وما سأبدأ به هذا المقال هو السّياق المركزي في القرآن الكريم كلّه الذي يتحدّث عن هذا الاعتبار لكلمة الإسلام، فأضعه بين يدي القارئ ونصب عينيه، ثمّ أتناوله بالتحليل اللساني النصّي لأصل منه إلى الدلالة الحقيقية لمفهوم (الإسلام) دينًا.
(وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ 81 فَمَن تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ 82 أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ 83 قُلْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ 84 وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ 85) آل عمران
إنّ كلّ وحدة نصيّة متكاملة لا بدّ أن تتضمن جملة مركزية تكون بمثابة البكَرة التي تحدد اتّجاه دوران الحبل وامتداد أطرافه، ولتحديد الجملة المركزية في هذا الوحدة النصيّة تتبَّعنا سياق النصّ فوجدناها قوله تعالى: (أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) 83؛ فقد بدأ السياق بقوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ 81 فَمَن تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)، وأنت تلاحظ في هذا الجزء من النصّ أنّه يتحدث عن ميثاق يربط النبيين السابقين لرسولٍ يأتي بعدهم بهذا الرسول نفسه، بما يوجب عليهم الإيمان به ونصرته ما دام أنّه مصدّق لما معهم، ويوضّح أنّ من يتولّى عن ذلك مستحقّ لوصف الفسق، ولكنّ النصّ لم يوضّح ما هو مضمون الكتاب والحكمة التي أوتيها النبيون، ولم يُفهم بالتّالي ما الذي صدّق به الرّسول اللاحق لهم؛ ولذلك فلا يمكن أن يكون هذا الجزء من النصّ هو مركزه.
ثمّ بعد هذا الجزء من النصّ مباشرة جاءت الآية التي اعتبرناها مركز السّياق؛ لأنّك ستجد فيها ما يجعلك تفهم مضمون الكتاب والحكمة وما جاء به الرّسول اللاحق مصدّقًا لمن سبقه من الأنبياء، كما أنّها قدّمت الحجّة الأعلى والأقوى للزوم هذا الميثاق؛ وهي أنّ كلّ من في السماوات والأرض من الموجودات قد أسلم لله طوعًا وكرهًا، فهو الأساس المرجعي لهم جميعًا ﴿وَإِلَيۡهِ يُرۡجَعُونَ﴾، وبتوظيف قواعد نحو النصّ يظهر غاية الظهور أنّ واو الجماعة في الفعل (يبغون) تعود بالأساس على النبيين المذكورين في الآية السابقة، وينبغي إذًا أن يكون مصطلح ﴿دِينِ اللّهِ﴾ المذكور هو ما أوتيه النبيّون جميعًا ﴿كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ﴾، وهو نفسه ما صدّق به الرّسول اللاحق ﴿ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ ﴾، وهو إسلام مَن في السماوات والأرض لله طوعًا وكرهًا، وبهذا تعرف أنّ مصطلح ﴿دِينِ اللّهِ﴾ هنا هو مركز الخطاب وبؤرة السّياق؛ فبِه تترابط الجمل الواردة فيه محقّقة حبك النصّ.
ولنسهّل المعنى فيكون قريب التناول نقول: ليس في النصّ ما يوضّح مضمون الكتاب والحكمة التي أوتيها النبيون، وليس واضحًا بالتّالي ما الذي جاء الرّسول اللاحق مصدّقًا به، وقد وصفت الآية المركزية الأمرين بالوصف ﴿دِينِ ٱللَّهِ﴾، فربطت خيوط النصّ بعقدة واحدة، فإنْ فهمنا ما هو دين الله المذكور انكشفت جميع أبعاد النصّ. هذا، وإنّ الآية قدّمت نموذجًا كونيًّا لدين الله ليفهم به مدلوله، والتوضيح بالمثال هنا أبلغ بكثير من التوضيح بتطويل المقال، والمثال هو: ﴿وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ﴾، وبهذا، فالنصّ يحيلنا إلى النظر في حركة مَن في السماوات والأرض وسيرورتهم، فمتى ما أدركناها فهمنا بالمثال ما هو ﴿دِينِ ٱللَّهِ﴾، وفهمنا أيضًا مضمون الكتاب والحكمة التي أوتيها النبيون وصدّق بها الرّسول اللاحق لهم، وعرفنا بالضرورة أنّ هذا هو مضمون الكتاب والحكمة التي أوتيها جميع النبيين، وهو نفسه ما جاء الرّسول اللاحق مصدّقًا به.
وإنّ الناظر في السماوات والأرض ومن فيهما ليرى أنّ الجميع يسير منسابًا في اتّجاه سنن الله (ما يسمّى اليوم قوانين العلوم) لا يحيد عنها عنصر واحد، يدخل في ذلك أعلى هذه الموجودات وهم البشر العاقلون في حركاتهم اللاإرادية، وفي صيرورة وجودهم، ومراحل حياتهم وموتهم؛ ولعلّ ذلك هو السرّ في استخدام الاسم الموصول (مَن)، كما أنّه بعض السرّ في استخدام كلمة (كَرهًا)؛ فالبشر لا يملكون أن يغيروا سنن تخلُّقهم ووظائف أعضائهم ومراحل صيرورة حياتهم وسننها النّاظمة لها، وهم خاضعون لها وإن كرهوا ذلك، وما سواهم ممّا هو أقلّ درجة داخل بالضّرورة في فحوى الخطاب، وسائرٌ وفق سنن الكون طوعًا؛ فلا يتأتى منه الكره أصلًا.
