لم يكن اسمه في التوراة (سليمان)، بل (شلمه أو سلمه)، وبالعبرية (שלמה). كانت ولادته بعد موت أخيه المطعون بغضب يهوه؛ بسبب الذنب الذي اقترفه داود بإغراء (بتشبع) أمّ سليمان، حيث حملَتْ منه سفاحًا، ومن ثَمَّ قتل زوجها (أوريا) بسيف العمونيين عندما أرسله للحرب هناك. هكذا يخبرنا سفر الملوك الأول، (الآية 24): "וינחם(وعزّى)דוד(داود)את_בתשבע(بتشبع)אשתן(امرأته)ובא(ودخل)אליה(إليها)וישכב (ورقد)עמה (معها) ותלד(فولدت) בן (ابنًا) ותקרא (ودعَتْ) את_שמו (اسمه) שלמה (شلمه) ויהוה (ويهوه) אהבו (أَحبَّه) (25) ושלח (وأرسل) ביד (بيد) נתן (ناثان) הנביא (النبيّ) ויקרא (فدعا) את_שמו (اسمه) ידידיה בבעור ייההווה (يديديا من أجل يهوه)".
كانت النتيجة عذابًا طويلًا لداود؛ حيث انقلب ابنه الكبير (أبشالوم) عليه بتدبير من يهوه، وانتهى احترابهما المأساوي بمقتل الابن. ومات داود بعد ذلك بزمن بعد أن غفر له يهوه، وتسلَّم المـُلك من بعده ابنه من بتشبع (شلمه، سلمه، أو سليمان (بالتعبير الإسلامي))، الذي صادفَتْه مناوشات خفيفة مع أخيه من أبيه (أدونيا) المقتول بأمره، وسلَّمه الـملك الذي سمّاه ناثان النبي (يديديا من أجل يهوه)، بمعنى قريبٍ لمصطلح (خليل الرحمن) المرتبط إسلاميا بالنبي إبراهيم، قدَّمَتْه التوراة كملِك عظيم امتدَّ سلطانه من الفرات الى مصر (حسب وصف مترجمي التوراة اللاهوتيين)، أما بحسب الترجمات الموضوعية غير المؤدلجة صهيونيًا، فلم تتجاوز سلطته حدود مخلاف صغير امتدَّ من مصريم اليمنية (المعروفة لدى المؤرخين بمعين مصرن أو مصرم) إلى نهرٍ ما يقع جنوبها في أرض الفلشتيم (الفلسة)، ولا توجد في القصة أرض القبط ولا يوجد لفظ الفرات مطلقًا، كما نتبين من النص التالي من سفر الملوك الأول (الآية 5)؛ حيث أنّ مدوني السِّفْر لم يمتدّ خيالهم ومعرفتهم إلى تلك الجغرافية الهائلة، إنما نقلوا المتوارث شفاهًا عن جغرافية محدودة تتردد في معظم الأشعار والقصص التوراتية الشعبية التي تناقلوها: "ושלמה (وسليمان) היה (كان) מושל (مسلّطًا) בכל_הממלכות (بكلّ الممالك) מן הנהר (من النّهر) ארץ (أرض) פלשתים (فلشتيم) ועד (وحتى) גבול (تخم) מצרימ (مصريم) מגשים (مقدّمون) מנחה (هديّة) ועברימ (وخادمون) את_שלמה (شلمه) כל ימי (كل أيام) חייו (حياته)".
إن التاريخ الحقيقي المسطور بالآثار العراقية والمصرية (القبطية) واليمنية لا يعرف ملكًا أسطوريًا بهذا الاسم والحجم من السُّلطة والقدرات، وزمن وجوده المقدَّر لدى معظَم الروايات (ومن ضمنها التوراتية) وفي حسابات المؤرخين كان معاصرًا لمملكتي آشور والقبط، وقد تجاهلتاه تمامًا في كلّ إرثهما الأركيولوجي، رغم قيامهما بحملات واسعة النطاق في كل أرض الجزيرة العربية والشام. لكن ما يهتم له المقال حصرًا هو اللقاء بين هذا الملك النبي وبين ملكة سبأ المسماة (بلقيس) وأصل التسميات الواردة بالقصة.
