يُعَدُّ جَمْعُ القُرْآنِ الكَرِيمِ مِنْ أَعْظَمِ الأَحْدَاثِ فِي تَارِيخِ الإِسْلَامِ، حَيْثُ تَكَفَّلَ اللَّهُ بِحِفْظِ كِتَابِهِ مِنَ التَّحْرِيفِ وَالتَّبْدِيلِ. تَتَنَاوَلُ عَمَلِيَّةُ جَمْعِ القُرْآنِ مَرْحَلَتَيْنِ أَسَاسِيَّتَيْنِ: الأُولَى: فِي عَهْدِ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَالثَّانِيَةَ: فِي عَهْدِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، أبي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَعُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ، وَعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ وموافقة علي .
سَنَسْتَعْرِضُ فِي هَذَا المَقَالِ الرِّوَايَاتِ التَّارِيخِيَّةَ المُتَعَلِّقَةَ بِجَمْعِ القُرْآنِ، مَعَ التَّرْكِيزِ عَلَى دَوْرِ التِّلَاوَةِ الصَّوْتِيَّةِ كَأَصْلٍ وَإِمَامٍ يَحْكُمُ الخَطَّ وَالجَمْعَ.
جَمْعُ القُرْآنِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ
نزل القُرآن ذِكرًا صَوتيًا على قلب النبي محمد وقد قام بتلاوته على الناس، وَيَحْفَظُهُ الصَّحَابَةُ فِي صُدُورِهِمْ وَيَتْلُونَهُ فِي صَلَوَاتِهِمْ وَيَتَدَارَسُونَهُ وَيُحَفِّظُونَهُ لِأَوْلَادِهِمْ. كَمَا تَمَّ جَمْعُ النَّصِّ القُرْآنِيِّ خَطًّـًا عَلَى أَلْوَاحٍ وَرقاعٍ وَغَيْرِهَا مِنَ المَوَادِّ، حَتَّى اكْتَمَلَ النَّصُّ القُرْآنِيُّ قَبْلَ وَفَاةِ النَّبِيِّ.
"عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ نُؤَلِّفُ القُرْآنَ مِنَ الرِّقَاعِ." (التِّرْمِذِيُّ، حَدِيثٌ صَحِيحٌ).
فِي فَتْرَةِ نُزُولِ القُرْآنِ، كَانَ النَّبِيُّ يَطْلُبُ مِنْ أَحَدِ النُّسَّاخِ المَوْجُودِينَ أنْ يَنْسَخَ مَا نَزَلَ مِنَ الوَحْيِ مِنْ خِلَالِ إِمْلَاءِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ بِصَوْتِهِ. يَقُومُ النَّاسِخُ بِالكِتَابَةِ، فَإِذَا فَرَغَ، يَطْلُبُ النَّبِيُّ مِنْهُ أَنْ يُعِيدَ تِلَاوَةَ مَا كَتَبَ؛ لِيُصَحِّحَهُ فِي حَالِ وُجُودِ خَطَأٍ أَوْ نِسْيَانٍ، وَمِنْ ثَمَّ يَذْهَبُ النَّاسِخُ وَيَبْقَى اللَّوْحُ أَوِ الرقاعُ فِي غُرْفَةِ النَّبِيِّ، لِيُضِيفَهَا إِلَى الأَلْوَاحِ وَالرقاع السَّابِقَةِ.
"عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: كُنْتُ أَكْتُبُ الوَحْيَ لِلنَّبِيِّ، فَإِذَا نَزَلَ الوَحْيُ، بَعَثَ إِلَيَّ، فَأَكْتُبُ مَا يُمْلِينِي، فَإِذَا فَرَغْتُ قَالَ: اقْرَأ، فَأَقْرَأُ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ سَقَطٌ أَقَامَهُ، ثُمَّ أَخْرُجُ بِهِ إِلَى النَّاسِ وأتلوه عليهم." (المُسْتَدْرَكُ عَلَى الصَّحِيحَيْنِ، الحَاكِمُ النِّيسَابُورِيُّ).
رِوَايَةُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ حَوْلَ النَّصِّ القُرْآنِيِّ
بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَخَذَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ الأَلْوَاحَ الَّتِي تَمَّ جَمْعُ القُرْآنِ فيها وَخَرَجَ بِهَا عَلَى ظَهْرِ بَعِيرٍ، وَقَالَ لِلنَّاسِ إِنَّهُ جَمَعَ النَّصَّ مُرَتَّبًا حَسَبَ تَرْتِيبِ نُزُولِهِ. لَكِنَّ النَّاسَ لَمْ يَعْبؤوا بِقَوْلِهِ؛ لِأَنَّ القُرْآنَ كَانَ مَحْفُوظًا فِي صُدُورِ الصَّحَابَةِ. أَعَادَ عَلِيٌّ الأَلْوَاحَ إِلَى مَنْزِلِهِ وَبَقِيَتْ عِنْدَهُ لِعَهْدِ حُكْمِ عُثْمَانَ.
"ذَكَرَ ابْنُ أَبِي دَاوُدَ فِي كِتَابِ المَصَاحِفِ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ جَمَعَ القُرْآنَ وَأَخْرَجَهُ لِلنَّاسِ مُرَتَّبًا حَسَبَ النُّزُولِ، وَقَالَ: لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِمَا لَمْ يَأْتِكُمْ بِهِ أَحَدٌ، وَقَالَ: هَذَا القُرْآنُ جَمَعْتُهُ كَمَا نَزَلَ، فَقُلْتُ: وَاللَّهِ مَا يَرَانِي أَحَدٌ بَعْدَ اليَوْمِ فَقَالَ: لا يَرَانِي أَحَدٌ بَعْدَ اليَوْمِ وَهُوَ مَعِي، فَعَادَ بِهِ إِلَى بَيْتِهِ." (المَصَاحِفُ، ابْنُ أَبِي دَاوُدَ).
جَمْعُ القُرْآنِ فِي عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-
بَعْدَ مَعْرَكَةِ اليَمَامَةِ الَّتِي اسْتُشْهِدَ فِيهَا عَدَدٌ كَبِيرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ الحُفَّاظِ لِلْقُرْآنِ، اقْتَرَحَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ عَلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ جَمْعَ القُرْآنِ فِي مُصْحَفٍ وَاحِدٍ. كَلَّفَ أَبُو بَكْرٍ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ بِمَهِمَّةِ جَمْعِ القُرْآنِ؛ لِعِلْمِهِ الوَاسِعِ بِالقُرْآنِ وَلِثِقَةِ الصَّحَابَةِ بِهِ. وَلَمْ تَتِمَّ الاسْتِعَانَةُ بِنُسْخَةِ عَلِيٍّ لِسَبَبَيْنِ رَئِيسِيْنِ:
1. عَدَمُ الحَاجَةِ إِلَيْهَا: كَانَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَالأُمَّةُ يَحْفَظُونَ القُرْآنَ كُلَّهُ، مِمَّا جَعَلَهُمْ يَعْتَمِدُونَ عَلَى مَا حَفِظُوهُ.
2. الاعْتِبَارَاتُ السِّيَاسِيَّةُ: لَمْ تُشْرَكْ نُسْخَةُ عَلِيٍّ لِتَجَنُّبِ تَسْلِيطِ الأَضْوَاءِ عَلَيْهِ كَخَصْمٍ سِيَاسِيٍّ فِي ذَلِكَ الوَقْتِ.
"حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ لِي أَبُو بَكْرٍ: إِنَّكَ رَجُلٌ شَابٌّ عَاقِلٌ لا نَتَّهِمُكَ، كُنْتَ تَكْتُبُ الوَحْيَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتَتَبَّعِ القُرْآنَ فَاجْمَعْهُ." (البُخَارِيُّ، حَدِيثٌ صَحِيحٌ).
