في البحث عن سرّة الكون المقدس | عبير جميل سليمان

مكة قديما
مكة قديما

في كتابهِ "مروجُ الذهبِ ومعادنِ الجوهر"، رأى المؤرّخُ والرّحالةُ الكبير أبو الحسن المسعودي أنّ العراقَ هو سرّةُ الأرض، حيث ذكر وصفاً عن العراق (على لسان أحد الحكماء الذي كلّفه الخليفةُ عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- بمهمّةِ شرح أحوال البلاد)، جاء فيه: "وأمّا العراق، فمنارُ الشرق وسُرّةُ الأرض وقلبها، إليه تحادرت المياهُ، وبه اتّصلت النضارةُ، وعنده وقف الاعتدال، فصفتْ أمزجةُ أهله، ولطفتْ أذهانهم، واحتدّت خواطرهم، واتصلت مسرّاتهم، فظهر منهم الدهاءُ، وقويت عقولهم، وثبتت بصائرهم. وقلبُ الأرضِ العراقُ".





لكنّ المؤرّخَ أبا وليد الأزرقي، في كتابه "أخبار مكّة"، أورد أحاديثَ مختلفةً تؤكّد اعتقاده بأنّ مكّة هي سرّةُ الأرض، مِن هذه الأحاديث قول مجاهد: "خلق الله عزّ وجلّ هذا البيتَ قبل أن يخلق شيئاً مِن الأرض".  في الحقيقة، ثمة كتبٌ كثيرة عن أخبار التاريخ القديم تُقدّم تصوّراتٍ متباينةً عن موقع هذا المركز القدسيّ أو "السرّة" أو "قلب الكون". 


من الشائعِ حتى يومنا هذا أن يُضحّي الناس بذبيحةٍ عند شرائهم منزلاً أو محلّاً تجارياً، فإن سألتَهم عن الدافعِ لتقديم هذه الأضحيةِ فإنهم يذكرون أسباباً مختلفةً؛ مثل أنّهم يفعلون هذا لأنه نوعٌ من الأعرافِ والعاداتِ الموروثةِ التي يجري اتّباعها؛ درءاً للحسدِ والشرور، ورغبةً مِن مالكي العقار في بذلِ فداءٍ يحمي سكّان البيت من المصائبِ والأمراض. مِن الطقوسِ المتّبعةِ في الهند، قبلَ البدءِ بتشييد البناء، أن  تّتمّ الاستعانة بمنُجّمٍ من أجلِ اختيار النقطةِ التي ينبغي أن تُحفر حولها الأساسات؛ ذلك كي يختار النقطةَ الواقعةَ فوق الثعبان الذي يحمل العالم، حيث يعمد المعماريّ إلى قطعِ وتدٍ من خشبِ شجرة (الخديرا)، ويشكّه في الأرضِ بواسطةِ جوزة هندٍ عند الموضع الذي يعتقدون أنّ رأس الثعبان سوف يُسحق فيه. في الحالتين السابقتين ثمة تكرارٌ للطقوس الروحيّة المرعيّة منذ آلاف السنين، كما توجد أمثلةٌ مشابهةٌ لهذه التقاليد مِن جميع البلادِ والحضارات على اختلاف مشاربها؛ فسابقاً، عندما كان غزاةُ الإسبان والبرتغال يحتلّون الجزرَ والقارات، كانوا يفعلون ذلك باسم يسوع المسيح، فينصبون الصليبَ في الأماكن التي يتم الاستيلاء عليها؛ كنوعٍ من "التّسويغ" أو "التَطويب" أو "التّعميد".  لكن، كيف بدأت هذه العاداتُ المرتبطةُ بالبناء أو السّكن أو بدخول الأراضي الجديدة؟ ومن أين اكتسبت أفكارها والمسوّغات التي تبرّر الالتزام بها؟ 


