وما يجعل المرء يزداد ثقة بصدقيّة هذا الفهم هو أنّ القرآن الكريم يُرجع سبب الاقتتال الحاصل بين الأقوام بعد بعث الرّسل إليهم إلى اختلافهم في ذلك؛ فمنهم من قبل عقد الإيمان بالله، ومنهم من رفضه؛ سعيًا لشكل من الطغيان القائم على جعل التمييز بين البشر أساسًا لشكل العلاقات بينهم، يظهر هذا المعنى واضحًا في قوله تعالى: ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَـكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَـكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ﴾ (البقرة:253)، وواضح من نصّ الآية أنّ مشيئة الله كان من ممكناتها عدم الاقتتال بعد الرّسل، ولكنّ ما منع هذا الإمكان أنّ من بعدهم اختلفوا؛ فمنهم من آمن، ومنهم من كفر، ولا يخفى إذَا أنّ مُشعل الاقتتال بالأساس هو من رفض عقد الإيمان بما هو عقد أمان بالله قائم على العدل ونبذ التمييز بين النّاس، حيث كانوا بالأساس أمّة واحدة. وقد جاء ما يؤكّد صدق هذا التعليل في قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا﴾(النساء:76)، فقد وضحت الآية منشأ الاقتتال الذي حصل بين الذين آمنوا والذين كفروا؛ فالذين كفروا قتالهم في سبيل فرض طغيانهم؛ وذلك أصلا ما دفعهم لرفض عقد الإيمان، وهذا بالضرورة سيضطر الذين آمنوا لردّ العدوان، لا لإرادتهم القتال، ولكن، لأنّهم يطلبون أن يكون الله تعالى -بما يمثله من رمز للعدل بين جميع البشر- أساسًا لعقد الإيمان بين النّاس، وهذا ما يرفضه الذين كفروا تمامًا، فيستبيحون حرمات غيرهم؛ لأنّ الطغيان على هؤلاء الغير هو أساسهم الذي يقاتلون في سبيله.
إنّ من الثمرات البدهيّة لعقد الإيمان هذا أن تكون نفس كل مؤمن مصونة محرّمة -بصرف النظر عن ملّته-، وهذه الثمرة هي ما أكّده قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَئًا وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللّهِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا 92 وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا﴾(النساء:92-93)، فالقتل العمد جريمة نكراء لا كفّارة تمحو أثرها، لكنّ ما يلفت النظر في النصّ هو كفّارة القتل الخطأ، فقد جعلت الآية كفّارةً لكلّ قتل خطأٍ يقع على مؤمن، حتّى لو كان هذا المؤمن فردًا في قومٍ معادين، لكنّها قصرتها في هذه الحالة على تحرير رقبة مؤمنة؛ فالدية ذاهبة للأهل، ولكنّ الأهل في هذه الحالة معادون للمؤمنين، فأسقطتها الآية الكريمة، غير أنّ الملحوظة التي ينغي أن تحظى بكلّ تركيز القارئ، هي أنّ الآية عادت فأمرت بدفع الدية إن كان المقتول من قوم بين المؤمنين وبينهم ميثاق، وجعلت بذلك الكفارة مساوية تمامًا لكفّارة قتل المؤمن ضمن المجتمع الأصلي للمؤمنين، ولاحظ كيف اشترطت في القوم العدوّ أن يكون المقتول مؤمنا لوجوب الكفارة، بينما لم تذكر الآية مثل هذا الشرط في القوم الذين بينهم وبين المؤمنين ميثاق، وأوجبت فيها الحق للمقتول (تحرير رقبة مؤمنة)، والحق لأهله (فدية مسلمة إلى أهله)، وذلك يعني أنّ وجود الميثاق جعل هؤلاء القوم مشمولين بعقد الإيمان بما هو أمان لكلّ أفراده، حتّى لو لم يكونوا أتباعًا للرسالة الخاتمة.