المُصْحَفُ البَكْرِيُّ: الوَثِيقَةُ المُوَثَّقَةُ
صَارَ المُصْحَفُ الَّذِي جَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ نُسْخَةً مُوَثَّقَةً مِنَ الدَّوْلَةِ بِمُوَافَقَةِ الأُمَّةِ، مِمَّا جَعَلَهُ أَقْوَى وَثِيقَةٍ تَارِيخِيَّةٍ وَأَصَحَّهَا. وَبَعْدَ وَفَاةِ أَبِي بَكْرٍ، انْتَقَلَ المُصْحَفُ إِلَى عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ، وَبَعْدَ وَفَاتِهِ، انْتَقَلَ إِلَى ابْنَتِهِ حَفْصَةَ.
"عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَرْسَلَنِي أَبِي إِلَى حَفْصَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- فَجَاءَتْنِي بِمُصْحَفِ أَبِي بَكْرٍ." (المَصَاحِفُ، ابْنُ أَبِي دَاوُدَ).
جَمْعُ القُرْآنِ فِي عَهْدِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ
فِي زَمَنِ الخَلِيفَةِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَنَتِيجَةً لاِخْتِلافِ التِّلَاوَاتِ فِي بَعْضِ الكَلِمَاتِ وَظُهُورِ اللَّحْنِ وَالخَطَأِ فِي بَعْضِهَا بِتِلَاوَةِ النَّاسِ، وَانْتِشَارِ الإِسْلَامِ فِي الأَمْصَارِ، طَلَبَ عُثْمَانُ مِنْ حَفْصَةَ نُسْخَةَ المُصْحَفِ البَكْرِيِّ، وَكَلَّفَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ مَرَّةً أُخْرَى بِمَهِمَّةِ نَسْخِ عِدَّةِ نُسَخٍ مِنَ المُصْحَفِ البَكْرِيِّ، وَتَمَّ تَشْكِيلُ لَجْنَةٍ تَضُمُّ عَدَدًا مِنَ الصَّحَابَةِ، وَقَامُوا بِنَسْخِ عِدَّةِ نُسَخٍ مِنَ المُصْحَفِ طِبْقَ الأَصْلِ، وَوُزِّعَتْ عَلَى الأَمْصَارِ. أَمَرَ عُثْمَانُ الوُلاَةَ حِينَ وُصُولِ النُّسْخَةِ لَهُمْ بِنَسْخِ المَزِيدِ مِنَ النُّسَخِ وَتَوْزِيعِهَا فِي المُجْتَمَعِ، لِيصير المُصْحَفُ فِي مُتَنَاوَلِ الجَمِيعِ، مِمَّا أَدَّى إِلَى سيرورة المُصْحَفِ المَخْطُوطِ مع النَّصِّ المَتلوّ بِشَكْلٍ مُتَوَازٍ مَدْعُومٍ بِالتِّلَاوَةِ الصَّوْتِيَّةِ، وَهي حَاكِمَةٌ عَلَيْهِ.
"عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: أَمَرَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ وَسَعِيدَ بْنَ العَاصِ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ أَنْ يَنْسَخُوا المَصَاحِفَ." (البُخَارِيُّ، حَدِيثٌ صَحِيحٌ).
حَرْقُ النُّسْخَةِ النَّبَوِيَّةِ المَوْجُودَةِ عِنْدَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ
اِمْتِثَالًا لِأَمْرِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ بِحَرْقِ أَيِّ نُسْخَةٍ شَخْصِيَّةٍ مَوْجُودَةٍ عِنْدَ أَحَدِهِمْ وَالاعْتِمَادِ عَلَى نُسْخَةِ الدَّوْلَةِ المُتَوَافَقِ عَلَيْهَا مِنَ الأُمَّةِ، قَامَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ بِحَرْقِ النُّسْخَةِ الَّتِي عِنْدَهُ المُؤَلَّفَةِ مِنْ أَلْوَاحٍ وَرِقَاعٍ. بِذَلِكَ، تَمَّ تَوْحِيدُ النَّصِّ القُرْآنِيِّ المَخْطُوطِ فِي الأُمَّةِ حَوْلَ نُسْخَةِ الدَّوْلَةِ المُعْتَمَدَةِ.
