ويصفها البعض الآخر بأنها فكر هدام معادٍ لإرث الأنوار وفكرة الكونية، وأنها تريد إشاعة ثقافة الفوضى والاستياء وكره العالم، وأنها لا تحترم تعدد الآراء وترفض كل ما ينتمي إلى ماضي الغرب؛ (وبصورة خاصة ماضيه الاستعماري الذي عرف مختلف صنوف الاستغلال والتمييز العرقي التي لم تختفِ إلى اليوم). وتنظر إليها بعض الأوساط الفكرية الغربية؛ (وبصورة خاصة الأوساط المنتمية إلى تيار اليمين المحافظ) بمثابة (شبح) جديد يهيمن على الغرب، كمثل شبح الماركسية الذي هيمن فيما مضى، بل يفوقه خطرًا؛ فهي ترفض الاعتراف بالهويات البيولوجية، وتتحدث عن حق الفرد في (اختيار هويته الجنسية)، وتنظر إلى هذه الأخيرة على أنها نتاج تاريخ طويل من القمع والهيمنة (الذكورية السّامّة) التي تغذيها (ذكورية اللغة)، وفي هذا ما يفسر دعوتهم إلى إضافة ضمير محايد (iel في الفرنسية) لا يشير إلى جنس المخاطب؛ أو الضمير الثالث لـِ(هو) و (هي). لكن، ما حركة الصحوة هذه «Le wokisme»؟ وكيف تُعرِّفُ نفسها؟ وماهي طروحاتها الأساس؟
لا تمثل (عقيدة الصحوة) حركة فكرية لها جسدها المفاهيميّ الواضح بقدر ما تمثل (تحالفًا ظرفيًا) لتيارات فكرية وأيديولوجية مختلفة، تُشكِل في مجموعها جوهر حركة الوايك (الصحوة أو اليقظة):
أولاً: مناهضو العنصرية المعاصرة: وهم مقتنعون بأن الشرور الحالية التي يعاني منها المجتمع الغربي هي نتاج (عمل البِيض)، ويطالبونهم بالتخلي عن امتيازاتهم لصالح الأقليات، وتعويض أحفاد العبيد عن الانتهاكات التي حصلت بحقهم (بصورة خاصة في أمريكا).
ثانيًا: النسوية الجديدة التي تؤكد أن هناك نظامًا قمعيًا أقامه الرجال بهدف إدامة الهيمنة على النساء؛ وترى وجوب التخلي عن التصور الذكوري الرجالي واتخاذ إجراءات تتيح تمكين النساء من الاندماج بشكل كامل في المجتمع.
وأخيراً: حركات (الميم) و(المتحولين جنسيا+ LGBTQIA) التي ترفض الثنائية الجنسية، وتدعو لحق الفرد بتغيير جنسه لو أراد.
في الواقع، يتأسس فكر (حركة الصحوة أو اليقظة) (بصورة خاصة تيار مناهضة العنصرية، وهو المعني في هذه السطور) على تصور مفاده أن الحركات المتنوعة لحقوق الإنسان بعد الحرب العالمية الثانية قد فشلت في تأسيس نظام مساواة يُفضي إلى إلغاء التمييز العنصري والجنسي داخل المجتمع، بما يتيح تحقيق المساواة والعدالة الاجتماعيّة، وأن النظام القائم هو نظام تمييزيٌّ يضمن توزيعاً غير متساوٍ للثروات والفرص استناداً إلى السمات البيولوجية الفردية، وفي قمة رؤيتهم الهرمية لهذا النظام المجتمعي يأتي "الذكور البيض"، والأثرياء الذين قاموا ببناء مؤسسات ونظام سياسي واجتماعي يهدف إلى تأبيد سيطرتهم وحسب، ويستنتجون -في ضوء ذلك- أنه إذا كانت عناصر البناء الاجتماعي قد تم تشكيلها من قبل الحاكمين ولصالحهم، فإن النتيجة المنطيقة لهذا البناء هي بالضرورة وجود مجتمع يعاني من مختلف صنوف (التلوث) التي ينبغي التخلص منها؛ (وبصورة خاصة العنصرية)، وفي رأيهم أن العنصرية في الغرب ليست مسألة فردية تتعلق بالسلوك والمواقف والقناعات بقدر ما هي نظام من المزايا والامتيازات الاجتماعية والاقتصادية الذي تعكسه السياسات والممارسات والإجراءات المؤسسيّة الراسخة التي لا تكفّ عن انتاج التمييز وتعزيز التحيزات والفروقات، وهي ليست أيديولوجيا بقدر ماهي بنية اجتماعية ونظام راسخ للهيمنة الأوروبية العالمية.
