إنّ نظرة بسيطة منطقية في الدِّين الذي يُراد له أن يكون عالميًّا، تجعل من يفكّر بالحدّ الأدنى من القواعد المنطقية يجزم بإنّ هكذا دين يجب أن يكون متماهيًا مع حياة البشر الطبيعية وسلوكيّاتهم الفطريّة؛ فمن سيوجب هذا الدّين هو نفسه خالق البشر وحياتهم، فهل يُعقل أن يتقاطع ما يفرضه من دين مع ما تتطلبه طبيعتهم التي خلقهم عليها؟
هكذا بدأ تفكيري العميق في الدّين، وقد رأيته بصورته التقليدية الشّائعة يشكّل حاجزا يمنع المتديّن من الاندماج مع الحياة والانسياب مع تيّاراتها الطبيعيّة، حتّى إنّ مثل هذا التديّن ليتحوّل هدوءًا مذبوحًا يعتري وجه صاحبه، أو حزنًا يعكس اكتئابًا عميقًا ولّده في جذور النّفس، نتيجة معاكسة صاحبها لاتّجاه التدفّق الطبيعيّ لنهر الحياة، تحت تأثير سطوة التديّن.
لم يكن من ملاذ أخير أرجع إليه لأفكّ عقدة هذا اللغز إلا الإعراض عن كلّ ما عِشْتُ معه سنوات طويلة؛ (كتب الموروث الديني)، والعودة للنصّ الأصيل الذي يفترض أن تكون هذه الموروثات قد جعلته منطلقًا لها، وإنّي أقول للقارئ الكريم بكلّ أمانة: لقد أصابتني أكبر صدمة في حياتي عندما تجرّدتُ تمام التجرّد ونظرتُ في النصّ القرآني دون افتراضات مسبقة.
ذُهِلتُ كلَّ الذّهول وأنا أوظّف قواعد تحليل الخطاب؛ قصْدَ فهم الآية الكريمة: ﴿كَانَ ٱلنَّاسُ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗ فَبَعَثَ ٱللَّهُ ٱلنَّبِيِّـۧنَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّ لِيَحۡكُمَ بَيۡنَ ٱلنَّاسِ فِيمَا ٱخۡتَلَفُواْ فِيهِۚ وَمَا ٱخۡتَلَفَ فِيهِ إِلَّا ٱلَّذِينَ أُوتُوهُ مِنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَتۡهُمُ ٱلۡبَيِّنَٰتُ بَغۡيَۢا بَيۡنَهُمۡۖ فَهَدَى ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لِمَا ٱخۡتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ ٱلۡحَقِّ بِإِذۡنِهِۦۗ وَٱللَّهُ يَهۡدِي مَن يَشَآءُ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٍ٢١٣﴾البقرة؛ ذلك أنّ نظرة بسيطة في سياق الآية تجعل المتدبّر لها يعرف النّتائج التالية:
أولا: عاش النّاس فترة زمنيّة من غير أن يكون فيهم أنبياء.
ثانيًا: حصل اختلاف بين النّاس في بعض الأحكام التي ينبغي أنْ تنظّم حياتهم في مرحلة لاحقة من وجودهم.
ثالثا: بعث الله النبيين وأنزل معهم الكتب ليحكم بين النّاس في هذا الاختلاف.
وفي الآية تقدير يفرضه سياقها، وهو: (كان النّاس أمّة واحدة فاختلفوا)؛ يفهم ذلك من قوله تعالى في الجزء التالي منها: (وَأَنزَلَ مَعَهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّ لِيَحۡكُمَ بَيۡنَ ٱلنَّاسِ فِيمَا ٱخۡتَلَفُواْ فِيهِۚ)؛ وقد صرّحت سورة يونس بهذا التقدير في قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ ٱلنَّاسُ إِلَّآ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗ فَٱخۡتَلَفُواْۚ وَلَوۡلَا كَلِمَةٞ سَبَقَتۡ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيۡنَهُمۡ فِيمَا فِيهِ يَخۡتَلِفُونَ ١٩﴾يونس.