يروي سفر الملوك الأول قصةَ سَفَرِ ملكة سبأ -من دون أن يسميها- إلى أورشليم ولقاءها بالملك (شلمه)؛ حيث أبدت إعجابها الشديد بمملكته وبحكمته، ومعرفته، وتبادلا الهدايا الثمينة، ومن ثَمَّ عادت إلى مملكتها مُعزّزة مُكرّمة، ولم تَزِدِ الرواية التوراتية عن هذه الفحوى؛ أيْ: لم يَرِدْ فيها ما ذكره الإخباريون الإسلاميون من تفاصيل هم لفّقوها، ولعلهم طوّروها عن قصص شعبية شائعة في زمن متأخر أثناء الغزو الصليبي المغولي للبلاد الإسلامية. أمّا شلمه، فإنّه بحسب السِّفر التوراتي ابتعد عن عبادة يهوه؛ مما أدى إلى معاقبته بتمزيق مملكته بعده إلى مملكتين، وقد مات ودُفن مع آبائه في مدينة داود.
ولم تَرِدْ في القصة التوراتية -سواء في سفر الملوك الأول أو في أخبار الأيام- أية ملاحظة عن قدرات خارقة نسبت لهذا الملك الإسرائيلي؛ فلم يتحكّم بالجنّ، ولم يسيطر على الريح، وكان ملكًا بمواصفات إنسانية اعتيادية، ولكنها مميزة رفيعة، ومن الواضح أنّ لقاء ملكة سبأ به كان في إطار السعي لتأمين طرُقِ التجارة المارّةِ بالمملكتين؛ حيث يتبين من طبيعة هدايا الملِكة أنّ موضوع تجارة العطور والبخور واللُّبان هو المسألة الجوهرية المطروحة في اللقاء، وهذا السعي مقترن تاريخيًا بتطلُّع ملوك سبأ إلى مدّ سلطانهم ليشمل منطقة التجارة بِرمَّتها، وذلك هدف لن يتحقق إلا باقتران (سبأ) القوية ذات البأس الشديد بعقيدةٍ وإلهٍ قوي، يثير لدى المؤمنين به الحمية الدينية، ويؤسس لهم المُسوِّغ الكافي للاندفاع نحو التوسع الإقليمي وبسط النفوذ والسلطة، والقوةُ التي تستطيع بلوغ هدفها تظل مع ذلك عاجزة عن ضمان تقبُّلها كسلطة؛ فهي بحاجة إلى قوة من نوع آخر(قوة الدين) لبلوغ مرحلة السلطة؛ كما يقول الدكتور فاضل الربيعي في كتابه (الشيطان والعرش)، ومن المؤكد أنه ليس أيُّ دين يصلح لهذه المهمة؛ إنما يتوجب أن يتوفر معه الكتاب المحرِّض والطقوس المهيمنة التي تشدّ المؤمنين بقوة نحوه ونحو بعضهم، إضافة إلى انسجامه مع طبيعة المهمة المرجوّة منه.
إنّ الملِكة أرادت أنْ تحقق ذاتها المتمثلة بطموحات لا حدّ لها عبر دين وجدته في شخص النبي (شلمه)؛ كما يمكن أن نستنتج من القصة التوراتية، لكننا لا نجد أركيولوجيًا ما يدعم فرضية نجاح ملكة سبأ بتحقيق خططها، بل على العكس؛ فالكتابات الآشورية تتحدث عن هجوم واسع النطاق شنَّته الإمبراطورية الآشورية على الجزيرة العربية، واصطدام جيوشها بملِكة في جنوب الجزيرة العربية اسمها (شمس)؛ حيث دمّرتْ مملكتها ومعبدها، ومن المثير أن نشير أن المرويات الإسلامية تذكر اسم (شمس) كأخت لملكة سبأ المسماة (بلقيس). وإذا تناولنا مسألة مملكة سبأ وملوكها كحقيقة تاريخية؛ فإنّ وجود الملك (شلمه) الإسرائيلي مطروح من جانب واحد؛ وهو جانبُ مدوني أسفارِ التوراة، ولا يمكن البرهنة على تاريخيّته في كل الأحوال.
