يشير الأصل اللساني لمفهوم (الإيمان) إلى عودته للجذر الثلاثي (أمن)، وذلك يدلّ دلالة قاطعة على الصلة الوثيقة بين الأمن والإيمان، وفي حين، نجد عامّة من تكلّم في مفهوم الإيمان يرجعه إلى التصديق أو الإقرار، فإنّ التفاتنا للجذر الثلاثيّ للكلمة (أمن) يوحي بوجود فرق لا يستهان به بين التصديق والإيمان.
إنّ الضدّ التامّ لمفهوم الإيمان وفق نصوص القرآن الكريم هو الكفر، وذلك يظهر جليًّا في نحو قوله تعالى: ﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ﴾ (الكهف:29)، وقد وصف القرآن نفسه إبليس بأنه من الكافرين، ولا يشكّ عارف بأبجديّات النصوص القرآنية أنّ إبليس مصدّق بالله مقرّ به، وحيث إنّه استحقّ وصف الكفر بنصّ القرآن نفسه، رغم تصديقه بالله وإقراره به ربًّا، فإنّ ذلك يعزّز بقوّة كبيرة مفتتح هذا المقال الذي بيّنا فيه عدم صحّة تفسير الإيمان بالتصديق. وقد جاء في القرآن الكريم على لسان أبناء يعقوب مخاطبين أباهم: ﴿قَالُواْ يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ﴾(يوسف:17)، فجمعت الآية بين الإيمان والصدق، ولكنّها في الوقت نفسه بيّنت عدم التلازم بينهما؛ فقد تعرف يقينًا أنّ من يخاطبك صادق، ولكنّك لا تؤمن به، هذه هي فحوى هذه الآية الكريمة.
إذا تفرّر ما سبق، فإنّنا من خلال التحليل الصرفي لكلمة (إيمان)، نجد أنّها مصدر رباعي للفعل (آمن)، وكلمة (مؤمن) هي اسم فاعل من هذا الفعل نفسه، وبما أنّ الفعل الثلاثي (أمن) يدلّ على شعور فرديّ، فإنّ الرباعي المزيد (آمن) يدلّ على تعدية هذا الشعور إلى الآخرين، وبعبارة أخرى؛ فالإيمان وفق دلالته اللسانية العربية إعطاؤك الأمان لغيرك، وإعطاء غيرك الأمان لك، وقد استعمل النصّ القرآني الفعل الرباعي (آمن) بهذا المعنى تمامًا، وذلك في الآية الكريمة في شأن قريش: ﴿الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ﴾(قريش:4).
إنّ الثمرة الكبرى لعقد الإيمان بهذا المعنى ينبغي أن تكون الأمن الاجتماعي التامّ بين المؤمنين (المتشاركين في عقد الأمان بينهم)، وهذا الاستنتاج عينه قد ورد نصًّا في الآية الكريمة التي جاءت في سياق حوار النبي إبراهيم مع قومه حيث قال: ﴿وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ﴾ (الأنعام:81-82). وفي هذا السياق القرآني لفتة بالغة الأهميّة، وهي أنّ تحقق ثمرة عقد الإيمان (أولئك لهم الأمن) نتجت عن إيمان صاحبها أوّلا، وعدم ظلمه ثانيًا، وبقدر ما يقع منه ظلم يكون قد خالف عقد الإيمان الأول، فينقص ذلك من أمنه هو بالنتيجة الحتمية، فظلمه -والحالة هذه- إخلال بأمن غيره، والجزاء الطبيعي لذلك أن يخسر من أمنه الشخصي بقدر ما ظلم غيره فأخلّ بأمن ذلك الغير.
لكن، لا بدّ من الإشارة هنا إلى أنّ أي عقد أمان يحصل بين البشر أو طائفة منهم، يستند إلى مرجع دستوري قانوني؛ ليشكّل المبادئ الكبرى التي تنظّم هذا العقد، وتميز بالتالي بين أنواع السلوك البشري المقبولة وغير المقبولة بناء عليه، وقد جعل القرآن الكريم المرجع الدستوري لعقد الإيمانِ اللهَ وملائكتَه وكتبَه ورسلَه واليومَ الآخر؛ وهذا هو السرّ في تعدية الفعل (آمن) بحرف الباء في نحو قوله تعالى: ﴿ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ﴾(البقرة:285)، فيكون تفصيل الكلام بهذا الاعتبار أنّ الرسول ومن تبعه آمنوا بعضهم بعضًا بالله، فمستفيد الأمن من عقد الإيمان هم أفراد المجتمع أنفسهم، ومستند العقد هو الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر.