ولو نظرنا بعد هذه الآية المركزية مباشرة سنجد قوله تعالى: (قُلْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ 84 وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ 85)، وهذ الجزء من النصّ يعود ليستخدم المفاهيم دون توضيح لها؛ (مَآ أُنزِلَ)، (مَآ أُوتِيَ)، (ٱلۡإِسۡلَٰمِ)، ويكون هذا الجزء من النصّ أيضًا مستندًا في فهم دلالة ما غمض من مفاهيمه على الآية المركزية السابقة له، كما أنّه يتّضح لنا بجلاء أنّ ما استنتجناه من تحليلنا للآية المركزية لهذا النصّ أنّ الإسلام هو دين كلّ الأنبياء قد نصّت عليه هذه الآية اللاحقة، وذلك نتيجة حتميّة دلّ عليها نحو النصّ وتحليل خطاب للآية المركزية، وها قد أكّدته هذه الآية مفصّلة أسماء الأنبياء معمّمة ذلك على مَن لم يذكر منهم باسمه.
وما نخلص به من هذا التحليل نتيجتان لا تقلّ أولاهما خطورة عن الثانية:
أمّا الأولى، فهي أنّ مفهوم (الإسلام) باعتباره دينًا هو الخضوع والتماهي مع سنن الله الكونيّة التي خضع لها من في السماوات والأرض، وإنّ مشاهدة المخاطبين بالنصّ لهذا الخضوع للموجودات دليل ساطع لا يجعل لهم متّسعًا أن يبغوا عن ذلك بدلًا، وأنّهم بحكم ما أُعطوه من إرادة حرّة، لديهم القدرة على عدم الخضوع، لكنّ من يسلك هذا المسلك منهم سيكون في الآخرة من الخاسرين.
وأمّا الثانية، فهي أنّ ما وضّحته الآيات من مفهوم للإسلام يشكّل دين جميع الأنبياء ويربط بينهم بميثاق آصرٍ، فليس لنبيّ دين يختلف عن دين نبيّ آخر، وليس هذا الدّين إلا الخضوع لسنن الله التي قامت عليها السّماوات والأرض.
إنّ من أكبر الخطأ والخلط أنْ يقال بعد ذلك إنّ الإسلام هو دين محمد؛ ذلك أنّ هذه العبارة توحي بأنّ لكلّ رسول أو نبيّ دينًا، وأنّ دين محمّد هو الإسلام، وبما أنّه الدين الوحيد المقبول عند الله، فالنتيجة التي تشكّلها هذه العبارة في العقل الجمعي هي تصنيف البشر صنفين؛ صنف دينه مقبول عند الله، وهم أتباع محمد، وصنف هو في الآخرة من الخاسرين، وهم من ليسوا أتباعًا لمحمد، وقد ترتّب عن هذا التصنيف ما به قسّم فقهاء التراث البلاد إلى دار حرب ودار إسلام، وقسّموا البشر بالتالي إلى من هو حرام الدم والمال، ومن هو حلالهما، وهم في هذا التقسيم يسقطون كلمة (إسلام) على أتباع محمد لا غير؛ وترتّب على ذلك من الاحتراب وسفك الدّماء ونهب المال ما امتدّ أثره إلى اعتقادات وأفعال الفرق الأصوليّة حتّى يومنا هذا، واستثمر مفهوم الإسلام بعد إسقاطه المخالف لنصّ القرآن أشنع استغلال وأفظعه.
إنّ من أبرز علامات أولئك الحارفين لمفاهيم النصّ عن دلالتها علامة فارقة، وهي أنّهم دائمًا ما يضيفون لأنفسهم اسمًا أو أسماء أخرى تمثّل حزبًا أو مذهبًا أو فرقة؛ ولعلّ هذا المظهر هو ما أشار إليه القرآن الكريم بقوله: ﴿وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ 111 بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ١١٢﴾ البقرة، فواضح أنّ اصطناع أسماء تصف طوائف من النّاس ثمّ تقسيم النّاس بناءً عليها إلى من سيدخل الجنّة ومن لن يدخلها لا يغيّر من الحقيقة التي دلّ عليها النصّ القرآني شيئا؛ ولذلك جاء الجواب على تلك المقولات بالعودة للوصف المعياري ﴿مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾، و(الوجه) هنا فيه دلالة واضحة على اتّجاه الحركة التي تمثّل سيرورة الفرد، فمتى ما كانت مُسْلَمة لله، سائرة وفق سننه التي أسلم لها من في السماوات والأرض، وهو ما يقترن لزامًا بالإحسان، فقد حقّق صاحبها معنى الإسلام واستحقّ الأجر بقدر تحقيقه لهذا المفهوم، وبمثل هذا المنهج المتّسق نجد النصّ القرآني يلغي تأثير المسميّات والانتسابات لصالح هذا التوصيف السلوكي فيقول: ﴿إإِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ٦٢﴾البقرة، فلاحظ كيف عدل عن المسميات المذكورة في صدر الآية إلى سلوك الإيمان بالله الذي تحقق بالخضوع لسننه المنتظمة في السماوات والأرض، وما سينتج عن ذلك حتمًا من العمل الصالح.