هل حدثت هجرة يهوديّة من فلسطين إلى اليمن؟ | د.علي محمد اسبر

طقوس يهودية عند "حائط المبكى"
طقوس يهودية عند "حائط المبكى"

طغت سرديّة كاذبة هيمنت فعليّاً على كتابات أجيال من اللاهوتيين والمستشرقين والباحثين الغربيين؛ مفادها أنَّ هناك هجرة حدثت من فلسطين إلى اليمن في عصور تاريخيّة غابرة، لذلك لا بدّ -كمهمة جوهرية- من تفكيك هذه السردية لكشف زيفها.


والحقيقة أنَّ انتقال اليهوديّة من فلسطين إلى اليمن يُعَدّ حدثاً تاريخيّاً مُستبعداً؛ إذ كيف يمكن تفسير اعتناق أهل اليمن وحدَهم -في ذلك الزمن- للدِّيانة اليهوديّة من دون سكان شبه الجزيرة العربيّة إلى حدّ ظهور ممالك يهوديّة، مثل مملكتي سبأ وحِمْيَر، في محيط جغرافيّ لم تبلغ فيه اليهوديّة هذا الحدّ أبداً؟ يقتضي هذا التساؤل تفنيد الفرضيات اللاهوتيّة الاستشراقيّة التي تنصُّ على هجرة لمجموعات من اليهود من فلسطين إلى اليمن لتفسير انتشار اليهوديّة على هذا النحو في أرض العرب السعيدة. ولا بدّ أيضاً في هذا الاتجاه من التركيز على فرضيات الحاخامات من اليهود اليمنيين أنفسهم؛ لذلك، فإنّ متابعة أسباب هذه الهجرة المزعومة وأزمنتها وخطوط سيرها وفقاً للفرضيات المطروحة عنها سيُظهر تناقضها مع بعضها بعضاً، وسيكشف بطلانها.

نجد فرضية ترجع إلى الحاخام اليمنيّ عمرام قورح (1871-1952م) في مؤلَّف له بعنوان (قصص اليهود في اليمن-نُشر في القدس عام 1954م)؛ مفادها أنَّ التُّجار اليهود كانوا يُبحرون على طول البحر الأحمر من "عِصْيُونِ جَابِرَ" -وهي حسب الرواية التوراتيّة مدينة قديمة فيها ميناء تقع على خليج العقبة-إلى مملكة سبأ. ووفقاً لهذه الفرضية فإنَّ اليهود هم الذين أعلموا ملكة سبأ بوجود الملك سليمان. ولقد ذكر الكاتبُ اليهوديّ كين بليدي في كتابه "المجتمعات اليهوديّة في الأماكن الغريبة-2000 م" روايةً عن أنَّ الملك سليمان أرسل تجاراً بحريين يهوداً إلى اليمن للتنقيب عن الذَّهب والفضة لتزيين هيكله في القدس، ومن هنا بدأ انتشار اليهوديّة، أو أنَّ القبائل اليمنية تحوَّلت إلى اليهوديّة بعد زيارة ملكة سبأ للملك سليمان، "وَسَمِعَتْ مَلِكَةُ سَبَا بِخَبَرِ سُلَيْمَانَ لِمَجْدِ الرَّبِّ، فَأَتَتْ لِتَمْتَحِنَهُ بِمَسَائِلَ، فَأَتَتْ إِلَى أُورُشَلِيمَ بِمَوْكِبٍ عَظِيمٍ جِدًّا، بِجِمَال حَامِلَةٍ أَطْيَابًا وَذَهَبًا كَثِيرًا جِدًّا وَحِجَارَةً كَرِيمَةً، وَأَتَتْ إِلَى سُلَيْمَانَ وَكَلَّمَتْهُ بِكُلِّ مَا كَانَ بِقَلْبِهَا." (سِفر الملوك الأول: 10: 1-2). وهذا يعني -وفقاً لهذه الفرضيّة- أنَّ وجود اليهود في اليمن يرجع إلى القرن العاشر قبل الميلاد، ووذلك ما لا تدعمه أي اكتشافات أثريّة. 