وهنا، يجدر بنا أن نذكّر أنّ إسناد أمر ما إلى الله في القرآن كلّه يعني إسناده إلى سننه الكونية والفطرة التي فطر البشر عليها، وأنّ الملائكة في انعكاسها على حياة النّاس تتجلى من خلال قوانين الوجود الطبيعية، والكتب والرسل إحياء لما أماته بعض البشر من فطرتهم الأولى، أو تصحيح لما حرفوه من سنن الوجود عن مساره الأول؛ وبهذا يظهر السرّ في إيراد العبارة (لا نفرّق بين أحد من رسله) في سياق آية الإيمان هذه، ففيها أبلغ تصريح بأنّ عقد الإيمان شامل لكلّ من التزم به من أتباع جميع الرسل، لا يتعالى أحد منهم على أحد، ولا تعطى لبعضهم ميزة على غيره، وقد ألحّ النص القرآني على هذا المعنى بما لا يدع مجالا للشكّ في قصده له، فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ﴾(النساء:136)، وقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً* أُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا* وَالَّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ أُوْلَـئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾(النساء:150-152)، كما أبان القرآن الكريم اشتراك أهل الكتاب مع أتباع الرسالة الخاتمة في هذا الإيمان صراحة فقال: ﴿ وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَـئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾(آل عمران:199)
والنصّ القرآني باعتباره بعالج المعنى بمسالك مختلفة، ويؤكده بطرق متعددة، لم يترك مجالا لاختلاف الدارسين في قضية كبيرة بحجم قضية الإيمان، فكما وضحت الآيات السابقة الأساس الذي يقوم عليه عقد الإيمان، وضحت آيات أخرى أساس عقود الأمن البديلة التي جرت أو قد تجري بين طوائف من البشر؛ لتكشف أي غباش قد يعتري فهم المقصد القرآني، نعني بذلك قوله تعالى: ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾(البقرة:256-257)، فلاحظ كيف وصف الأساس البديل الذي يتعاقد عليه طوائف من البشر بالطاغوت، وهي كلمة تشير إلى المبالغة في الطغيان، ومثل هذا الأمان يكون بين طائفة من البشر على حساب الطغيان على طوائف أخرى، فهو قائم على تمييز عرقي أو عنصريّ أو ديني أو مذهبي، يحقق الأمان لطائفة على حساب الطغيان على غيرها من طوائف البشر، ولا شكّ أنّ مثل هذا العقد -ناهيك عن عنصريته- زائف، فلا بدّ أن يعود على أصحابه أنفسهم بأن يطغى بعضهم على بعض؛ ومن هنا، نجد الآية التالية ذكرت نتيجته النهائية (يخرجونهم من النور إلى الظلمات)، فهم بحالهم البشرية الأولى وفطرتهم النقية كانوا في نور، فلمّا أنشؤوا عقد أمانهم العنصري الظالم لغيرهم خرجوا إلى الظلمات. وقد نعى القرآن الكريم على من أوتوا نصيبًا من الكتاب تفضيلهم لعقد أمان قائم على الطغيان ودعوتهم غيرهم إليه، رغم ما عندهم من علم ببعض الكتاب، فهم يدركون تمامَ عدالةِ عقد الإيمان بالله ومساواته بين البشر جميعًا، وبشاعة عقد الأمان لطائفة على حساب الطغيان على غيرها، فكيف تبدر منهم دعوة لهذا الطغيان؟ وذلك في قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً﴾(النساء:51). ويقع ما يشبه هذا الفعل تمامًا من أتباع الرسالة الخاتمة، فيوبخّهم النص القرآني حين يريدون أن يُفصل في نزاع بينهم وبين غيرهم على أساسٍ قائم على الطغيان، ويصدّون عن الاستناد إلى العدالة الدستورية التي قام عليها عقد الإيمان؛ وذلك سعيًا لتحقيق مصالح شخصية لهم على حساب مصلحة أمن المجتمع والعدل والمساواة بين أفراده، وذلك في قوله: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا﴾(النساء:60)، فكما أقام القرآن الكريم عقد الإيمان على أساس يوحد البشر جميعا بالعدل، ويلغي كل أشكال العنصرية والطغيان والشعور بالفوقية، نجده لا يحابي أحدًا يخالف مستند عقد الإيمان هذا من أهل الكتاب أو أتباع الرسالة الخاتمة، فهو منطق العدل نفسه في التشريع والتنفيذ والقضاء.
وللمقال صلة.