يوليوس فلهاوزن: نبوّة بني إسرائيل في مواجهة وثنيّة اليهود | د. علي محمد اسبر

يوليوس فلهاوزن
يوليوس فلهاوزن

اعتقدَ بنو إسرائيل عَبْرَ تاريخهم أنَّ الأسفار الخمسة الأُوَل من التّوراة: (التَّكوين، والخروج، واللاويين، والعدد، والتثنيّة) تُعَدُّ وحيًا إلهيًّا على النبيّ موسى، وكرّسوها تاريخيًّا بصفتها "شريعة موسى"، وسُمِّيَت بعد التَّرجمة السَّبعينيّة للتوراة: (النَّاموس).





ولقد ورد في المبدأ الثَّامن من مبادئ الإيمان التي صاغها الفيلسوف اليهوديّ موسى بن ميمون: "أعتقدُ بكلِّ إيمان أنَّ التَّوراة التي بين أيدينا الآن كلّها هي نفسها التي أُعطيت لمُرشِدنا موسى -عليه السَّلام-."


لكن، ظهرت إشكاليّةٌ أقلقت الحاخامات اليهود عَبْر التَّاريخ؛ ويرجعُ سَبَبُها إلى عبارة تتحدّث عن موت النَّبي موسى في سِفْر التَّثْنِيَة: "فَمَاتَ هُنَاكَ مُوسَى عَبْدُ الرَّبِّ فِي أَرْضِ مُوآبَ حَسَبَ قَوْلِ الرَّبِّ." (تثنية: 34: 5)، وقد ظهرَ في الأصلِ العبريّ لهذه العبارة الفعل الماضي(מת =مات)، ويُنطق مثل العربيّة، فكيف يصحُّ أن يكون سِفْر التَّثنيّة وحيًا على النّبي موسى، ويكون في الوقت نفسه قد أخبرَ عن موته منذ زمن سابق في أرض موآب؟ لذلك كان لا بدّ من افتراض وجود مؤلِّفين لهذه الأسفار. 


بدأت تتنامى نظريّة نقديّة لأسفار النَّبِيِّ موسى منذ عصر التنوير، إلى أن تطورت في القرن التاسع عشر، مع مجموعة من علماء اللاهوت البروتستانت الألمان، واكتمل هذا الاتجاه النقديّ بمجيء المُستشرق واللاهوتيّ البروتستانتيّ الألمانيّ يوليوس فلهاوزن (1844 -1918 م)؛ فوَضَعَ ما يُعرف بالفرضيّة الوثائقيّة الجديدة. 


لم ينكر فلهاوزن الوجود التّاريخيّ للنبيّ موسى، إلا أنّه رفض التصوُّرات اليهوديّة الموضوعة عنه في السُّداسيَّة (Hexateuch)، التي هي مصطلح أدخله فلهاوزن إلى التداول في كتابه (مقدَّمة لتاريخ إسرائيل)، وعَنَى به أسفار موسى الخمسة، إضافةً إلى سِفْر يشوع.  ونبّه إلى أّنه في زمن النَّبي موسى لم تكن التَّوراة قانونًا تشريعيًّا مكتملًا، ولكنها كانت توجيهاتٍ وتعاليمَ شفهيّةً للكهنة، غير أنّهم بدَّلوها ودوَّنوها في نصٍّ مكتوب. 


كان منهج فلهاوزن قائمًا على كشف الانعطافات التاريخيّة للدِّيانة اليهوديّة، عن طريق الفحص النقديّ الأدبيّ للنُّصوص المصدريّة للتَّوراة، وَوَضَعَ على أساس ذلك تمييزًا رئيسًا بين ما أسماها: (إسرائيل ما قبل السَّبي) التي وجّهها روحيًّا أنبياء بني إسرائيل، وبين ما أسماها: (الدِّيانة اليهوديّة ما بعد السَّبي) التي اختلقها الكهنة والحاخامات، على نحو دفع اليهود إلى الغُلُوِّ بأهميّة هيكل أورشليم والتمسّك الأعمى بشعائر زائفة وطقوس متزمِّتة، واهمين بأنَّها ترجع إلى تعاليم النبيّ موسى. 