"عَنْ سُوَيْدِ بْنِ غَفَلَةَ قَالَ: قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ أَعْظَمَ النَّاسِ فِي المَصَاحِفِ ذَنْبًا هُوَ مَنْ قَالَ: لَمْ يَمْحُ عُثْمَانُ المَصَاحِفَ إِلَّا هُوَ، وَإِنِّي لَأُحْرِقُهَا بِنَفْسِي." (المَصَاحِفُ، ابْنُ أَبِي دَاوُدَ). وَقَالَ أَيْضًا عِنْدَمَا حَرَّضَهُ أَحَدُهُمْ عَلَى فِعْلِ عُثْمَانَ بِحَرْقِ المَصَاحِفِ الشَّخْصِيَّةِ مُسْتَنْكِرًا: لَوْ كُنْتُ مَكَانَهُ لَفَعَلْتُ مِثْلَ مَا فَعَلَ، وَذَلِكَ إِقْرَارٌ لَهُ عَلَى فِعْلَتِهِ.
مَصِيرُ المُصْحَفِ البَكْرِيِّ بَعْدَ وَفَاةِ حَفْصَةَ
بَعْدَ وَفَاةِ حَفْصَةَ، طَلَبَ مَرْوَانُ بْنُ الحَكَمِ وَكَانَ وَالِيَ المَدِينَةِ، المُصْحَفَ البَكْرِيَّ مِنْ أَخِيهَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ. وَقَامَ مَرْوَانُ بِتِلَاوَةِ مَا فِيهِ عَلَى النَّاسِ، ثُمَّ قَامَ بِحَرْقِهِ أَمَامَهُمْ. وَعلّلَ مَرْوَانُ هَذَا الفِعْلَ بِقَوْلِهِ: إِنَّهُ لا يُرِيدُ أَنْ يَصِلَ المُصْحَفُ إِلَى أَحَدٍ وَيُحَرِّفَهُ، فَيُقَالَ: الأَصْلُ مُحَرَّفٌ وَبِالتَّالِي كُلُّ مَا نُسِخَ عَنْهُ مُحَرَّفٌ.
"عَنْ نَافِعٍ قَالَ: لَمَّا مَاتَتْ حَفْصَةُ أَرْسَلَ مَرْوَانُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بِعَزِيمَةٍ، لَيُرْسِلَنَّ بِهَا، فَحَلَفَ لا يَفْعَلُ، فَقَالَ مَرْوَانُ: لَئِنْ وَصَلَتُ إِلَى ذَلِكَ لأُحَرِّقَنَّهَا. وَقَدْ حَرَقَهَا مَرْوَانُ بَعْدَ أَنْ قَرَأَ مَا فِيهَا عَلَى النَّاسِ وَقَالَ: إِنَّمَا فَعَلْتُ هَذَا لأَنْ لا يَقَعَ فِيهَا اخْتِلَافٌ فَيَتَحَوَّلَ الأَمْرُ" (المَصَاحِفُ، ابْنُ أَبِي دَاوُدَ).