ولقد أشار القرآن الكريم في غير موضع أنّ من آمن غيره من النّاس بالله متخليّا عن كلّ طغيان، وقرن ذلك العقد بالعمل الصالح، فإنّه مأجور غير مكفور عند الله، فقال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ٦٢﴾(البقرة:62)، ولا بدّ أن يكون (الذين آمنوا) المذكورون في مطلع الآية هم أتباع الرسالة الخاتمة، فقد عطف عليهم أسماءً لأتباع مِلل أخرى، ولا بدّ أن يكون الإيمان بالله والعمل الصالح المذكوران بعد ذلك في الآية لا يقصد بهما بالضرورة اتّباع الرسالة الخاتمة؛ فلو كان ذلك هو المقصود لما أصبح لتعداد أهل الملل الأخرى أي معنى. وجاء مثل هذا المعنى في أهل الكتاب خاصّة في قوله تعالى: ﴿لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ ١١٣ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَـئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ ١١٤ وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوْهُ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ﴾(آل عمران:114-115). ولعلنا بهذا نفهم دلالة قوله تعالى في شأن الأعراب: ﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾(الحجرات:14)؛ فإنّ قوله: (ولمّا يدخل الإيمان في قلوبكم) يشير إلى أنّ الإيمان المقصود هنا هو اتّباع الرسالة الخاتمة، والاطمئنان المطلق لها، وقد ظنّ الأعراب أنّهم بإسلامهم قد وصلوا لذلك، ولكنّ الآية أبطلت هذا الظنّ، ومع ذلك، بيّنت أنّ مجرّد إسلامهم إن اقترن بالطاعة لمقتضيات عقد الإيمان فإنّه مقبول عند الله؛ فمقصود الدين الأعظم سعادة البشر وأن لا يطغى بعضهم على بعض، وكلّ من آمن غيره بالله، وأسلم لسنن الله وفطرته الأولى، وعمل صالحًا، فقد حقّق الحدّ الأدنى من هذا المقصد، فكان مأجورًا غير مكفور.
وليس من الغريب بعد ذلك أن نرى الخطاب باسم الإيمان مرتبطًا بتحقيق الأمن الماليّ للمجتمع كما ارتبط بالأمن النفسيّ والجسديّ، فنجد إبطال الربا مقرونا بالخطاب بعقد الإيمان؛ لإنه ظلم واعتداء ماليّ غير مقبول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ* فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ﴾(البقرة: 278-279)، وفي إطار هذا المعنى أيضًا ربط النصّ القرآني الأمن المالي بالإيمان والوفاء بالعهد وهو يتحدث عن طوائف من أهل الكتاب، حيث قال: ﴿وَقَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُواْ بِالَّذِيَ أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ إلى أن قال: ﴿وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾(آل عمران: 72-76)، فيلاحظ أنّ قوله على لسان هذه الطائفة: (ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم) فيه إخبار بتحيّزهم وعنصريتهم في إعطاء الأمان، جعلتهم يستبيحون الطغيان المالي على غيرهم (ومنهم من إن تأمنه بقنطار لا يؤدّه إليك إلا ما دمت عليه قائمًا)؛ وذلك لأنّهم قالوا: (ليس علينا في الأميين سبيل)، ثمّ لاحظ كيف ردّهم النصّ إلى أنّ إيمانك لغيرك عهد يجب الوفاء به، ولا يحلّ نقضه بالذرائع الفاسدة (بلى من أوفى بعهده واتقى فإنّ الله يحبّ المتقين).
وبالجملة، فإنّ المتتبع لمفهوم الإيمان في القرآن الكريم يجده دائمًا مرتبطا ببذل الأمن للغير، وتأمينه من كل ضرر نفسي أو جسدي أو مالي أو غيره، ومرجع هذا العقد هو الله -بما يمثله من عدل وإلغاء لكلّ شكل من التمييز بين البشر-، وذلك ضدّ أي مرجع آخر قائم على الطغيان والتمييز، وهذا المبدأ البشريّ الإنساني العظيم هو أهمّ ما جاءت به الرّسالة الخاتمة.