أزمة الطبقات الوسطى في دول المشرق العربي | مجدي ممدوح

تعبيرية
تعبيرية

ظهرت الطبقات الوسطى العربية الجديدة من مهندسينَ وأطباءَ ومهنٍ حرةٍ وموظفين عصريين, بدءًا من حقبة التنظيمات العصرية, والإصلاحات في الدولة العثمانية. إلا أن تطورَها السريعَ انتكس وتراجع خلال المرحلة الاستعمارية التي وظفت الخبراء الأجانب.






تاليًا استعادت هذه الفئات _خاصةً المهندسون والأطباءُ_ دورَها الطليعيَ والتنمويَ في بناء الدولة الوطنية وإنشاء بنيتها التحتية المادية والبشرية إبّانَ الحقبة الاشتراكية العربية الناصرية في مصر والبعثية في سوريا، وإصرار الدولة والمجتمع في الأردن على تحقيق نقلة نوعية في التحديث والعصرنة والوعي الوطني السياسي؛ ولكن مع فشل المشروع التنموي العربي وانحطاط التجربة القومية البعثية والناصرية بدأت أوضاع هذه الطبقات بالتدهور، وشهد عقد الثمانينات ذروة هذا التدهور الذي اقترن بتدهور مخرجات التعليم العربي المدرسي والجامعي, وتدهور بيئة العمل، وتحول الشعور بالقوة والمكانة لدى الطبقات الوسطى إلى شعور معاكس تمثل بالخيبة والغبن، وانشغلت قياداتها المهنية وأطرها النقابية في البحث عن بديل مقبول، ما أدى إلى حدوث فراغ مهني وسياسي شغلته فئات الإسلام السياسيّ التي أزاحت القوى الليبرالية واليسارية من داخل التنظيمات المهنية المعبرة عن تلك الطبقات، وتحولت المؤسسات المهنية والنقابية من أدوات تعبئة وطنية للدولة الى موقع النقيض، أي المواجهة مع السلطة التي حاصرت العمل السياسيّ والحزبيّ، مما حول النقابات المهنية تلقائيًا من منظمات تمثل مصالحَ مجموعاتٍ فئويةٍ إلى منظمات تمثل المجتمع السياسيّ والمدنيّ كما حصل في الأردن.


وقد اتفق الباحثون والمحلِّلون للطبقات الوسطى العربية الجديدة على الدور المركزيّ لتلك الطبقات في سياق التحديث والعصرنة، مع تباينٍ واسعٍ في الأفكار وتقييم طرائق العصرنة وتقدير درجة الاستفادة التي حظيت بها طبقات المجتمع.


لقد ساد في حقبة الدولة الوطنية خطاب نضالي (إيدولوجي) طرح التساؤلات المشروعة المتعلقة, وأبعاد قمع العمال والفلاحين, وهيمنة البرجوازية الصغيرة (تسمية اليسار للطبقات الوسطى). ولكن مع تدهور المشروع التَّنموي المصحوب بتضخم أعداد الخريجين، بدأت تظهر مؤلفاتٌ جديدةٌ تصف التدهور الذي أصاب فئات الطبقات الوسطى او (الفقراء الجدد). تواجه الطبقاتُ الوسطى وأطرُها التنظيميةُ تحدياتٍ وطنيةٍ ومهنيةٍ، فمع البطالةِ والعولمةِ والخصخصةِ وتراجع العمل السياسيّ الحزبيّ، تجد نفسها مضطرةً لإعادة التفكير بمعطياتها وأدواتها المهنية السياسية لتجاوز تلك التحديات، فمصلحتها من مصلحة المجتمع، وعلى صعيد المهنة تؤدي النقابات دورًا تكامليًا ورياديًا لرفع مستوى طبقاتها أو حمايتها من السقوط.