ونعثر على فرضيّة أخرى تؤخِّر بداية الاستيطان اليهوديّ في اليمن إلى تدمير مملكة إسرائيل في القرن الثامن قبل الميلاد، على أساس هجرة قبائل الأسباط العشرة من بين أسباط بني إسرائيل الاثني عشر بعد الغزو الآشوريّ إلى المستوطنات في شمال الجزيرة العربيّة، ومن هناك انتقلت هذه القبائل إلى اليمن واستقرت فيها. هذا، إلى أنَّ أتباع الحاخام إلياهو بن شلومو زلمان (1720 م-1797 م) أرادوا بشغف إيجاد بقايا القبائل المفقودة من الأسباط العشرة في اليمن، بل أرسلوا رسولاً من الجالية اليهوديّة في القدس إلى اليمن للبحث عن بقايا هذه القبائل.

 وزعم الحاخام الأكبر لليمن يحيى الأبيض (1863-1934م) أنَّ اليهود في اليمن ينحدرون من قبيلة السبط شمعون وهي إحدى قبائل إسرائيل المذكورة في التوراة، وقد سُمِّيت نسبةً إلى السِّبط شمعون، وهو الابن الثاني ليعقوب وليئة. لكنَّ الباحث اليهوديّ يوسف يوفال طوبي (من مواليد 1942م) في أبحاثه عن بداية الاستيطان اليهودي في اليمن يرفض زعم يحيى الأبيض، وتبنّى طوبي فرضية أنَّ الاستيطان اليهوديّ في اليمن كان بسبب تجارة العطور والبخور منذ عصور سحيقة. وتُعَدّ صنعاء -في رأي طوبي-أول مدينة بدأ منها الاستيطان اليهودي في اليمن. إذ استوطن اليهود أولاً في القلعة الواقعة على جبل نقم غربي صنعاء، الذي يرتفع عنها 530 متراً. وفي عدة أماكن أخرى في اليمن، تطورت جالية يهودية في السنوات الأولى بعد قدوم اليهود إلى هذا البلد، بما في ذلك صعدة وتَنْعِم وذمار وجبلة. وزعم الإثنوغرافيّ اليهوديّ يعقوب سفير (1822-1886م) أنَّ اليهود الصنعانيين اعتقدوا أنَّ أسلافهم استقروا في اليمن قبل 42 عاماً من تدمير الهيكل الأول. ويَرِدُ في مؤلَّف شالوم سيري ونفتالي بن دافيد، "رحلة إلى اليمن ويهودها-1991م" أنَّه في عهد النبي إرميا (650 -570 ق.م) سافر نحو 75000 يهودي -بما في ذلك الكهنة واللاويون- إلى اليمن. لكن، ارتأى المؤرخ يهودا راتزابي في بحث له "وثائق عن يهود اليمن" نشره في مجلة "سيفونوت: دراسات ومصادر عن تاريخ الجماعات اليهودية في الشرق" أنَّ يهود اليمن هاجروا إلى اليمن من أماكن في بابل. وزعم المؤرخ الصهيونيّ يتسحاق بن تسفي (1884 م-1963م) أن إيليوس جالوس Aelius Gallus الذي كان حاكماً رومانيّاً لمصر نحو 24/25 قبل الميلاد حاول احتلال مأرب، وفشلت محاولة الاستيلاء على المدينة عن طريق الحصار، كانت الحملة تهدف إلى غزو