وكشفَ فلهاوزن أنَّ إنشاء التَّوراة المكتوبة يُعَدُّ سببَ وجود ثغرة بين التَّاريخ القديم لإسرائيل والتَّاريخ اللاحق لليهوديّة، وميّز بين أنبياء بني إسرائيل واليهوديّة الحاخاميّة، أو الكهنوتيّة المصطنعة، التي تطوَّرت لتصبح التَّيار الرئيس لليهوديَّة بعد تدمير الهيكل الثاني عام (70م)، على ما تزعم الرواية اللاهوتية، وفُرضت الطقوس الحاسمة عند اليهود منذ نحو عام 200م، على نحو أدّى إلى تكوين اللاهوت الكِتابيّ. 


ويمكن فهم موقف فلهاوزن على أَساس تتبُّع استقصائه الكرونولوجيّ للدِّيانة اليهوديّة؛ وفقًا لتَحْقِيْبِهِ التاريخيّ للمراحل التي كُتِبَت فيها أسفار موسى من قِبل مؤلِّف واحد أو مؤلِّفين متعدِّدين، فأرجعَ هذه الأسفار إلى أربع وثائق تكشف ينابيعها، وأوضحَ أنَّ كلَّ وثيقة تدلّ على تَعَيُّنٍ تاريخيٍّ لاهوتيٍّ محدَّدٍ للدِّيانة اليهوديّة؛ تبعًا لهيمنة هذه الوثيقة أو تلك على السَّرديّة التوراتيّة. وبَيَّنَ أنَّ تطور هذه الدِّيانة كان تدريجيًّا؛ بدْءًا من عبادة الأصنام التي بلغت ذروتها في زمن تأسيس المَلَكيّة، بدلالة ما تكشف عنه ما أسماها فلهاوزن (الوثيقة اليَهويّة)، -نسبة إلى يهوه-، التي كُتِبَت -إذا أخذنا بالتسلسل الزمني الكتابيّ- في عهد النبيّ سليمان، في القرن العاشر قبل الميلاد، من قِبَل مؤلِّفٍ أو أكثر في مدينة أورشليم غير السَّاحليّة، التي كانت عاصمة مملكة يهوذا (ظهرت بدءاً من الثلث الأخير من القرن العاشر قبل الميلاد حتى تدمير الهيكل الأول من قِبَلِ الإمبراطوريّة البابليّة الحديثة في عام 586ق.م.)،  ورجّحَ فلهاوزن أنَّ هذه الوثيقة اليَهويّة هي الأقدم، وتظهر في أجزاء من سِفْر التكوين والخروج، وتتميّز بأسلوب أدبيّ سَرديّ ونثري، لكن، يُطرح فيها الله من وجهة نظر لاهوتيّة حشويّة، تدلُّ على فهم تَجْسِيميّ أو تَشْبيهيٍّ؛ بإضفاءِ الصِّفات البشريّة عليه، من قبيل: "وَسَمِعَا صَوْتَ الرَّبِّ الإِلهِ مَاشِيًا فِي الْجَنَّةِ عِنْدَ هُبُوبِ رِيحِ النَّهَارِ، فَاخْتَبَأَ آدَمُ وَامْرَأَتُهُ مِنْ وَجْهِ الرَّبِّ الإِلهِ فِي وَسَطِ شَجَرِ الْجَنَّةِ." (تكوين:3: 8). 


لكن، يركز فلهاوزن على أنَّ الوثيقة اليهويّة تقدّم معلومات تاريخيّة غنيّة أكثر من الوثائق الأخرى؛ إذ طُرِحَ فيها النبي موسى -تحديدًا في سِفْر الخروج- بصفته منقذاً لشعبه من المصريين. 