أصبحت المهنة في عالمنا المعاصر خاضعةً لمنطق السوق أكثر مما هي خاضعة لمشروع تطوير الموارد البشرية الذي دأبت الدولة على توجيهه إراديًا بعد حروب التحرير والاستقلال، حيث كانت المسالة الاجتماعية مسالةً وطنيةً جعلت الزعماءَ الوطنيين هم نفسهم أبطالَ مشروع التنمية، مما أخضع المجتمع والاقتصاد إلى السياسة. لقد ورثت المجتمعات العربية تركةً ثقيلةً من الحقبة العثمانية، حيث فشل مشروع النهضة والتحديث قي إنقاذ المشرق العربي من أزمته التي قادته إلى المديونية الفادحة في تركيا ومصر، ومن ثَم التبعية الكاملة للغرب. وفي ظل عمليات التحديث العثماني والمصري منذ محمد علي باشا إلى قيام الجمهورية الوطنية (1952)، شكّلت الأقليات نواةَ الطبقة البرجوازية والطبقات الوسطى، وتم تجاوز الطوابق المهنية الصوفية التي كانت تمثل المهنة ضمن تراتب هرمي إلى التنظيمات المهنية, والنقابات؛ لاستيعاب المهن الجديدة, والطبقة العاملة الجديدة التي تركزت حينها في المناجم, والمرافئ, والسكك الحديدية, ومعامل الدخان, والنسيج، ويمكن القول إن بوادر تأسيس النقابات في مصر كانت سنة (1908)، وفي سوريا ولبنان سنة (1920). لقد تداخل النضال الوطني بالنضال الطبقي والمطلبي في نضال العمال ومؤسساتهم، ومثل مشروع التنمية في فترة لاحقة في عهد الدّولة المستقلة انضمام الدولة الوطنية الجديدة إلى قيم التحديث الغربية تحت شعار التقدم والثورة.


وفي نفس الوقت الذي ظهرت فيه الطبقات والمهن الجديدة، ظهرت فكرة خدمة الدولة بوصفها خدمة للمصلحة العامة، ومثّلَ ذلك قطيعة مع نظام التلزيم العثماني وتعايش إلى فترة القديم والجديد. ومن أهم مظاهر التحديث في هذه الفترة إلى جانب ما ذكرته سابقًا هو علمنة القانون وتنظيم المهن الجديدة وانتقالها بدورها من الاختصاص إلى المساهمة في الحياة الاجتماعية والسياسية، وارتباط ذلك بالتعليم الإلزامي الحديث الذي أزاح المدارس الوطنية والتعليم الديني الذي لم يعدله دور المهن الجديدة، وأهمها الهندسة, الطب, والصحافة, والمحاماة. 


كانت الدولة الاشتراكية العربية هي محرك التنمية، وتميزت المرحلة برسوخ نموذج دولة مقاومة اجتماعية في نفس الوقت، فهي التي تروّج للمشاريع الكبيرة, وترعاها, وهي التي تقدم الخدمات والحماية والدعم، وأصبح مشروع التقدم محركًا لسياسات الدولة. على الصعيد الأردني مثلت سنة (1970) مرحلة الاختلالات الوظيفية في المهنة، وتفشي البطالة, وتدهور المكانة، إلا أن حاجة الأسواق الخليجية للأيدي العاملة الماهرة والتخصصات العليا ساعد على ترحيل الأزمة إلى أجل قريب، حيث شهدت التسعينات انهيار الدينار الأردني, وارتفاع الدين, والبطالة, وعمّت الاحتجاجات، ومنها احتجاج نقابة المهندسين على قرار الحكومة سنة (2004) القاضي بوقف توظيف المهندسين في الدولة.


مثّل المهندس منذ عصر النهضة والتحديث أواخر القرن التاسع عشر رمز العصرنة بتأثير (سان سيمون) في مصر وتلاميذِهِ الذين ساهموا في بناء دولة محمد علي باشا، فلم يكن مشروع الإصلاح والنهضة إلا مشروعًا في تطويع العلم, والتقانة لخدمة الدولة, والمجتمع. وقد سبق الأطباء المهندسين في ممارسة حرة للمهنة، ولم يصل المهندسون إلى ذلك إلا في أوائل النصف الثاني من القرن العشرين، حين ظهر المهندس المدنيّ الخاص مقابل مهندس قطاع الدولة، وعملت الدولة على تنظيم علاقة المهندس بالسلطة واعتبارهم تكنوقراط، أي يمكن تحييدهم وتحييد قيم التقدم التقني.


علينا التفريق بين فئات الطبقة الوسطى التقليدية والجديدة، حيث أن التقليدية تشمل الفئات التقليدية المدنية التي ميّزت سكان المدينة قبل التحديث من صغار الحرفيين والتجار، والعاملين بأجر، والموظفين، أما الطبقة الوسطى الجديدة فهي الفئات التي تعرف الآن بالأفعال والأفكار والمسارات المهنية المتصلة بالعصرنة، وعُرِّفت تلك الطبقات في الماركسية بمصطلح البرجوازية الصغيرة. واللافت هنا هو تحول الدولة الوطنية ما بعد الاستقلال لتصبح الفاعل الرئيس الذي يخلق الطبقات الاجتماعية ويشكلها عبر سياساتٍ تنمويةٍ رشيدةٍ، وأصبحت هذه الفئات قاعدة الدولة ومصدر استقرارها السياسي والاجتماعي.


