكتسب الاحتجاجات تخصيصها المطلبي من القوى المدنية المنظمة لها (الفئات الطلابية)، ومن الفضاء المكاني الذي تشغله (الجامعة). فإلى جانب المطلب العام الذي يعمّ مختلف الاحتجاجات: وقف حرب الكيان الإسرائيلي، ونقد السياسات الداعمة لحرب الإبادة على غزة، تكتسب الاحتجاجات الطلابية خصوصيتها المطلبية من مطلبٍ أساسي، مفاده: تحييد الفضاء الجامعي عن رهانات القوى السياسية سواء من جهة البرامج التعليمية أو المخرجات البحثية (النظرية والتطبيقية)، وبتعبير أعم: المطالبة بتحييد المؤسسات البحثية العلمية عن رهانات القوى السياسية. ويتضمن هذا المطلب التوقُّف عن التعامل مع الشركات العسكرية التي تزود إسرائيل بالأسلحة؛ مثل: شركة بوينغ (The Boeing) المصنعة للطائرات، وعلى نحو ما تقول إحدى المتظاهرات: "لا نريد أن يتم استثمار تعليمنا وبيعه لشركات مثل بوينغ التي تستخدم أعمالنا في البحث في تصنيع أسلحة الحرب التي تستهدف الفلسطينيين عشوائياً".
ويمتد هذا المطلب من حيز التوظيفات العسكرية المباشرة صوب التقنيات التكنولوجية والذكاء الاصطناعي؛ إذ وجهت الاتهامات لكلٍّ من شركتَي (Google) و(Amazon) بدعم المنظومة الرقمية الإسرائيلية، وذلك ضمن ما يُعرف بصفقة نمبوس (Nimbus)، وهو مشروع يدعم المؤسستَين الأمنية والعسكرية، ويزودهما بقدرات "جوجل" و"أمازون" السحابيتَين بغية توحيد عمل الهيئات في منصة واحدة. يصب هذا التوظيف في منحاه الأخير في تشديد القبضة على الفلسطينيين وتعزيز أجهزة التجسس السيبراني، وتقديم الخدمات اللوجستية الداعمة لحرب إسرائيل الأخيرة على غزة (Reicher, May 6, 2024). فالمعرفة ضمن تطبيقاتها العسكرية والأمنية لم تعد محض معرفة نظرية؛ بل ذات رهانات سياسية، ولذلك تأتي ضرورة مساءلة المعرفة من جهة مفاعيلها وتوظيفاتها.
ضمن هذا المطلب العام تعاد مجدداً إلى الواجهة إشكالية العلاقة بين المعرفة والسلطة، وتتنزّل من حيز التنظير الفلسفي إلى الحيز الواقعي، فننتقل من التفلسف سياسياً إلى تجسدات الفلسفة بوصفها مطلباً واقعياً جماهيرياً، نجد في هذا الصدد إرثاً ثقافياً متجذراً في الثقافة الغربية النقدية، على نحو ما نجد في مدرسة فرانكفورت النقدية؛ ولا سيما في مقولتَي: السلب والإنسان ذو البعد الواحد عند ماركيوز، أو العقل الأداتيInstrumental Reason عند هابرمس، وعلى نحو متواصل تترسخ أطروحة ميشيل فوكو في العلاقة بين المعرفة والسلطة والنظر إليهما بوصفهما خطاباً، وليس انتهاء بابن جامعة كولومبيا إدوارد سعيد، في أطروحته عن الاستشراق والتي بها طرح التساؤل الإشكالي حول العلاقة بين الاستشراق والسلطة الكولونيالية على الشرق، فنظر إلى الاستشراق على أنه مؤسسة تدير الشرق وتحكمه وتعيد إنتاجه (سعيد، 1995، 39). فالخطاب المعرفي عن الشرق منشبكٌ بإرادة القوة الاستعمارية، ومعبرٌ عنها.
إنَّ هذا الإرث المتواصل من المساءلة النقدية لعلاقة السلطة بالمعرفة يعدُّ الركيزة النظرية والأيديولوجية للاحتجاجات الطلابية والمحدد الضمني لبرنامج عملها وأجنداتها. واللافت أن الطلبة في استئنافهم الرهان النقدي في غائية العلم وتوظيفاته قد تجاوزوا تخاذل بعض النخب الفلسفية الواقعة في ما يبدو في تناقضات أخلاقية ومعرفية.
