ابن رشد: من شرعنة الفلسفة إلى عقلنة الشريعة | د. وجيه قانصو

تمثال ابن رشد
تمثال ابن رشد

يمثل كتابُ "فصل المقال ما بين الحكمة والشريعة من اتصال" للفيلسوف العربي ابن رشد، آخر أنشطة التفكير الفلسفي الجدي في المجال العربي في العصر الوسيط. بقدر ما كان الكتاب تقييماً لمسار التفكير العربي- الإسلامي في ذروة تأزمه وانسداداته، فإن الكتاب أيضاً يؤسس لأفق تفكير مختلف يوفر إمكانات جديدة لنشاط الفكر العربي. اختلف ابن رشد عمَّن سبقه من الفلاسفة العرب والمسلمين، بأنه لم يكن يهدف إلى التوفيق بين الفلسفة والوحي، أو إظهار الحاجة المتبادلة بينهما؛ بل تصدى لمشكلة التفكير نفسها، سواء أكانت داخل الدين أم خارجه.


فابن رشد لم يكن معنياً بشرعنة القول الفلسفي، بل في تأسيس نمط تفكير آخر يُسهم في الخروج من حالة الانسداد التي وصل إليها العقل الديني بعد ستة قرون، وأوقعت الناس "في شنآن وتباغض وحروب ومزقوا الشرع وفرقوا الناس". دافع مقترحه إذن اجتماعي- أخلاقي، ومدخل الحل عنده فكري - معرفي. 

 حين عمد ابن رشد إلى إثبات أن الشرع يأمر بالتفكير الفلسفي أو العقلي ويندب إليه. فهو لا يقصد بذلك إثبات مشروعية التفكير الفلسفي أو العقلي في الإسلام، فهذا تحصيل حاصل، وتحصيل الحاصل لا يُبرهن عليه ولا يحتاج إلى مسوغ. بل ليقول إن الشرع قارب النظر في الموجودات بطريقة عقلية. فالآية التي يستشهد بها ابن رشد: "أفلا يتفكرون" و"أفلا يتدبرون" و"فاعتبروا يا أولي الأبصار"، و" أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ"، هي استدلالات لا تهدف إلى إسباغ شرعنة دينية على النشاط العقلي، بل للتأكيد أن القرآن يقارب الوجود والكون والحياة ويعرضها بطريقة عقلية برهانية؛ أي ينطلق من أرضية فلسفية في بيانها وتقرير حقائقها.

فالقرآن لا ينشئ ويقرر مشروعية التفكير العقلي في الموجودات؛ وإنما يعتبر أن المدخل الضروري والحصري لفهم الموجودات والتعرف إلى العالم والحياة هو النشاط العقلي لا الشرع. ما يعني أن الشرع لا ينشئ حقائق خاصة به في تقرير الواقع الخارجي؛ بل يعتمد آلة التفكير العقلي الموجودة عند كل إنسان للكشف عنه وتقرير حقائقه. بالتالي لا تكون الآيات القرآنية الدالة على مظاهر الكون والطبيعة مرجعاً في تقرير الحقائق العلمية مثلما يدَّعي الكثيرون؛ بل يكون مدار فهم هذه الآيات وأساس تحديد معانيها هو بالرجوع إلى آخر منجز علمي أو كشف إنساني. فالآيات تفهم على ضوء العلم، لا أن العلم يفهم وتحسم مسائله على ضوء آيات القرآن. ولهذا اعتبر ابن رشد أنه من الواجب "أن نجعل نظرنا في الموجودات بأفضل أنواع القياس وأتمها، وهو المسمى برهاناً". 

هل هذا يعني أن ابن رشد يقصر التقاء العقل والشرع على الموضوعات الخارجية، ويترك الحقائق ذات البعد الروحي أو الغيبي للشرع؟ بالطبع لا. فابن رشد يعمد إلى الخوض في معنى الحقيقة الدينية نفسها. هو لا ينطلق من وجود حقائق دينية مقررة مسبقاً؛ بل يتراجع خطوة معرفية إلى الوراء، ليبحث في شروط إمكان المعرفة الدينية نفسها.  