بقي المهندسون، هم وأصحاب الشهادات العليا من التخصصات الأخرى والمهن الجديدة نخبًا حتى فترة قريبة، حيث زاد عدد الخريجين لاحقًا, وتدنى مستوى المكانة بالبطالة, وتدني الرواتب، ولم يعد هناك الكثير من الأمور المشتركة بين جيش الخريجين من المهندسين وغيرهم, وبين أسلافهم من النخب في خمسينات القرن الماضي. ونظرًا لما تنطوي عليه كلمة نخب من إرث ليبرالي، تم إزاحتها في الأدبيات السياسية العربية, والتعامل مع مفهوم الطبقة كوحدة تحليل في الاقتصاد السياسيّ والاجتماعيّ، بحيث لم يعد للمفاهيم الأخرى أي اعتبار، مما حدا بالمستعرب (جاك بيرك) إلى التدخل ونقد المثقفين العرب الذين اختزلوا المجتمعات العربية في بنيتها الطبقية ودعا إلى العودة إلى التحليل والمنهج الثقافوي.


تنحدر الطبقات الوسطى _كالموظفين والمهندسين في سوريا على سبيل المثال_ من أصول ريفية، وكذلك من الأسر الكبيرة والمتوسطة في المدن السورية التي اتجهت نحو المهن الحرة, والابتعاد عن مؤسسات الدولة والجيش، والذي ترك للفئات الفلّاحة والأقليات تزايد نفوذ المهندسين في فترة البناء والتنمية على حساب المحامين والأطباء، وقد توسعت أعدادُهم على إيقاع التمدن والتحديث وإقامة البنى التحتية، ولم يعد ممكنًا فصل مكانتهم الرفيعة عن مشروع البناء الوطنيّ المرتبط بالاستقلال, وساهمت الجامعات الجديدة ومعاهد التقنية العليا في زيادة أعدادهم وتأهيلهم, وقد تحوّل المهندس في الفترة (1965 – 1975) من موظف كبير إلى (بيروقراطي) في إدارات مزدحمة بالمهندسين؛ إذ شهدت هذه الفترة بوادرَ انحدارٍ, وتدهورَ مكانةِ الطبقات الوسطى. 


وبالرغم من امتصاص الفائض, والبطالة بالطلب من السوق الخليجية وسياسات التوظيف الحكومية، إلا أن الأزمة تعمّقت واتخذت المظاهر التالية:


1 - ضعف تشغيل المهندسين نتيجةَ إخفاقِ وتعثرِ التنمية الصناعية.


2 - لجوء الشركات الكبرى إلى الخبراء الأجانب, والتعامل مع المهندسين السوريين وكأنهم مجرد مجازين من المعاهد التقنية مكلفين بمهام تطبيقية لم توكل إليهم أي مسؤوليات، وعند توظيف مهندسين دائمين.


3 - انحدار المنزلة الاجتماعية.


4 - توقف الحراك الاجتماعي بسبب أزمة النظام السياسي مع الإخوان المسلمين (79 -83).


5 - تفاقم الأزمة الاقتصادية وانهيار أسعار النفط.


6 - عدم ضمان تشغيل المهندسين إلا خريجي الجامعات الوطنية.


في الفصل الثالث المتحدث عن النقابية والفئويات تشير الباحثة إلى النموذج الإدراكيّ الوظيفيّ في تفسير آلية الأنظمة السياسية في العالم العربي لفهم الطبقات والمجتمع، واعتَبَر هذا النموذجُ أن الفئوية هي المفهوم الأساس الذي يُنظر إليها ببعدها كتمثيل اجتماعي, وليس فقط بوصفها شكلا من التضامن المرتبط  بالحرفة, والمهنة المختلف عن طبيعة التضامن الطبقي. انزلق المفهوم كما تقول الكاتبة إلى مفهوم جماعة المصالح مما يدل على تغير النموذج الإدراكي واعتماد مفهوم المجتمع في سياق تاريخه، وطبّقت ذلك على النقابات الأردنية، وهي الأقل تنوعًا وتراتبيةً والأحدث تشكلًا في دول المشرق العربي عن المسالة الفلسطينية والنزعة القومية العربية. وفي المقابل لا يمكن فهم ما نقدّمه في سوق العمل بمعزل عن تبعية الأردن لأسواق الخليج. وفي الحالتين تتقاطع الرهانات الاجتماعية والوطنية.


