بلاغة الجملة الفعليّة في سرد الحكاية | خليل صويلح

تعبيرية
تعبيرية

اخترع الأجداد حلّاً سحرياً لمقاومة جفاف ضرع الناقة أو البقرة بعد موت وليدها، وذلك بأن يُحشى جلد الحِوَار -بالنسبة للناقة- والعجل -بالنسبة للبقرة- تبناً، وتُوضع له ركائز خشبية مكان أرجله، ويوضع أمام الناقة أو البقرة حتى تدّر حليباً وتُحلب. هذا الاختراع المزيّف يدعى (البو)، وهو بمثابة الغلاف الخارجي للرواية أو الكتاب مهما كان تصنيفه، (احذروا فخاخ العناوين، وما يُكتب من تقريض مجاني على الغلاف الأخير). والحال أنّ القارئ سيكتشف -من دون عناء- تلك الروايات أو الكتب المنتفخة تبناً عن سواها، كما أن الحليب الاصطناعي الذي سوف يسيل من الصفحات، سيكون خالياً من الدسم. تكمن المعضلة السردية إذاً بهزال الركائز الخشبية، أو الرافعة اللغوية التي تحمل الثقل التخييلي للنصّ ووضعه في مقامٍ آخر.





نتذوّق لغة الرواية -على نحوٍ خاص- من الدفقة الأولى، كما لو أنها رشفة من حليب النوق، الحليب الذي يشفي من هشاشة العظام. ما إن يجنح السرد نحو الوصف في مفتتح رواية ما، سيكتشف المتلقي حاجته إلى أفعال، إلى خبط أجنحة طيور تحرّك المياه الراكدة، لطخة لون فوق القماشة البيضاء، ستُمحى تحت طبقات اللون اللاحقة.


 كانت جدّتنا الأولى شهرزاد في (ألف ليلة وليلة) أول من اكتشف أهمية الجملة الفعلية في سرد الحكاية، وقد أهدتنا جملة عظيمة عبرت مختلف القارات واللغات، من دون حواجز: "بلغني أيها الملك السعيد"؛ جملة مفتاحية ستكبّل شهوة شهريار للقتل، وإذا بالحكي ينتصر على السيف، حكايةً وراء حكاية، عن طريق تذويب السرد بالعبرة. أظن أن الملك أصبح سعيداً بعد انصاته للحكاية لا قبلها، واستبداله الحبر بالدم الذي كان يسيل من الأعناق، وتالياً، فإن شيفرة شهرزاد تكمن في الرهان على الجملة الفعلية المفيدة بوصفها طريقاً للنجاة. 


ثمَّ إنّ أحد مصادر (بلغَ) هي البلاغة، وفي مرآةٍ أخرى "بلغَ: أدرك سن الرشد"، ثمّ "البلاغة الإيجاز". اليوم، في ظلّ تدفق العناوين الروائية بلا هوادة، ينبغي تصنيف الروايات إلى طبقتين: رواية سنّ الرشد، ورواية ما قبل سنّ الرشد، بصرف النظر عن البدانة أو الكثافة من جهة، وفزّاعة اسم الروائي من جهةٍ ثانية. 


على المقلب الآخر، سوف تعلّمنا شهرزاد أهمية الأحلام في تعزيز فتنة الحكي، الأحلام التي تحلّق عالياً في تطوير عمل المخيّلة. في الحكاية الحادية والخمسين بعد الثلاثمئة من (ألف ليلة وليلة)، يحلم رجل في القاهرة بأن صوتاً يأمره في المنام بالذهاب إلى أصفهان، حيث ينتظره كنز هناك (في نسخٍ أخرى تجري الحكاية بين بغداد والقاهرة)، بعد رحلةٍ طويلة وشاقة يصل أخيراً إلى أصفهان؛ بسبب تعبه من الرحلة يقرّر أن يستريح في فناء مسجد، فيجدّ نفسه بالقرب من دارٍ للصوص، سوف تداهمهم الشرطة وتلقي عليهم القبض جميعاً، بما فيهم رجل المنام، يسأله القاضي عن سبب مجيئه إلى المدينة، فيخبره السبب، يضحك القاضي ويقول له: "لقد حلمتُ ثلاث مرات ببيت في القاهرة، تحيط به حديقة ونافورة وشجرة تين، وتحت النافورة يوجد كنز، لكنني لم أصدّق هذه الكذبة"، حين يعود الرجل إلى بيته الذي حلم به القاضي، يحفر تحت النافورة، ويجد كنزاً.