ثم تخلَّصت الدِّيانة اليهوديّة تدريجيًّا من عبادة الأصنام، إلى أن بلغت ذروتها التوحيدية، ويتبيّن ذلك تبعًا للوثيقة الإلوهيميّة (نِسْبَةً إلى إلوهيم=إله إسرائيل بصيغة الجمع للتَّعظيم: אלהים). وحَدَّدَ فلهاوزن ظهور نمط السَّرد الإلوهيميّ على أساس تجلِّي الله لموسى للمرَّة الأولى: "فَقَالَ مُوسَى للهِ: هَا أَنَا آتِي إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَقُولُ لَهُمْ: إِلهُ آبَائِكُمْ أَرْسَلَنِي إِلَيْكُمْ. فَإِذَا قَالُوا لِي: مَا اسْمُهُ؟ فَمَاذَا أَقُولُ لَهُمْ؟ فَقَالَ اللهُ لِمُوسَى: أَهْيَهِ الَّذِي أَهْيَهْ. وَقَالَ: هكَذَا تَقُولُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: أَهْيَهْ أَرْسَلَنِي إِلَيْكُمْ." (خروج: 3: 13-14)، وتعني عبارة: "أَهْيَهِ الَّذِي أَهْيَهْ": (أنا الَّذي هو أنا، أي: الله هو الله، ولا يمكن كشف حقيقته)، وكانت هذه الفكرة تدلّ على أعلى تصوّر توحيديّ عند اليهود -في رأي فلهاوزن-، وتظهر هذه الوثيقة الإلوهيميّة في أجزاء من أسفار التكوين والخروج ويشوع، وكُتِبَت من قبَلِ مؤلِّف أو عدّة مؤلِّفين في القرن التَّاسع قبل الميلاد، أو في القرن السَّابع قبل الميلاد، في (مملكة إسرائيل الشَّماليّة). 


وتُعَدُّ الوثيقةُ التَثْنَوِيّة (نِسْبَةً إلى سِفْر التَّثنية) استطالةً للوثيقة الإلوهيميّة، ألَّفها مُشرِّع من أورشليم في عهد يوشيا ملك يهوذا، في نهاية القرن السابع قبل الميلاد، في أواخر عهد مملكة يهوذا، وتعطي تعبيرًا أيديولوجيًا عن إصلاح يوشيا ملك يهوذا. 


وعلى النقيض من الوثائق الثلاثة السَّابقة المتشابكة في أسفار التَّوراة المختلفة، فإنَّ الوثيقة التثنويّة تُعَدُّ في معظمها وحدة واحدة تتمركز في سفر التَّثنية، ومحتواها سرديّ محدود، ويعتمد إلى حدٍّ كبير على الوثيقة الإلوهيميّة، ويظهر فيها توكيد على تركيز العبادة في هيكل واحد لربٍّ واحدٍ؛ تماشياً مع إصلاح يوشيا. 


ويمكن أيضاً –في رأي فلهاوزن- التعرُّف على المرحلة القديمة من دين إسرائيل في أسفار صموئيل، والقضاة، والملوك. أمّا في مرحلة المنفى، فقد سادت الديانة اليهوديّة الزائفة. وقال فلهاوزن برجوع نوع من الانحطاط إلى الدِّيانة اليهوديّة بسبب هيمنة التَّوراة الكهنوتيَّة في زمن الهيكل الثاني، وَمَرَدُّ ذلك إلى ما أسماه الوثيقة الكهنوتيّة (نسبةً إلى الكهنة)، كتبها كهنة أورشليم -وهي كلام مُلَفَّق-، يضم أغلب سِفْر اللاويين وإصحاحات كثيرة في التكوين والخروج، ويظهر في هذه الوثيقة اهتمام خاصّ بالعمل القربانيّ، ومسائل النَّجاسة والطَّهارة وقواعد الصلوات. وفي تقدير فلهاوزن، يرجع تاريخ تأليف هذا المصدر إلى مرحلة السَّبي البابليّ (597-539 ق.م)، أو مرحلة الهيكل الثاني، وهي آخر وثيقة ظهرت، ويعود تاريخها إلى ما بعد كتاب التثنية؛ لأنها تعبِّر عن طبيعة العبادة الطقسيّة التي كرَّسها الكهنة في شعب إسرائيل بعد السَّبْي. وأكّد فلهاوزن على أنَّ الوثيقة الكهنوتية حين أظهرت موسى بصفته مؤسِّسًا للشريعة، أخرجته من تراثه وأبعدته عن عصره الحقيقيّ.