يمكن رصد نوع من العلاقات الملتبسة بين النقابات المهنية (وخاصة المهندسين) والسلطة السياسية في دول المشرق العربيّ, وقد جاهدت النقابات للحفاظ على شرعية وجودها, واستقلالية قرارها, ونخبوية المهنة أمام إصرار النظِّام السياسيّ (المصريّ الناصريّ مثلًا) على فتح أبواب النقابات أمام أصحاب الشهادات الأدنى، مما يؤدي إلى إلغاء المهنة عبر تمييع الهوية المهنية. وظهرت المسالة كمواجهة بين فئوية مجتمعية وبين فئوية إدماجية متصلة بالدولة، وسعت النقابات المهنية للمهندسين إلى العمل الاجتماعيّ التكافليّ لمواجهة الأزمة الاقتصادية والبطالة. في هذه الحقبة ظهرت بجلاء هيمنة الإسلاميين على المهن الأكثر نخبوية في النقابات الأردنية، في حين كانت التوقعات تشير إلى اقتصارهم على المهن الشعبية.


وتتمثل مشكلات النقابات الأردنية ومراحل تطورها في النقاط التالية:


1 – تأكيد إستراتيجية الارتقاء المهني, وتعريف الكفاءات, ورفع قواعد الممارسة المهنية, واستقلالها. 


2 – انشغالات اجتماعية في التكافل والحماية والنضال ضد أخطار انحدار المنزلة.


3 – الدفاع عن شروط العمل والأجور.


4 – الحفاظ على دورها السياسي والتعبوي للأعضاء والمجتمع، إذ مثّل المهندسون قديمًا نخبةً رفيعة َالمستوى، واليوم أصبحوا قِطاعًا واسعًا من الطبقات الوسطى التي تعاني ما تعانيه.


بخصوصِ المهنِ الأقلِ مكانةً من الأطباء والمهندسين، وهم المحاسبين (الطوبوغرافيين), وفنيي المساحة, وخريجي المعاهد المتوسطة والمدارس الصناعية والتطبيقية؛ فهناك صعوبة في وضع تعريف محدد لهذه المهن وأصحابها الذين لا يمكن فهم مهنتهم ودورهم بمعزل عن سياق ورهانات اجتماعية أساسها نضال هؤلاء من أجل نيل الاعتراف, وعملية المنافسة الديناميكية والترقية الاجتماعية من خلالِ تأسيسِ منظمةٍ مهنيةٍ, والحصول على تنظيم وحماية اللقب عبر القانون.


ففي حالة التطبيقيين تشير الكاتبة إلى أن إستراتيجية الارتقاء المهني فشلت، لأنهم لا يطبّقون إستراتيجيةً مهنيةً أو مشروعًا مهنيًا حقيقيُا، وبقي القطاعُ قطاعًا متشظيًا لا يمكن الإحاطة به، ويدين التطبيقيون بمكانتهم إلى الدولة وإلى إجراءات الهيكلة في الوظائف الحكومية.


تواجه النقابات المهنية والمهندسون تحديًا لنخبويتها, أو لاستعادة تلك النخبوية خاصة في ظروف الخصخصة و(الليبرالية) الجديدة. وتمثل مهنة المحاسبة والمدقق المالي مهنة رمزية لحقبة الإصلاحات (النيوليبرالية) مقابل تمثيل المهندسين للحقبة التنموية.


ازدادت الفوارق بين النخب الجديدة التي أنتجتها الليبرالية التي تجمع بين رأس المال الاجتماعي والامتياز، وتتحول بنجاح لتتوافقَ مع النظامِ الاقتصاديِّ العالميِّ الجديد، وبين كمٍ هائلٍ من المهندسين الذين يعانون من سوء التأهيل وقلة التوظيف وسوء التصنيف والأجور، وهذا لا يعني خلو مهنة المحاسب والمدقق المالي من المشكلات، فما زال أصحاب هذه المهن متشظين، ونسبةٌ عاليةٌ منهم يعملون موظفين في الدولة، والتحدي الأكبر الذي يواجههم هو تدويل سوق المحاسبة والتدقيق وسيطرة النماذج المهنية المعولمة. وعلى هذا الأساس فلا بد من تطوير نماذجَ جديدةٍ للمساراتِ المهنيةِ مبنيةً على تصور للمهنية بوصفها كفاءة.