يعلم كلّ قارئ للنص القرآني أنّ تكليف البشر كان منذ اللحظة الأولى لإهباطهم إلى الأرض: ﴿قُلۡنَا ٱهۡبِطُواْ مِنۡهَا جَمِيعٗاۖ فَإِمَّا يَأۡتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدٗى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ٣٨﴾البقرة، فماذا يمكن أن نفهم من جمع الفكرتين اللتين تطرحهما الآيتان؟ لعلّك أيّها القارئ الكريم أدركت أنّ الهدى الذي تتحدّث عنه هذه الآية سيكون حتمًا ما كان عليه النّاس حين كانوا أمّة واحدة، وأنّ هذا الهدى لم يكن مفتقرًا للأنبياء والكتب ليعرفه النّاس، وذلك لا يعني إلا نتيجة واحدة مذهلة، وهي أنّ الهدى هو الفطرة الأولى أو ما يمكن أن نسميّه بلغة العصر (برنامج التشغيل الأصليّ)، ذلك البرنامج الذي يندفع به الإنسان نحو الحياة بحبّ وشغف، ويسعى لتحقيق حاجاته الطبيعية بعفْويّة وسلاسة ضمن نظام اجتماعيّ مستقرّ، وُجد بالخلق الأولّ للبشر؛ فهم مدنيّون بالطّبع، وقد زُرِع في ضمير كلّ واحد منهم وازع ينظّم علاقته بأخيه الإنسان.
لا يزال مِصداق هذا الاستنتاج مشهودًا للباحثين كلّما عثروا على قبيلة أو شعب في بعض أدغال إفريقيا؛ (مثل قبيلة الباكا (Baka) في غابات الكاميرون والغابون)، أوفي جزر آسيا؛ (مثل قبيلة الجاروا (Jarawa) في جزر أندامان- الهند)، أو في مرتفعات أمريكا الجنوبية؛ (مثل قبيلة الماشكو-بيرو)؛ حيث تعيش هذه القبائل على الصيد والزراعة وجني الثمار، وتتعاون فيما بينها تعاونًا ضروريًّا تفرضه طبيعتهم الأصلية، وحياتهم الطبيعية، ويعيشون في سلام لا يخرقه إلا ظروف خارجيّة في معظم الأحيان، ولا يعرف الفتور أو الاكتئاب ورفض الحياة إليهم سبيلًا.
إنّ أهمّ ما يعنيه هذا الاستنتاج المعزّز بالوقائع هو أنّ ما بُعثَ به الأنبياء ونزلتْ به الكتب بعد ذلك لن يكون له إلا هدف كبير واحد؛ هو إعادة النّاس لفطرتهم الأولى بعد أن تطرّق إليها انحراف أو بعض انحراف، وما سمّاه النصّ القرآني (هدى) في الآية التي بيّنتْ تكليفهم باتبّاع الهدى منذ لحظة إهباطهم، والذي بيّنا أعلاه أنّه فطرة الناس الأولى، هو عين الهدى الذي تحدّثت عنه هذه الآية حين قالت: (فَهَدَى ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لِمَا ٱخۡتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ ٱلۡحَقِّ بِإِذۡنِهِۦۗ)، وهو بالضرورة إذًا عين الصّراط المستقيم الذي ختمت به الآية: (وَٱللَّهُ يَهۡدِي مَن يَشَآءُ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٍ).
يُظهر الأصل اللسانيّ العربيّ لكلمة (أمّة) بوضوح علاقتها المباشرة بكلمة (أمّ)؛ والأمّ نظام فطري متكامل يكتنز غريزة الأمومة أوّلا، واحتضان الطفل ورعايته حتّى آخر مراحل حياته ثانيا، وينطوي أيضًا على ارتباط الطّفل بأمّه؛ بدءًا بلحظة تشكّله من جسمها، مرورًا بلَقْمِهِ ومصّهِ ثديها وفق برنامج مسبق، وصولًا إلى ارتباطه الوجدانيّ الدائم بها، ويمتدّ هذا النّظام ليشمل مجموعة الأبناء كلّهم تحت مظلّة الأمّ، والأمّ والأبناء في ذلك لا يحتاجون لأيّ تكلّف لتكريس هذا النّظام، ولا يتطرّق له في الوضع الطبيعيّ أيّ اختلال، فالنّظام كمجرى النّهر، وهم فيه كالماء ينساب بكلّ سلاسة.