ولا شك أنّ قصة ملكة سبأ متداولة في القصص الشعبي، وحاضرة في الذاكرة الجمعية الشعبية اليمنية، واستلهام هذه القصة من قبل كتبة التوراة ومدونيها أمر وارد بقوة، كما فعلوا مع المنتج الثقافي الحضاري الآشوري والبابلي؛ فاستثمروا تلك القصة وأثبتوها عبر اختلاق شخصية الملِك النبي شلمه، وحشْرها مع القصة الشعبية.
لكنّ اختلاق هذه الشخصية لم يكن من فراغ؛ إنما اشتُقَّ من تاريخ حقيقي تمثل في أنّ ملكة سبأ (موضوع الاستثمار) وجدت ضالّتها باعتناق إله القوافل والتجارة المسمى (السلمان)؛ وهو إله صحراوي عبدته القبائل العربية الشمالية، خصوصًا القبائل اللحيانية التي هاجرت نحو الجنوب، ونقلت معها عبادة إلهها، حيث أثَّرتْ في التحول الديني من عبادة الإله الشمس الزراعي إلى عبادة هذا الإله الصحراوي، المعنيّ بشريان حياتهم وازدهار ممالكهم؛ أيْ: المعنيّ بالتجارة، وفي أحسن الأحوال مشاركته للشمس في الألوهية والتقديس. ولا يمكن أنْ نغضَّ النظر عن التشابه البيِّن بيْن الاسمين (سلمه ، سلمان)؛ خصوصًا إذا ما نظرنا الى الألِف والنون كأداة تعريف قديمة؛ ليكون الاسم (السلم أو السلمة ، الشلمه)؛ فمزاوجة الإله سلمان مع الملِك شلمه التوراتي، هو الأقرب إلى الفهم الصحيح لأصل القصة، ولم يستطع الخيال الشعبي أن يتخلص من المواصفات الأسطورية التي أسبغها على إله القوافل، فنقل تلك المواصفات إلى شخصية الملِك شلمه المشتقة منه ، حتى صار يشبهه في كل شيء، فهو القادر على محادثة الجن والشياطين والذين يعيقون طرق التجارة (اللصوص الملثمون وقطاع الطرق القتلة)، والمسيطر على الرياح ذات التأثير الفاعل في الصحراء المؤثرة على القوافل التجارية وأمنها، لكن الشعوب لا تولِّد أسماء الآلهة بلا موجبات موضوعية؛ إنما هي تشتقها من بيئتها وتاريخها والأحداثِ الأكثر فاعلية في ذلك التاريخ، وفي إطار هذا الفهم قدَّم الدكتور فاضل الربيعي نظريته في أن أصل تسمية (شلمه أو سلمان و سليمان) يعود إلى اللقب والاسم الملكي الآشوري (شلمنصر)؛ وهو يشير إلى مجموعة ملوك آشور الذين غزوا اليمن، ومنهم سرجون الثاني الذي غزا الجزيرة العربية، ووصل إلى صنعاء، ووصف اجتياحه لتلك المناطق في نقش مهم قدَّمه الدكتور الربيعي في كتابه المهم (نظرية في إعادة ترتيب العصور والأديان)؛ حيث يرِدُ أنّه غيَّر اسم مدينة إسماعيلية؛ أيْ: من مدن همدان، وأسماها (بلقيس)، وبنى فيها معبدًا بهذا الاسم (معبد بعل قيس)؛ وهو إله الهمدانيين؛ أيْ: قبائل وبطون حاشد وبكيل الذين تسميهم التوراة العماليق، وحتى اليوم تُعرف قبائل أرحب (وهي بطون من همدان) باسم أرحب العماليق، كما أكد الدكتور الربيعي. ويصبح وفقًا لهذا العرض أنّ الغزو الآشوري لبلاد اليمن هو الأصل في كامل قصة بلقيس وسليمان؛ حيث انتقل اسم الملك شلمنصر إلى إله يحمي القوافل، ثم إلى ملِك إسرائيلي قابلَتْه ملكة سبأ في خضوع واتفاق يضمن سلامة القوافل التجارية بين آشور واليمن.