التِّلَاوَةُ الصَّوْتِيَّةُ، مَصْدَرًا أَصِيلًا
ظَلَّ النَّصُّ القُرْآنِيُّ المَتلوّ مَحْفُوظًا فِي صُدُورِ النَّاسِ وَمُتَتَابِعًا فِي الأُمَّةِ. وَكَانَتِ التِّلَاوَةُ الصَّوْتِيَّةُ إِمَامًا لِلْمَخْطُوطِ، ما يَضْمِنُ تَصْحِيحَ أَيِّ مَخْطُوطٍ وَفْقًا لِلتِّلَاوَةِ المُتَتَابِعَةِ؛ لِذَلِكَ، لَمْ يَكُنِ الرَّسْمُ القُرْآنِيُّ هُوَ المُحَدِّدَ لِتِلَاوَةِ القُرْآنِ، بَلْ كَانَتِ التِّلَاوَةُ الصَّوْتِيَّةُ هِيَ الأَصْلَ، وَلِذَلِكَ يُتْلَى النَّصُّ المَخْطُوطُ وَفْقَ التِّلَاوَةِ الصَّوْتِيَّةِ وَلَيْسَ وَفْقَ طَرِيقَةِ الرَّسْمِ وَالخَطِّ، مِثْلُ (صَلوة) وَ(زَكوة)؛ تُتْلَى (صَلَاة) وَ(زَكَاة).
قَبُولُ النَّصِّ العُثْمَانِيِّ
وَاجَهَ عُثْمَانُ انْتِقَادَاتٍ عَلَى فِعْلِهِ بِجَمْعِ القُرْآنِ، لَكِنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَقَرَّ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَكَانَ عُثْمَانَ لَفَعَلَ مِثْلَ مَا فَعَلَ؛ بِذَلِكَ، حَصَلَ النَّصُّ العُثْمَانِيُّ عَلَى تَوْثِيقٍ وَمُوَافَقَةِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الأَرْبَعَةِ وَالأُمَّةِ، ما جَعَلَهُ أَصَحَّ وَثِيقَةٍ تَارِيخِيَّةٍ فِي ثَقَافَةِ الإِنْسَانِيَّةِ فَوْقَ النَّقْدِ وَالنَّقْضِ ثبوتًا تاريخيًّا.
"عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ يَقُولُ: لَوْ كُنْتُ الوَالِيَ لَحَذَوْتُ مَا حَذَا عُثْمَانُ." (المَصَاحِفُ، ابْنُ أَبِي دَاوُدَ).
النَّقْدُ الاسْتِشْرَاقِيُّ لِلنَّصِّ القُرْآنِيِّ
عَلَى الرَّغْمِ مِنْ مُحَاوَلَاتِ المُسْتَشْرِقِينَ -مِثْلَ نُولْدِكِه وَمَنْ تَبِعَهُ مِنَ المُسْلِمِينَ وَاللَّادِينِيِّينَ- تَوْجِيهَ نَقْدٍ لِلنَّصِّ القُرْآنِيِّ، إِلَّا أَنَّ التَّعَامُلَ مَعَ القُرْآنِ يَجِبُ أَنْ يَنْصَبَّ عَلَى سُؤَالٍ: هَلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أَمْ لا؟ هَذَا السُّؤَالُ يَتَطَلَّبُ مَنْهَجًا عِلْمِيًّا وَدِرَاسَةً مَنْطِقِيَّةً تَتَعَلَّقُ بِمُسْتَوَى البَاحِثِ.
أَهَمِّيَّةُ الرِّوَايَاتِ التَّارِيخِيَّةِ وَتَوْثِيقِهَا
رَغْمَ أَنَّ الرِّوَايَاتِ التَّارِيخِيَّةَ المُتَعَلِّقَةَ بِجَمْعِ القُرْآنِ قَدْ تَكُونُ ظَنِّيَّةً، إِلَّا أَنَّهَا مَدْعُومَةٌ بِثُبُوتِ النَّصِّ القُرْآنِيِّ المَتلوّ صَوْتِيًّا، المُتَتَابِعِ فِي الأُمَّةِ. وهَذِهِ الرِّوَايَاتُ لَمْ تَتَنَاوَلْ مَفَاهِيمَ حَقٍّ أَوْ بَاطِلٍ أَوْ أَحْكَامًا شَرْعِيَّةً أَوْ عِلْمِيَّةً؛ لِذَلِكَ، تُدرسُ وَفْقَ مَنْظُورٍ مَنْطِقِيٍّ تَارِيخِيٍّ، أَوْ تهمّشُ بِالكَامِلِ، مَعَ التَّرْكِيزِ عَلَى النَّصِّ القُرْآنِيِّ المُتَتَابِعِ الَّذِي يَشْهَدُ لِلمَخْطُوطِ المُعَاصِرِ بِالصَّوَابِ؛ لِمُوَافَقَتِهِ لَهُ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحِجْر: 9)، وقال: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ }(فصلت: 53) علَاوَةً عَلَى ذَلِكَ، وُجِدَتْ نُسَخٍ مَخْطُوطَة قَدِيمَة تَارِيخِيًّا مَعْرُوفَة، تَدْعَمُ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ وَتُعَزِّزُ مِنْ مُوثُوقِيَّتِهَا.