يبدأ بالقول إن النظر البرهاني يكون مدار كل ما سكت عنه الشرع (أو النص الديني)، "فإن أدى النظر البرهاني إلى نحو ما من المعرفة بموجود ما سكت عنه الشرع فلا إشكال". وفي ذلك إشارة إلى أن العقل يملك سلطة التشريع في الأمور غير المنصوص عليها؛ لتكون وظيفته ملء الفراغات التي يتركها النص عن عمد إفساحاً بالمجال للنشاط الفكري في معالجتها. 

أما الأمور التي لم يسكت عنها الشرع وصرح بها مباشرةً، فإن ابن رشد ينبه إلى ضرورة وجود ضابطة لاستخراج واستنباط الحقيقة الدينية من النص. فكأن النص لا ينطق بذاته بل نحن نستنطقه، ليكون المعنى الديني ثمرة النشاط الفكري في النص، وليس مجرد تلقٍّ سلبي لما يقوله. بالتالي يقرر ابن رشد أن حقائق الدين ليست مقررة مسبقاً بنحو مستقل عن النشاط الفكري؛ إنما هي ثمرة من ثماره ونتيجة من نتائجه.  

في سياق استجلاء معنى النص الديني، يعمد ابن رشد إلى تحرير معنى النص أو الشرع من مبدأين كانا عمدة تقرير الحقائق الدينية في التفكير الإسلامي، وتسببا في تضييق المدى الدلالي للنص الديني من جهة، وفي وضع الخناق على النشاط الفكري في الغوص في معانيه من جهة أخرى. هذان المبدآن هما الإجماع وظاهر النص.

في الإجماع، يقرر ابن رشد أنه ليس مدار تحديد المعنى الديني. فــ"الإجماع لا يتقرر في النظريات بطريق يقيني كما يتقرر في العمليات"؛ أي أن الإجماع شأن تدبيري إجرائي يطول الأمور العملية وليس نشاطاً معرفياً يستعمل في الأمور النظرية التي تعنى بالمفاهيم والدلالات. بالتالي حرر معنى النص من تخمة ادعاءات الإجماع، التي تحولت إلى سلطة قمع وحظر من التفكير في النص الديني.  

أما ظاهر النص فيوجد إجماع عام من المسلمين على أنه "ليس يجب أن تحمل ألفاظ الشرع كلها على ظاهره". أي أن ظاهر النص ليس حجة بذاته، ولا يملك صلاحية مستقلة في الكشف عن مراد النص (أو مراد الله)، بل هو مشروط بموافقته للبرهان، أي للتفكير العقلي الدقيق. يقول: "لا إشكال في ما نطق به الشرع وجاء ظاهر النطق موافقاً لما أدى البرهان فيه". فمدار صحة الظاهر هو موافقته للبرهان، وهذا لا يكون إلا حين يكون هذا الظاهر متطابقاً ومنسجماً مع التفكير العقلي السليم. وفي ذلك التفاتة إلى أن العقل بات مرجعاً في تقرير حقائق النص، وهو الذي يسبغ مشروعية على ظاهر النص الديني لا العكس. هذا يجعل ابن رشد يفترق عن الغزالي الذي اعتبر أن العقل خادم الوحي وشارح له، كون حقائق الوحي مقررة مسبقاً بطرق غير عقلية، وما على العقل سوى توضيحها وبيانها وشرحها. أما ابن رشد فيعتبر أن مهمة العقل ليست في شرح حقائق الدين، هو في تقرير هذه الحقائق.   

إزاحة سلطتَي الإجماع والظاهر في تقرير معنى النص الديني، يحرِزُ تحررَين: تحرراً للقارئ من إكراهات المعنى وإلزامات المداولة التي اعتمدها السلف في تلقي النص الديني، وتحرراً للنص الديني من دلالات مقررة مسبقاً تفرض عليه ما يجب قوله وتحجب عنه ما يمكن أن يقوله. هذان التحرران، يكفلان لقارئ أي زمن أن يعيش عصره ويتلبس هواجس ذلك العصر وقلقه وهمومه ومخاطره وآفاقه، ويتيحان له في الوقت نفسه الدخول إلى النص والسكن في داخله والتحرك في أرجائه بحرية من دون إملاءات مسبقة، ليتم بناء شروط جديدة للحوار والاتصال والتلقي بين القارئ والنص، تتحدى النص والقارئ معاً وتستثيرهما في ابتكار أنساق دلالية قادرة على تدشين فضاءات معنى خصبة وتقديم أجوبة جديدة غير مسبوقة.