تقودنا الجذورُ التاريخيةُ لهذه الطقوسِ إلى حقيقةِ أنّ القصدَ من وراء التضحيةِ والذبحِ محاكاةُ المشهدِ الكونيّ الأوّل، الذي كان تدشيناً للخلقِ وبداية الحياة؛ إذ كانت الأراضي البورُ والقاحلةُ غير المأهولة تمثّل بالنسبةِ للإنسانِ العماءَ أو العدمَ الذي يسكنه الغيلان أو "الهولات"، أي أنها نُسخةٌ أرضيّةٌ عن مشهدِ ما قبل الخلقِ أو الولادة؛ لذلك، فإنّ أيَّة نيّةٍ في تحويلها إلى مستوى أعلى تحتاج إلى قربان كالذي تمّ تقديمه في معظم الأساطيرِ القديمةِ التي تتحدّث عن كيفيّةِ بدايةِ الحياة. ولم يكتفِ الإنسانُ القديمُ بمحاولةِ تقليد حادثةِ الخلْقِ الأولى، التي احتاجت إلى تضحيةٍ عظيمةٍ، قبلَ مُباشرته في تشييدِ الأبنيةِ والقصورِ والمعابد، بل كان كذلك يحاول الوصولَ إلى ما يظنّه مركزَ الكون أو "السرّة" التي يمكن أن تجعله على اتّصالٍ دائمٍ مع السماءِ أو الآلهةِ التي يعبدها، ممّا يمنح حياتَه الدنيويةَ مكانةً أعلى وأرقى، وذلك عبر الاقتداءِ بصورةِ الآلهة ونمطِ معيشتها.


يُرجع (مرسيّا إلياد) في كتابه: "العود الأبديّ" النظرياتِ التي تقوم عليها طقوسُ البناء إلى أنّه: "لا شيءَ يمكنُ أن يدومَ إن لم تَدبّ فيه حياةٌ وتُوهبْ له نفسٌ عن طريقِ تقديمِ ذبيحةٍ؛ لأنّ النموذجَ الأوليّ أو الأصليّ للبناءِ هو الذبيحةُ التي نُحِرتْ عند إنشاءِ العالم، والحقُّ أنّ العالمَ في بعضِ أساطيرِ الخلقِ يكتسبُ الوجودَ من خلال هولةٍ بدئيٍّ، كرمزِ العماء "تيامات"، أو بذبح إنسانٍ أعظم كونيٍّ، مثل "إيمير" أو "بان" أو "كو" أو "بوروشا"". ما يعني أنه يتمُّ الحصولُ على حقيقةِ المكانِ بتطويبِ البُقعة؛ أي: بِربطها بمركز الكون، وحقيقةُ المكان هنا تعني أصلَه وجذورَه القدسيّةَ، أمّا التطويبُ، فهو تعبيرٌ مازال يُستخدم حتى اليوم أثناء تسجيلِ حقوقِ البيعِ والشراءِ بِاسمِ مالك العقار. 


إنّ تكرارَ مثلِ هذه الطقوسِ عند البناءِ أو السكنِ محاولةٌ للعودةِ بالزمنِ من وقته الراهنِ إلى الزمنِ البدئيِّ الذي نشأ فيه العالم. بتعبيرٍ آخر، إنّ ارتباطَ الإنسانَ بهذه التقاليدِ وتلكَ القناعاتِ إنّما يهدفُ للعودةِ به إلى أصلِ الأشياءِ أو مركزها، عن طريقِ منحِ الأفعال الدنيويّة أبعاداً قُدسيّة، ذلك عبر تقليد الحادثة التي يؤمن الناسُ أنها كانت سبباً في ولادةِ الكون. فلا يوجدُ فعلٌ عبثيٌّ أو عفويٌّ في سلوكيّاتِ وتصرُّفاتِ الإنسانِ القديم- وفقاً لمرسيا إلياد، بل جميعُ أفعالِه تحمل مغزًى أبعدَ من مُجرّدِ خدمةِ حاجاته اليوميّة، إنها تماماً تقليدٌ لسلوكياتِ الآلهةِ  وقصصها، وليست الأشياءُ المحيطةُ بالإنسان، بِغضِّ النظرِ عن طبيعتها، سواء كانت جماداتٍ أو كائناتٍ حيّة، إلّا نُسخاً مشابهة للأصول السماويّة، ولا يمكن أن تحمل هذه الأشياءُ قيمة أو معنًى دون ارتباطها بمثيلاتها المقدّسة.