وقد نَبَّهَ فلهاوزن إلى أنَّ أنبياء بني إسرائيل قاموا بدور حاسم في تحويل الدِّيانة الشَّعْبِيَّة القديمة ذات الطابع الوثنيّ المشابه لبيئة الشَّرق الأدنى القديم، إلى ديانة توحيديّة اعتنقها عدد من النّاس، تمَّ التَّواضع تاريخيًّا على تسميتهم باليهود. ونبّه إلى أنَّ التَّوراة تنضوي على عناصر وثنيّة، على عكس تعاليم أنبياء بني إسرائيل، وارتأى أنه بسبب التَّوراة والتَّعاليم الحاخامية تلوثت الدِّيانة الحقيقية للأنبياء، ونكصت الدِّيانة اليهوديّة إلى مرحلة الوثنيّة، فالتُّراث الإسرائيليّ الحقيقيّ يرجع لمرحلة ما قبل السَّبي، أي حقبة ما قبل 586 قبل الميلاد. من هنا حاول فلهاوزن كشف العناصر الوثنيّة في اليهوديّة ليثبت صحة أطروحته، علمًا أنَّ هذه العناصر ترجع إلى مرحلتين: الأولى تعود إلى بداية هداية الأنبياء للوثنيين، أما الثانية، فتعود إلى ما بعد السَّبي. ولقد قام فلهاوزن بالفعل بنشر كتابه (بقايا الوثنيَّة العربيَّة)؛ ليكشف أوجه التشابه بين الدِّيانة اليهوديّة والدِّيانات الوثنيّة للعرب قبل الإسلام، فأكّد أنَّ اليهود كانوا يعبدون الإلهة العُزَّى التي عُبدت في الجزيرة العربيّة -تحديدًا في سبأ-، واسمها عند السوريين القدماء واليهود (Kaukabta كوكابتا=النَّجمة=الزُّهرة=مَلِكة السَّماوات). وكانت النِّساء العربيّات الوثنيّات يتضرَّعن إلى العُزَّى من على أسطح المنازل؛ من أجل زيادة جمالهِنَ وفِتْنَتِهِنَ، وهو شكل من أشكال العبادة المناسبة للإلهَةِ النَّجمة. 


وهذا ما اكتشفه فلهاوزن في سفر إرميا الذي وَبَّخَ فيه النبيّ إرميا النِّساء اليهوديات لأنهن هَدَمْنَ صهيون بتقديم التضحيات لكوكابتا (=العُزَّى)، فجاء ردّ النِّساء عليه: "وَلكِنْ مِنْ حِينَ كَفَفْنَا عَنِ التَّبْخِيرِ لِمَلِكَةِ السَّمَاوَاتِ وَسَكْبِ سَكَائِبَ لَهَا، احْتَجْنَا إِلَى كُلٍّ، وَفَنِينَا بِالسَّيْفِ وَالْجُوعِ. وَإِذْ كُنَّا نُبَخِّرُ لِمَلِكَةِ السَّمَاوَاتِ وَنَسْكُبُ لَهَا سَكَائِبَ، فَهَلْ بِدُونِ رِجَالِنَا كُنَّا نَصْنَعُ لَهَا كَعْكًا لِنَعْبُدَهَا وَنَسْكُبُ لَهَا السَّكَائِبَ؟" (سِفر إرميا: 44: 18-19).


وعُني فلهاوزن بالتركيز على فكرة الفرديّة، أي الفرد النبيّ، ويمثّله هنا إرميا الذي يواجه وحيدًا المجتمع الوثني الذي يمثّله اليهود، ويُعَدّ إرميا -في رأيه- آخر الأنبياء، وانتهى معه تاريخ أنبياء بني إسرائيل. 


تقوم نظريّة فلهاوزن على استبعادِه كلًا من أسفار التَّوراة والدّيانة اليهوديّة التي وضعها الكهنة، وعلى محافظتهِ في المقابل على وجودٍ تاريخيّ معيّن لإسرائيل التي كانت موجودة -في رأيه- في مراحل محدّدة من العصرِ الحديديِّ الذي امتدَّ من نحو عام 1200ق.م إلى عام 500 ق.م، أي: إسرائيل التي لا تُفصح التوراة المكتوبة عن حقيقتها، ولا ما قام بتلفيقه الحاخامات عنها. 


لكن عنصر الضعف في منهج فلهاوزن النَّقدي الذي يُسمّى النَّقد الأعلى، هو الإهمال الكامل لنقد جغرافيا إسرائيل الزائفة التي اختلقتها أسفار زائفة، فالمُستغرب هو إنكاره لصحة التَّوراة المتداولة بين اليهود، وتسليمه في الوقت نفسه بالوجود الجغرافي المزعوم لـ(إسرائيل)، الذي تؤكده هذه التوراة نفسها!