وهذا ما أشار إليه تشارلز ميلز في كتابه العقد العنصري إذ قال: "إن النظام السياسي الذي شَكَّلَ العالم منذ ما يزيد عن ألفي عام يقوم في جوهره على (عقد عنصري)، يهدف إلى تعزيز وإدامة تفوق الرجل الأبيض وسيطرته على الآخرين، أي بقية شعوب العالم، كما أن (العقد الاجتماعي) الذي طوره الفلاسفة الأوروبيون ينطوي، صراحة أو ضمنًا، على عقدٍ (عنصري) يقوم على التمييز والفصل بين (البِيض) و(غير البِيض)، ويعمل على تكريس استعباد الأشخاص (غير البِيض)، مما يجعل منه (عقد سيطرة) في نهاية المطاف." ولم تبتعد روبن دي انجيلو (عالمة الاجتماع الامريكية) عن هذه الرؤية إذ كتبت في الهشاشة البيضاء: "إن العنصرية في الغرب هي القاعدة وليست الاستثناء، والهُويّة البيضاء هي هُوية عنصرية بطبيعتها؛ لأنها تتأسس بنيوياً على فكرة (تفوق البيض)، وهي تُمارَس مع وجود أيديولوجيا التفوق أو بدونها."
إن ايديلوجية هيمنة الرجل الأبيض وتفوقه، والتمييز الجنسي والعرقي والديني، إضافة إلى أيديولوجيا الهيمنة الذكورية؛ (التي كرسها النظام الأبوي)، والسيطرة على الطبيعة وغيرها، ليست في الواقع مجرد لحظات أو محطة من تاريخ الغرب، بل هي حقيقة الغرب نفسه، (وفق رؤية أنصار الصحوة)، وأن روح الغرب هي روح افتراس وهيمنة منظمة؛ ومن هنا برزت فكرة الاستحقاق الذي ينبغي للغرب أن يؤديه تجاه الأقليات وتجاه كل أولئك المهمشين الذي كانوا ضحايا هذه الهيمنة.
ومهما اختلفت الآراء والمواقف حول تصورات وأفكار أنصار (الصحوة) فإن في آرائهم الكثير من الصواب الذي لا ينبغي تجاهله (وفق اندريه سبونفيل)؛ فالعنصرية لم تختفِ من المجتمع الغربي حتى في الدوائر الأكثر تقدمية، بل اتخذت اشكالاً أكثر حصافة ومكرًا، وكذلك الاستعمار؛ بعد أزيد من نصف قرن على انتهائه، لايزال حاضراً في الرؤوس، وفي علاقات الهيمنة السياسة والاقتصادية والثقافية بين البلدان المُستَعمِرة ومستعمراتها السابقة، التي مازالت تخضع إلى الآن إلى أقسى أنواع الاستغلال. ولا ينبغي أن ننسى أن الدول التي صنعت إمبراطوريات فيما مضى (فرنسا وبريطانيا تمثيلا لا حصرًا)، ظلت أغنى وأقوى من مستعمراتهم السابقة. ولا تمثل أمريكا الشمالية التي كانت مستعمرة بريطانية، سوى الاستثناء الذي يثبت القاعدة.