الجزيرة العربية بأكملها، وذلك في المقام الأول للسيطرة على التجارة الأفريقية وفتح طرق أخرى للتجارة الهندية؛ ونتيجة للخطة الفاشلة، ظلَّ اليمن السعيد بمنأى عن الحكم الروماني. لكن ضمن الجيش الذي قاتل به إيليوس جالوس عام 24 قبل الميلاد ذكر المؤرخون 1000 جندي نبطي من راكبي الجمال (قدمهم ملك البتراء)، وزعم فلافيوس جوزيفوس أنَّ الملك هيرودس دعم إيليوس في حملته العربية بـ 500 جندي يهوديّ من نخبة حرّاسه الشخصيين، ويمكن أن يكون سبب إرسال هيرودس لهؤلاء الجنود اليهود هو التواصل مع اليهود الصنعانيين. لكن، أكد كريستيان جوليان روبن (ولد عام 1943م) وهو عالم آثار ونقوش ومستشرق فرنسيّ متخصِّص في شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام في بحث له بعنوان "الجزيرة العربيّة وإثيوبيا-2012 م" أنّه قد بدأت السِّجلات التي تُشير إلى اليهودية في اليمن بالظُّهور أثناء حكم مملكة حِمْير، التي تأسست في اليمن عام 110 قبل الميلاد واستمرت إلى نحو 525م. وتشير نقوش مختلفة بالخطّ العربيّ الجنوبيّ القديم (المُسْنَد) ترجع إلى القرن الثاني الميلادي إلى بناء المعابد اليهودية التي وافق عليها ملوك حِمْيَر. وكان الحِمْيريون يعبدون في الأصل معظم آلهة جنوب الجزيرة العربية، ولكن، منذ عهد ملكي كرب يهأمن (375-400م) على الأقل، جرى تبني اليهوديّة كدين للمملكة. ولقد ركَّز الكاتب البريطاني تيودور بارفيت المتخصِّص في الدِّراسات اليهوديّة في كتابه "طريق الخلاص: يهود اليمن: 1900 م-1950 م-1996 م) على أنَّ ميثولوجيا يهود اليمن تتحدّث عن أنهم كانوا موجودين في اليمن منذ بدء التَّاريخ اليهوديّ، ولذلك يربطون ربطاً جوهريّاً بين أرض اليمن وأرض إسرائيل. بل نقل الله -في رأيهم- جزءاً من الأرض المقدَّسة إلى اليمن أيضاً؛ بمعنى أنَّ الإقامة في اليمن لا تعني الخروج من أرض إسرائيل على الإطلاق. ويتحدّث بارفيت عن أنَّ حاييم حبشوش Hayyim Habshush -وهو نحَّاس صنعانيّ اتجه في أواخر حياته إلى التأليف والكتابة وكان مرافقاً للمستشرق الفرنسي اليهودي جوزيف هاليفيّ (1827 -1917م)- ذَكَرَ أنّه التقى بيهوديّ يمنيّ يعتقد مثل آخرين كثيرين أنَّ معاناة إسرائيل يمكن أن تصل إلى نهايتها عن طريق اكتشاف سرّ الأرواح الشريرة المخفيّة في النقوش السبئيّة المنتشرة في مختلف أنحاء اليمن، وبذا يكون لليمن الأولويّة في تحقيق خلاص "إسرائيل" المنشود-الموهوم.