ومِن أجل فهمِ العلاقةِ التي تجمعُ الأبنيةَ والمعابدَ والأبراجَ القديمة التي سكنها الإنسانُ بما يظنُّ أنه مركزُ الكون، لا بُدّ من الإشارةِ إلى أنّ التفكيرَ بهذا المركزِ، أو الرمز المكاني، أو حتى الزمانيِّ الذي يربطه بالإله المعبود، ينسحبُ على كلِّ التفاصيلِ المحيطة به، مثل الأشجار أو الجبال وغيرها. كان القُدامى يختارون أماكنَ المعابدِ بدقّةٍ، بحيث تكون واقعةً تحت مركزِ القُبّة السماويّة؛ من أجل أن تستمدّ جلالاً وقدسيةً وبركةً إلهية.

يؤكّدُ وليام ريتشارد ليثابي في كتابه: "العمارة والأسطورة والروحانيات" ارتباطَ مواقعِ المعابدِ على وجه الخصوص بالأماكن التي يُعتقد أنّ الآلهة زارتها أو سكنتْ فيها، فيقول في أحدِ الأمثلة: "بالنسبةِ لبعضِ الأجناسِ الأوروبيةِ المُبكِّرة، تُشكل قُبّةُ الأوليمب المعبدَ الأكثرَ روعةً بين ما تفتّقتْ عنه قريحةُ الأوّلين مِن خيالٍ، وكان الافتراضُ أنّ جوبيتر سكن قمّة الأوليمب على وجهِ التّحديد، وفي الأوقاتِ اللاحقة شهدتْ اقتصارَ التعبُّد على المباني الدائريّة، مثل معبد ثولوس في هستيا، ومعبد فيستا في روما، وهذا الشكلُ يمثّلُ القبّةَ السماويّة التي سكنها جوبيتر". ويشيرُ ليثابي إلى كهوفِ إلورا في الهند، المقلوبةِ في الصخر، التي مثّلتْ حاملاً لفردوس سيفا siva ، فيما تمثل الروافعُ الكبيرةُ الباقيةُ أعمدةً لرفع السقفِ "سوميرو"، وهو اسم جبل ميرو الذي ترتكز عليه السماء وفقاً لمعتقدات الهنود القدامى. كذلك، جميعنا يعرف مِن خِلال بيئته المحلية أنّ عدداً كبيراً من مواقعِ العبادةِ مِن مساجدَ وكنائسَ وقببٍ ومزاراتٍ دينيّة، شُيِّدت في الأماكنِ التي يُقال إنّ القِدِّيسين أو الأنبياء ظهروا فيها أو مرُّوا بها، ويعتقد الكثيرون أنّ تشييدَ المنازلِ السكنيّةِ أو مجرّدَ زيارةِ هذه المعابدِ أو الأضرحةِ أو المزاراتِ يمنحهم بركةً أو حمايةً ربانية، بالتالي، وبشكلٍ أو بآخر، يصبح هذا المكان "الطاهر" مركزاً يتمتّع بالسموّ. 


إذن، يقعُ المعبدُ الذي يُحقِّقُ المواصفاتِ المثاليّةَ في مركزِ الكونِ، وتُعتبرُ الجدرانُ الأربعةُ مطابقةً لجدران السماء، أما اتّجاهه فيحمل أبعاداً روحيّةً كذلك، والمدخل قديماً، غالباً ما كان من الشرق، بينما المُصلّى يقع في الغرب. 


في كتابه: قُدماء الرحّالة، يقول شارتون: "كل أمّةٍ أجابت بتأكيدٍ ساذجٍ: إنّ المركزَ في بلادي". وعليه، كان مركزُ كونِ المصريّين طيبةَ، والآشوريّين بابلَ، والهندوس جبلَ ميرو، واليهود أورشليم، إلخ. ووفقاً لأفلاطون، فإنّ الإله "أبولو" جلس في المركز على سُرّةِ الأرض، وهذا المركزُ يقع في مدينةِ دلفي بالنسبةِ للإغريق.