الخَاتِمَةُ
يُجَسِّدُ جَمْعُ القُرْآنِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ إِلَى عَهْدِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- مِثَالًا فَرِيدًا فِي التَّوْثِيقِ وَالتَّارِيخِ. ولَقَدْ تَمَّ حِفْظُ القُرْآنِ بِالتِّلَاوَةِ الصَّوْتِيَّةِ وَالمَخْطُوطَاتِ، وَتَتَابَعَ فِي الأُمَّةِ بِجَانِبِ المَحْفُوظِ فِي الصُّدُورِ، وموافقة الخطاب القرآني لمحل تعلقه من الواقع كالآفاق والأنفس.
إِنَّ النُّسْخَةَ العُثْمَانِيَّةَ الَّتِي وَثَّقَهَا الخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ وَالأُمَّةُ تُعَدُّ أَقْوَى وَثِيقَةٍ تَارِيخِيَّةٍ، ما يَجْعَلُ النَّقْدَ التاريخي المُوَجَّهَ إِلَيْهَا بِلَا أي قِيمَةٍ حَقِيقِيَّةٍ.
المَرَاجِعُ
1. الطَّبَقَاتُ الكُبْرَى، ابْنُ سَعْدٍ.
2. تَارِيخُ الأُمَمِ وَالمُلُوكِ، الطَّبَرِيُّ.
3. السِّيرَةُ النَّبَوِيَّةُ، ابْنُ هِشَامٍ.
4. صَحِيحُ البُخَارِيِّ.
5. صَحِيحُ مُسْلِمٍ.
6. جَامِعُ التِّرْمِذِيِّ.
7. المُسْتَدْرَكُ عَلَى الصَّحِيحَيْنِ، الحَاكِمُ النِّيسَابُورِيُّ.
8. فَضَائِلُ القُرْآنِ، ابْنُ كَثِيرٍ.
9. بُحُوثٌ وَقِرَاءَاتٌ نَقْدِيَّةٌ فِي كِتَابِ تَارِيخِ القُرْآنِ، تِيُودُور نُولْدِكِه.
10. تَارِيخُ القُرْآنِ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الزَّنْجَانِيُّ.
11. رَسْمُ المُصْحَفِ دِرَاسَةٌ لُغَوِيَّةٌ تَارِيخِيَّةٌ، غَانِمٌ قُدُورِيُّ الحَمْدِ.
12. مَبَاحِثُ فِي عُلُومِ القُرْآنِ، صُبْحِي الصَّالِحُ.
13. البُرْهَانُ فِي عُلُومِ القُرْآنِ، الزَّرْكَشِيُّ.
14. الإِتْقَانُ فِي عُلُومِ القُرْآنِ، جَلَالُ الدِّينِ السُّيُوطِيُّ.
15. تَارِيخُ القُرْآنِ، لِلمُسْتَشْرِقِ الأَلْمَانِيِّ نُولْدِكِه.
16. كِتَابُ (تَارِيخُ القُرْآنِ وَالمَصَاحِفِ الشَّرِيفَةِ، لِلدُّكْتُورِ حَمْدِي سُلْطَانَ العَدَوِيُّ.
17. المَصَاحِفُ، أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ السِّجِسْتَانِيِّ.
18- ظاهرة النص القرآني تاريخ ومعاصرة، سامر إسلامبولي