يظهر مما سبق أنَّه لا يوجد أي نظريّة ثابتة ومتماسكة علميّاً عن هجرة اليهود من "أرض إسرائيل المزعومة" إلى اليمن، وإنما نحن بإزاء فرضيات متعدِّدة لا تتفق على تاريخ أو أسباب أو خط سير جغرافيّ ثابت. لكن، إذا تأمَّلنا في هذه القضيّة ينبغي أن نتساءل: ألا يُعَدُّ ممكناً أن نكتشف وجود هجرة معاكسة أي هجرة لليهود من اليمن إلى فلسطين؟ ذلك أنَّ التعمُّق في الدلائل الأركيولوجيّة المكتشفة يُظهر –على عكس التوقعات- إمكانية هجرة من اليمن إلى فلسطين وليس العكس! في عام 1937، اكتشف عالم الآثار الصهيونيّ بنيامين مزار في بيت شعاريم نظام مقابر ينتمي إلى يهود حِمْير يرجع تاريخه إلى القرن الثالث الميلادي. وفُسِّر هذا الاكتشاف على أنّه دليل قاطع يُظهر قوة الروابط بين يهود اليمن و"أرض إسرائيل" المزعومة. وسُوِّغ جلب اليهود الموتى من حِمْير للدَّفن في بيت شعاريم على أساس أنَّ ذلك المكان كان يُعَدُّ آنذاك أرضاً طاهرة؛ لأنّه بالقرب من سراديب السنهدريم. وكما هو معلوم يرجع أصل "السنهدريم الأعلى" إلى السَّبعين مُستشاراً الذين استعان بهم النبيّ موسى في البريّة. لذلك أولئك الحِميريون من اليهود الذين لديهم القدرة المالية أحضروا موتاهم لدفنهم في أرض إسرائيل المزعومة، حيث كانت تُعَدُّ ميزة كبرى لليهود ألا يتم دفنهم في أراضٍ أجنبية، بل في أرض أجدادهم الموهومة.  يمكن أن نضع تصوَّراً عن هذه الرحلة الجنائزيّة على أساس أنَّ المسافة البريّة مثلاً بين تعز (مملكة حِمْير) والجليل الأسفل (بيت شعاريم) تبلغ نحو 2755 كم ولو افترضنا أنّه تمَّ نقل جثامين الموتى من جنوب اليمن في عربات تجرُّها الأحصنة، ووضعنا أقصى مسافة يمكن أن تقطعها الأحصنة أثناء عدوِها وهي تجرّ العربات التي فيها الجثامين كحدّ معقول 48 كم في اليوم، سيستغرق وصولها إلى بيت شعاريم نحو 58 يوماً؛ ما يكفي لتعفُّن الجثامين، ولو افترضنا أنَّ نقل التوابيت كان عن طريق سُفن أو قوارب، فإنَّ خليج عدن يبعد عن خليج العقبة نحو 2256 كم، وفي ظل ظروف الرياح المواتية، كان متوسط سرعة السُّفن القديمة يتراوح بين 4 و6 عُقد فوق المياه المفتوحة، و3 إلى 4 عُقد أثناء العمل عبر الجزر أو على طول السَّواحل، وإذا كانت العقدة البحرية تعادل 1.852 كم في السَّاعة، فهذا يعني أنَّ السفينة التي سرعتها 6 عقد يمكن أن تقطع في اليوم نحو 266 كم؛ ولذلك تحتاج الرحلة البحريّة من خليج عدن إلى خليج العقبة في حالة الإبحار المستمر نحو تسعة أيام، هذا إلى أنَّ المسافة البرية بين خليج العقبة وبيت شعاريم تبلغ 447 كم، أي تحتاج لعبورها بعربات تجرها الأحصنة إلى 10 أيام، فتستغرق الرحلة كلها 19 يوماً، وهذا وقت كافٍ ليتسبب بتعفّن الجثث، إلا إذا افترضنا أنَّ يهود اليمن يحنطون موتاهم قبل دفنهم على طريقة المصريين القدماء، لكن التحنيط محرّم عند اليهود -كما هو معلوم-، ولو افترضنا أنَّ ناقلي الجثامين ابتكروا طريقة لحفظها من التعفُّن، ألا يُعَدّ مستغرباً أن تكون عمليّة نقل جثامين الحِمْيَرين إلى بيت شعاريم مُستسهلة ومستمرة إلى حدّ وجود مقابر لهم؟ فعَن أي حِمْيريين موتى أُحضِروا من اليمن يتحدثون؟ وعليه، لا يمكن أن تكون مقابر الحميريين التي اكتشفها بنيامين مزار لجثامين موتى يهود تمَّ نقلهم من مملكة حِمْيَر إلى بيت شعاريم، بل على الأرجح يجب أن تكون لجالية حِمْيريّة كانت قد استقرت في فلسطين، لكن إذا استبعدنا وجود هجرة من فلسطين إلى اليمن، فلن يبقى إلا أن تكون هناك جالية من يهود حِمْيَر قد هاجرت من اليمن إلى فلسطين، واستقرت هناك، وخصّصت مقابر لأفرادها في بيت شعاريم، بل نقلت معها عاداتها وديانتها وطقوسها، وهذا هو الاحتمال الأقرب إلى الحقيقة. لكن هذا الكلام لا يعني على الإطلاق أن اليهود الذين ينتمون إلى أصول أنثروبولوجية مختلفة لهم أي حق بأرض اليمن، بل يعني أن يهود اليمن تلاشوا بتلاشي مملكتي سبأ وحِمْير، ولا علاقة لهم باليهود الحاليين، وليست فكرة أرض الميعاد أصلاً سوى فكرة زائفة.