لكن حركة الصحوة تخطئ، في نظر نقادها الأكثر اعتدالًا عندما تقوم بتقسيم المجتمع وترسيخ هويات معينة استنادًا إلى أساس عرقي أو ديني أو جنسي، لدرجةٍ تخاطر معها في اعتبار أن كل أبيض أو ذكر أو غربيّ هو مذنب بالضرورة، الأمر الذي يفضي في النهاية إلى الوقوع في فخ تقسيم البشر بين (ضحايا) و(خاضعين) من جانب، في مقابل مُستغِلين ومُهيمِنين من جانب آخر، وعند هذا الحد تخاطر الحركة في الوقوع في الشرور ذاتها التي تدعي محاربتها، وتتحول هي نفسها إلى خطر يضاف إلى الأخطار الداخلية لمجتمع منقسم اصلًا؛ ذلك أن تقديم المجتمع الغربي على أنه مجتمع عنصري في جوهره أو مُعادٍ للمثلية أو للآخرين غير البيض، يفضي إلى القول بوجوب محاربته والإطاحة به، وليس هذا وحسب، فقد ذهب التطرف بأنصار هذه الحركة إلى حدِّ التشكيك في حيادية العلوم واستقلالها؛ (وبصورة خاصة، العلوم الإنسانية)، التي لم تفعِّل -وفق تصورهم- سوى تعزيز امتياز وتفوق الرجل الأبيض وهيمنته، وتكريس التمايز الجنسي، ونظروا إلى هذه العلوم على أنّها بمثابة أداة من أدوات السلطة؛ فهي علوم ولدت في رحم مؤسسات السلطة، وخدمةً لأغراضها، واستنادًا إلى هذه الرؤية رفضوا القول بوجود حقيقة موضوعية؛ لأن الحقيقة تتبع في تشكلها وتغيرها وتطورها علاقات السلطة ونظام الهيمنة الذي يفرضها بوصفها حقيقة؛ ولهذا فقد دعَوا إلى القطيعة مع فكرة (حقيقة موضوعية) أو (قيم كونية) يمكن تعميمها، لفائدة (حقائق نسبية)، كما نادوا بضرورة الخروج من فكر الأنوار الذي رسخ مثل هذه الادعاء الذي لم يكن في الواقع سوى أداة سيطرة وإقصاء عززها العقل الأدواتيّ المستند إلى الحجج والبراهين. وأما بخصوص من يزعمون خلاف ذلك باسم العقل أو قيم الدولة ومُثُلها؛ فهم في الواقع عنصريون يجهلون أنهم كذلك؛ إذ يعتقدون أنهم أصحاب نزعات كونية، لكنهم في الواقع ليسوا سوى أصحاب بشرة بيضاء مصابون بعمى الألوان والعنصرية، أو كره الإسلام الذي لا ينكرونه، بل يتباهون به.
في الواقع تفضي طروحات حركة (الصحوة) هذه، (وتحت ستار مناهضة العنصرية والكفاح ضد كافة أشكال التمييز)، إلى نوع من التناقض والمفارقة؛ لكونها تنتهي إلى إضفاء الطابع العرقي أو الهُوياتيّ أو المجتمعيّ الضيق على النقاشات، إلى الحدِّ الذي يفضي إلى خلق تمييز عنصري جديد، من قبيل تنظيم اجتماعات (أحادية الجنس)، أو أنشطة محظورة على البِيض، وهم بذلك يخاطرون بتحويل الصراع الطبقي، الذي تحدث عنه ماركس وانجلز في البيان إلى صراع (أجناس) أو (أنواع)؛ (جندر)، أو صراع كيانات وحركات وتوجهات.
كل هذا يرسم الكثير من الشكوك ويثير القلق بشأن هذه الحركة في الأوساط الفكرية، (وبصورة خاصة في فرنسا). وبعيدًا عن القول: إنّ هذه الحركة تمثل تعبيرًا عن التناقضات الحادة داخل المجتمع الغربي، فإنها تشير في المقابل إلى حيوية هذا المجتمع الذي لا يكفّ -بالرغم من أزماته- عن إخضاع تاريخه وتصوراته وقيمه لمُساءلة دائمة. وهذا يدفعني إلى التساؤل -بصرف النظر عن انحرافات هذه الحركة-: متى نمارس نحن العرب نقداً ذاتياً بخصوص ظواهرنا المَرضيّة المُتعلقة بالتعصب في أشكاله كافة، وكذلك في مختلف صنوف الاستغلال والهيمنة والقمع السياسي؟