إنّ الأمّة الواحدة (التي هي أصل البشر) ليست إلّا صورة مكبّرة وموسّعة لمنظومة الأمّ، ينساب فيها أفرادها نحو حياتهم الطبيعية بكلّ سلاسة ودافعيّة وشغف، هكذا كان حال البشر الأول فيما أوضحناه من مقتضى النصّ القرآني، وهكذا هو حال كلّ نموذج لا يزال بمعزل عمّا أحدثه البشر بعد ذلك من انحرافات.
وبحكم أنّ منهج التدبّر يصدّق أو يكذّب ما يمكن اعتباره استنتاجًا أوليًّا لكلّ باحث في النصّ القرآني، فقد ذهبت متدبّرًا هذا التركيب (أمّة واحدة)، فوجدته في سورة الأنبياء تاليًا لسردِ السّورةِ قصصَ مجموعة من الأنبياء؛ (موسى وإبراهيم ولوط وداود وسليمان وأيوب وذي النّون وزكريا)، ثم جاءت الآية الكريمة التالية بعد كلّ ذلك: ﴿إِنَّ هَٰذِهِۦٓ أُمَّتُكُمۡ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗ وَأَنَا۠ رَبُّكُمۡ فَٱعۡبُدُونِ ٩٢﴾الأنبياء، وفي سورة (المؤمنون)، ذكرت قصّة الرسول نوح ثمّ رسولٍ بعده، ثمّ أشارت الآيات لتتابع الرّسل، وأُنهي السّياق بالرّسل: موسى وهارون وعيسى، ثمّ جاءت هاتان الآيتان: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَٱعۡمَلُواْ صَٰلِحًاۖ إِنِّي بِمَا تَعۡمَلُونَ عَلِيمٞ٥١ وَإِنَّ هَٰذِهِۦٓ أُمَّتُكُمۡ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗ وَأَنَا۠ رَبُّكُمۡ فَٱتَّقُونِ٥٢﴾المؤمنون.
إنّ من الواضح تمامًا الآن، أنّ ذكر هذا التركيب (أمّة واحدة) بعد سرد جانب كبير من قصص المرسلين، ليؤكّد صحّة الاستنتاج الذي خرجنا به من التحليل النصّي السياقيّ لآية سورة البقرة، فكلّ رسالات الأنبياء دارت حول العودة للوضع الأصلي الذي كان عليه البشر قبل مبعث المرسلين؛ وهو وضع الأمّة الواحدة، ويلاحظ في سورة (المؤمنون) أنّ النصّ خاطب الرّسل عمومًا بأمرين هما جِماع الحياة الطبيعية التي وصفناها في ثنايا هذا المقال: (كُلُواْ مِنَ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَٱعۡمَلُواْ صَٰلِحًاۖ)، حيث تمثّل الجملة الأولى (كُلُواْ مِنَ ٱلطَّيِّبَٰتِ) حياة الفرد؛ وواجبُه الطبيعي فيها أن يسدّ حاجاته بالطبيّبات من المأكل والمشرب وغيره من كلّ ما فيه تغذية لذاته جسدًا ونفسًا، وتمثّل الجملة الثانية (وَٱعۡمَلُواْ صَٰلِحًا) النظام الطبيعي لتعامله مع سائر أفراد الأمّة، ثمّ عقّب سبحانه بعد هذا بقوله: (وَإِنَّ هَٰذِهِۦٓ أُمَّتُكُمۡ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗ)، فكانت الجملتان السابقتان للآية تفصيلًا واضحًا لا مزيد عليه لمفهوم الأمّة الواحدة، وكان هذا التفصيل متوائما تمامًا مع الطبيعة البشرية الأولى، وهو عين ما جاء الرّسل به لإصلاح ما فسد منها.
حقًا، وبكلّ هذه السلاسة يبدو الدّين بعد تنقية الفكر من الشوائب التي كانت عالقة به، ولدى النّظر إليه من خلال النصّ القرآني الحكيم، مقارنة بالصّورة الشّديدة القتامة العسيرة التطبيق المعاكسة لنظام الحياة، كما رسمتها الموروثات. وللمقال صِلة.