في هذا السياق يظهر هابرماس الملقب بـ(الضمير الألماني الحي) مثالاً بيّناً على هذا التناقض، فالفيلسوف الذي نظّر لأخلاقيات العلم وضرورة تجاوز الأداتية والتوجُّه صوب العقل التواصلي نراه يسقط في تحيز معلنٍ تارة وضمني تارة أخرى. ففي الوقت الذي يفترض أن يساءَل الواقع بأدوات تنظيره النقدي، نراه يحجب هذا الواقع بتصورات أيديولوجية متحيزة. ففي بيان التضامن Principles of solidarity A statement الموقع عليه بتاريخ 13 نوفمبر 2024 يزعم هابرماس أن ما يرتكبه الكيان الإسرائيلي مبررٌ من الناحية المبدئية (is justified in principle It)، رافضاً في الوقت عينه وصف ما يرتكبه الكيان بالإبادة الجماعية (Habermas، 16 November 2023).
إنَّ ما يراه هابرماس مبرراً أخلاقياً يبدو لنا التعبير الواقعي عن العقل الأداتي أو تجسداته التاريخية؛ لكن هابرمس وأمثاله لا يرون الأداتية التي ينتقدونها إلا إذا انطبقت مآسيها على التاريخ الغربي (الهولوكوست مثلاً)، فلا ينظرون إلى تجسداتها المدمرة على تاريخ الشعوب المستعمَرة. إنَّ التناقضات، هنا، تتجاوز حيز المؤسسة السياسية الغربية، فتمتد إلى التنظيرات الفلسفية، فتكشف عن تناقضاتها الداخلية. وفي ظننا أن أهمية الاحتجاجات الطلابية في تضامنها الإنساني العالمي تأتي من تعرية تلك التحيزات الضمنية لفلاسفة من أمثال هابرماس ممن يصحُّ وصفهم إزاء ما يحدث في غزة بالضمائر النائمة والمصابة بعمى أخلاقي.
إن مساءلة الجامعة كما تجسدت في رهانات الطلبة هي ضمنياً مساءلة نقدية للتطبيقات الأداتية للعلم؛ أي مساءلة للتوظيفات الواقعية والانتقال من حيز السؤال الكيفي الأداتي إلى حيز السؤال الغائي الأخلاقي (لماذا يوظف العلم؟). من هنا تتحدد مطالبات المحتجين للجامعة والمؤسسات البحثية: لصالح مَن توجه الأبحاث العلمية والتقنية؟ ولخدمة مَن؟ ولماذا تُستثمر وكيف؟ هل تخدم حرية الإنسان أم تسهم في استعباده؟ هذه التساؤلات تنقل الرهان الديمقراطي إلى حيز حرية المعلومات، فمن مستلزمات الديمقراطية أن تكون مصادر المعلومات المفتوحة أمام الجميع، وللمواطنين حق معرفتها وتداولها. في ضوء ذلك تفهم المطالبات الطلابية في ما يخص الاستثمارات الجامعية، وإيراداتها، وطبيعة البحوث التطبيقية وتوظيفاتها في سياق حرية المعلومات عينها؛ فهي ذات رهان مزدوج، رهان على تحييد المعرفة البحثية عن القوى السياسية، ورهان في حرية المعلومات وشفافية تداولها والكشف عن المصادر الاستثمارية أمام المجال العام.
هكذا في الوقت الذي أُعلن فيه خلو الفضاءات العامة من القضايا السياسية والاجتماعية، وأن عصرنا هو عصر نهاية اليوتوبيا وخلو العرش من الفاعلين الاجتماعيين الذين استغرقتهم نزعة الاستهلاك والسيولة، تأتي الاحتجاجات الطلابية في الجامعات الأمريكية في خضم هذه الدعاوى لتعيد النظر مجدداً في الأفكار السياسية السائدة، ومشروعية المفاهيم الراسخة فيه، وتوقظ مجدداً سؤال العلاقة بين المعرفة والسلطة ودور الفضاءات العامة في صناعة القرار السياسي، ومؤكدة ضرورة استئناف النظر في التصورات الراسخة في عصر ما بعد الحداثة.
مؤدى القول ومنتهاه: إن الانتقال من سياسات المعرفة إلى نقد المعرفة المسيسة يستلزم قول الحقيقة في وجه السلطة، وهذا يشترط أن يحكم المبدأ المعرفي النقدي الموقفَ السياسي، لا أن يرتهن الموقف المعرفي للإرادة السياسية، وهو ما مثَّلته الاحتجاجات الطلابية بجدارة، معيدةً المبدأ الأخلاقي إلى نسيج المعرفة العلمية، ومؤكدةً ضرورة تحييد المراكز البحثية عن الرهانات السياسية والاستثمارات العسكرية.