لا يختلفُ مهندسان معاصران على أنّ ناطحاتِ السَّحاب الحالية تُعتبرُ حلّاً منطقيّاً لأزمةِ السَّكنِ في العديدِ مِن المُدن الكبرى، التي أصبح توفيرُ المساحاتِ الأفقيّة فيها مُتعذِّراً، نتيجةَ الازدحامِ السُّكانيِّ الكبير، فعوضاً عن الاختناقِ بإنشاءِ المزيدِ من الأبنية، يُمكن زيادةُ عددِ الطبقاتِ في البناءِ الواحدِ بُغية تلبيةِ متطلّباتِ الحياةِ العصريّة. لكن، ما الدافعُ لوجودِ مثل ناطحاتِ السّحابِ هذه أو الأبراجِ الشهيرةِ في منظومةِ بناءِ العالمِ القديمِ؟ كمأذنةِ الجيرالدا، أو بُرجِ بابل، أو بُرجِ بيزا، أو ناطحاتِ سحابِ مدينة شبام اليمنيّةِ القديمةِ. وما الغاية مِن تشييدِ المعابدِ فوقَ الجبالِ الشاهقةِ في عددٍ كبيرٍ من بلادِ العالم؟ مِن المعلوم أنّ مأذنة الجيرالدا في مدينةِ إشبيليّة الإسبانيّة (التي أصبحت اليومَ بُرجاً لأجراسِ كاتدرائيةِ إشبيلية) بُنيتْ عام 1184م، بأمرٍ مِن الملك "أبي يوسف يعقوب المنصور المُوحديِّ"- خليفةِ الموحِّدين، يبلغ ارتفاعُ البُرجِ اليوم حوالي 97 متراً، وكان أعلى بُرجٍ في العالمِ فترةَ بنائه، سقط عقبَ زلزالٍ ضرب المنطقةَ عام 1365م، فاستبدل المسيحيُّون القُبّةَ الإسلاميةَ بصليبٍ وجرسٍ، أي أنّ المأذنة تحوّلتْ من مكان عبادةٍ إسلاميٍّ إلى مكان عبادةٍ مسيحيٍّ، وهذا يعني أنّ سعيَ الإنسانِ لمُلاقاةِ المركزِ القُدسيِّ في السماء احتفظ بِجوهره رغمَ تعاقُبِ القرون، غير أنه اتّخذ أشكالاً وطقوساً متنوعةً في العبادة.


وبُرج بيزا المائل هو برجٌ لجرس كاتدرائية مدينة بيزا الإيطالية،  بُنِي عام 1173م، ويبلغ ارتفاعُه حوالي 55 متراً، تؤلّف ثمانيةَ طوابق. بينما يُعتقدُ أنّ بُرج بابل بلغ ارتفاعه 92متراً، وبُني قبلَ ستة ألاف عام. أما ناطحاتُ سَحاب شبام اليمنية، أوّلُ ناطحات سحابٍ في التاريخ، فيبلغ ارتفاعُها حوالي 24 متراً، وكان الناس يؤمنون بأنّ ارتقاءهم إلى الطبقاتِ الأعلى يمنحهم حمايةً من المخاطر والطوفانات.


يقول وليام ريتشارد ليثابي في كتابه عن العمارة: "يعتقدُ أهل البراغواي أنّ في القُبّةِ السماويّةِ ثقوباً أو نوافذَ يهبط عبْرَها المطرُ، حيث يُمكن لِمن يصعد بدرجةٍ كافيةٍ أن يزور سكّانَ السماءِ الذين يَبدون ويتكلّمون ويعيشون تماماً مثل سُكّان الأرض، فكما يبدو، نحن نعيش في الطابقِ الأرضيِّ من بيتٍ عظيمٍ ترتفعُ طوابقُه الواحدُ فوقَ الآخرِ، وتهبط أقبيته إلى الأعماق السُّفلى".