عدا عن استثمار باولو كويلو لهذه الحكاية المدهشة في روايته "الخيميائي"، سنقع على زخم من الأفعال المتواترة والكنوز التخييلية التي تشدّ عضد السرد بقوة الحلم أو الخيال أو النبوءة، وصولاً إلى الضربة المؤثرة (الكنز بين يديك)، وبمعنى آخر: كي تكتب جملة سردية مفيدة، فتّش في الجوار؛ ذلك أن الضربة الحاسمة على بعد خطوات منك، قد تكمن في جزء من المنظر الذي نجا من عتمة ستارة النافذة المكشوفة قليلاً على الخارج، أو في المسافة الفاصلة بين غرفة المعيشة والمطبخ، أو في مكالمة هاتفية لم يُرد عليها، أو شامة في مفرق العنق، أو في مجاز مباغت، فالرواية في نهاية المطاف برج مراقبة يسجّل لحظات الحضور والتخفّي، واقتناص هذه اللحظات في التوقيت الحاسم بقصد توطينها، كما لو أنها لعبة بازل.


 وتالياً، فإن (الليالي العربية) تجاوزت الليلة الألف بليلة واحدة، كي لا تكون نهائية، على غرار عبارة" إلى الأبد ويوم". 

يقارن خورخي بورخيس بين بناء الكاتدرائيات وكتاب (ألف ليلة وليلة)؛ موضحاً أن فناني وحرفيي الكاتدرائيات كانوا يعرفون ما يفعلون، في حين أن حكايات ألف ليلة وليلة هي عمل آلاف المؤلفين، وليس بينهم من كان يعلم أنه يشارك ببناء هذا الكتاب الغامض. ربما كان على بورخيس أن يقول: "هناك آلاف المؤلفين، وشهرزاد واحدة". ووفقاً لما يقوله الجدّ العظيم الجاحظ في كتابه (البيان والتبيّين): "المعاني مطروحة في الطريق، وإنما الشأن في تخيّر اللفظ، وصحة الطبع، وكثرة الماء، وجودة السبك". 


في الرواية نحتاج إلى قوانين إسبارطه الصارمة في تزييت عجلات السرد تقنياً، وإلى عاطفة إيثاكا بعناق خرائط مختلف الأجناس الإبداعية، من دون الالتفات إلى وصايا وآثام ورقابة القواعد الراسخة، ثم هناك الرؤية الجمالية للنص التي يقول عنها ميلان كونديرا: "لا تتحدد فقط فيما كتبه المؤلف، بل في ما حذفه أيضاً".


هناك من يزن الكلمات بميزان الذهب، بوحدة الغرام، وهناك من يبطش بها مستعملاً ميزان البضائع، وإذا به يؤكد، من دون التباس، معنى المثل العربي القديم "أحشفاً وسوء كِيلة؟".


يروي غابرييل غارسيا ماركيز بأنه استنجد بعشرات الأصدقاء أثناء تحضيره لكتابة روايته (الجنرال في متاهته)؛ لتزويده بوثائق عن القرن الثامن عشر، تخصّ حياة الجنرال سيمون بوليفار وزمنه، فإذا بصندوق بريده يزدحم بآلاف الوثائق التي تتعلّق بشخصية الجنرال، بما فيها قصاصات الصحف، واستنفار الهاتف بمكالمات استفسارية من أصدقاء مختلفين عن صحة هذه الوثيقة أو تلك. 


بالطبع، لم يقرأ ماركيز كل هذه الوثائق بالعناية نفسها، لكنه حرص على معرفة كل ما يخص ذلك الزمن، بما فيه أصباغ الأقمشة التي كانت متوفّرة حينذاك، يقول موضحاً مشقة العمل على رواية تاريخية من هذا الطراز: "رحتُ أغوص طوال أكثر من سنتين في الرمال المتحرّكة لوثائق جارفة ومتناقضة وغير مؤكدة في أحيانٍ كثيرة، وجاء افتقاري المطلق إلى تجربة البحث التاريخي ومنهجه ليجعل أيامي أكثر مشقّة"، وسوف يشكر أحدَ فلكيي أكاديمية العلوم الكوبية الذي قام بتقصي الليالي التي كان فيها القمر بدراً خلال السنوات الثلاثين الماضية. 


هذه الإشارات التي أوردها ماركيز تثير الرعب حقاً؛ لجهة تحضير حطب الرواية قبل إشعال الموقد وتوهّجه بنار التخييل، فما بالك بمن يكتفي بقلم (بيك) ودفتر سلك من مئتي صفحة، أو شاشة كمبيوتر وذاكرة عشوائية فقط؟ يقول إدوارد غاليانو بهذا الصدد: "أنا لا أطلب منك أن تصف سقوط المطر، أنا أطلب منك أن تجعلني أتبلل، فكّر بالأمر، أيُّها الكاتب". 


في (المطبخ الروائي)، احذر دلق المقادير كيفما اتفق، سوف يؤدي ذلك إلى احتراق الطبخة، وتحوّلها إلى كتلة فحم. ولكن مهلاً، انتبه إلى إصلاح العطل في الصنبور، هناك ماء أو حبر، يتسرّب من بين الشقوق، فوق رخام السرد، الرطوبة تفسد طلاء الجدران.

ثم لنتأمل ما قاله غيوم ميسو: "مهنة الروائي ليست وظيفة دوامها جزئي، إذا كنت روائياً فستكون روائياً على مدار الساعة".