ينتقل ابن رشد إلى نقطة مفصلية في تقرير الحقيقة الدينية، وهي في حال حصول تعارض مستقر بين ظاهر الشرع (أو النص الديني) وبين البرهان العقلي. هنا يقترح ابن رشد تأويل الشرع بحيث لا يتعارض "مع ما يؤدي إليه البرهان". وهذا يكون "بإخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقية إلى الدلالة المجازية من غير أن يخل ذلك بعادة لسان العرب". أي أن يتم البحث عن محتملات المعنى الكامنة وراء الظاهر، مع مراعاة الضابطة اللغوية في تخاطب العرب، ووَفق مقتضيات الإفهام والتفهيم عندهم؛ كي لا نقع في عبث الدلالة وفوضى استعمال النص.

هذا الإجراء، يطلق العنان للتفكير العقلي في رحلة استكشاف لا تتوقف للإمكانات الكامنة في النص. وهي إمكانات تتجدد مع كل قراءة جديدة ومع كل قارئ جديد. مهمة التأويل هذه، منوطة عند ابن رشد بــ"أهل البرهان"؛ أي الفلاسفة لا الفقهاء أو علماء الكلام أو حتى علماء التفسير، بسبب أن البحث عن المجاز، هو بحث في العوالم الرديفة التي يخلقها النص ويشير إليها وراء ظاهره؛ ما يجعل هكذا بحث نشاطاً فلسفياً لا مجرد تقص لغوي.  

لكن ما الذي يمنح الفلسفة هذه الوصاية والمرجعية النهائية في تقرير الحقائق الدينية؟ يستند ابن رشد في تأسيس ذلك إلى مقولة إن "الحكمة هي صاحبة الشريعة والأخت الرضيعة وهما المتصاحبتان المتحابتان بالجوهر والغريزة". فالحكمة والشريعة صادرتان من منبع واحد، رغم اختلافهما في الصياغة والتركيب. قد تختلفان في الموارد والموضوعات؛ لكنهما تتطابقان في المؤدى والحقيقة. هما مظهران لحقيقة واحدة، بالتالي فإن "الحق لا يضاد الحق بل يوافقه ويشهد له". هذه الوحدة تفرض أن لا يتم الفصل بينهما؛ بل تكون الحكمة حاضرة حين يحضر الشرع ويكون الشرع حاضراً حيث تحضر الحكمة. فكأن الفلسفة حقيقة كامنة في بنية الشرع نفسه، وكأن مؤديات الفلسفة ونشاطها موصلان إلى مراد الله.  

أخرج ابن رشد العلاقة بين العقل والوحي من دائرة التجاذب أو الصراع أو الأولوية، ليقرر أن النشاط العقلي داخل في صلب الحقيقة الدينية لا خارجها؛ بل هو مدار تقرير الحقيقة الدينية نفسها، والمعيار الحصري في استجلاء الحقائق الدينية من مصادر الوحي المعتبرة. أدرك ابن رشد أن الخلاف الذي استمر قروناً طويلة لم يكن بين العقل والوحي، أو الفلسفة والشرع؛ بل كان حول فهم مغلوط لكل من معاني الشرع وحقيقة نشاط الفلسفة.

بالتالي لم يكن السؤال مع ابن رشد في فصل المقال حول مشروعية الفعل الفلسفي، أو حول أيهما يقدم على الآخر: العقل أم النقل؟ بل حول السؤال الجوهري الذي غفل عنه مَن سبقه: ما الحقيقة الدينية؟ أو ما الذي يجعل المعنى المستخرج من النص الديني حقيقة دينية؟ هو سؤال أعاد الطرح لا حول شرعية التفكير في الدين؛ بل حول كيفية التفكير فيه؟ ليصل إلى نتيجة حاسمة بأن العقل محدد وضابط في تقرير الحقيقة الدينية؛ ما يجعل العقل داخلاً في صميم الحقيقة الدينية نفسها لا شيئاً وافداً عليها. هي خلاصة ترفع إلى الأبد كل أوجه التعارض بين العقل والوحي، بعد أن أضحى العقل المسبقة أو المصادرة الأولى في اعتماد أي معنى ديني.