هذا الاعتقادُ لا يبتعد كثيراً عن طبيعة الاعتقاد بأنّ السماءَ مسكونةً مِن قِبَل الآلهة الذين يعيشون نمطَ حياةِ شديدِ الشَّبه  بالحياةِ التي يعيشها البشرُ، إنما يكمن الفرقُ بامتلاكِ الآلهةِ للقُدراتِ الخارقةِ التي تُخوّلها التحكُّم بمصائرِ الإنسان الذي يسعى جاهداً لكسبِ رِضاها، ويحاول التقرّبَ منها بشتّى الأشكال، يُفسّر هذا وجودَ معابدَ كثيرةٍ فوق قِمم الجبالِ الشاهقة، هذه الجبالُ التي ينظر إليها كذلك على أنّها مراكزُ كونية، أو يُوصف بعضها بأنّه "جبلُ العالم" أو "الجبلُ القطب"؛ فالهندوس يعتقدون أنّ جبل ميرو هو القطبُ الذي تدورُ الأجرامُ السماويّة في فُلكه، وجبلُ العالمِ لدى الكلدانيّين جبلُ نزير، أمّا لدى الإغريق فالجبلُ المركزيُّ هو جبلُ الأوليمب،  وعند المصريّين تلُّ الشمس، وكان يُنظر إلى أعلى نقطةٍ في جبال شينج لينج على أنّها النّقطةُ المركزيّة أو الوسطى للسماءِ والأرضِ في المُعتقداتِ البوذيّة، حسبما أكّد الرحّالةُ الصينيُّ سونج يون، حيثُ يجدُ المرءُ نفسَه شِبه مُعلّقٍ في الفضاء، وفي بابل اختار الإلهُ تموز مركزَ الكون ليكون موقعَ نزوله إلى الأرض.


جبلُ الشيخ في سوريا كان مُحاطاً بالمعابدِ التي تواجهُ جميعُها القِّمة، باعتبارهِ مكرّساً لخدمةِ الإله بعل، كذلك معبدُ مابوج السوريُّ أو هيرابوليس- الذي يصفه ليثابي قائلاً : "كان على ما يبدو مركزاً للعالم وبئراً بِلا قرار". بينما يشير إلى الكعبة في مكّة معتبراً إيّاها مركزَ الحقِّ أو الكونِ عند المسلمين، وجبلُ عرفة هو الجبلُ المقدّس، مُستشهداً بالآية القرآنية التي تقول: "ومِن حيث خرجتَ فَولِّ وجهكَ شطرَ المسجدِ الحرامِ وحيثما كُنتم فَولّوا وجوهكم شطرَه".


أمّا الرحلة إلى بعض المعابدِ الشاهقةِ، فقد تكون أحياناً نوعاً من الأعمالِ المُضنيةِ التي لا يستطيعُ الإنسانُ إنجازَها إلا بشقِّ النفسِ؛ نظراً للطرقاتِ الوعرةِ والقاسيةِ والخطرةِ، حيث الغايةُ من وراء هذا الجُهدِ المريرِ لأجلِ بلوغها تحقيقُ رمزيّةِ الصُّعودِ أو السُّموِّ والارتقاء، كي يستحقَّ الحاجُّ أو الزائرُ السَّخاءَ أو العفوَ الإلهيّ؛ إذ يُعتقد أنّ علوّاً كهذا أنقذ أورشليم وصهيون مِن الطوفان الكبير. وأيضاً، فإنّ الكعبة أعلى مكانٍ في العالم؛ لأنّ نجمَ القُطبِ يدلُّ عليها، وهي موجودةٌ قبالةَ مركزِ السماء. وفي حضارةِ العراقِ القديمة كان جبلِ الزّقورةِ جبلاً كونياً، حيث نقطة تلاقي الأرضِ والسماء التي يستطيعُ الإنسانُ مِن خلالها العبورَ من بُعدٍ دنيويٍّ إلى آخرَ سماويّ.


ممّا سبق، يُمكن لَمسُ القواسمِ المشتركةِ لدى جميع الثقافاتِ البشريةِ القديمة، وملاحظة امتدادِ تأثيرِ القناعاتِ والعقائدِ القديمةِ المختلفةِ إلى يومنا هذا، فجوهرُ الإيمانِ بمركزِ الكونِ هو ذاتُه، رغم أنّه نابعٌ مِن سرديّاتٍ دينيّةٍ متعدّدة، يُمكن كذلك ملاحظةُ التّشابه في كثيرٍ من طقوسِ العبادة والرموز. أيّ أنّ الإنسانَ في لاوعيه خاضعٌ لسطوة قناعاتٍ تتشابهُ مع قناعاتِ أبناءِ الطوائفِ والدياناتِ الأُخرى عن كيفيّةِ نشأةِ الكونِ وانتشارِ الأديانِ والعبادات، لكنّه يميلُ دوماً للبحث عن الأسبابِ التي تجعله متفرّداً أو متميّزاً عن الآخرين، محاولاً الإثبات أنّ المحورَ الذي يدور حولَه، أو المركزَ الذي يسعى للوصول إليه، هو الأكثر صحّةً وصلاحيّة.