الكتابة بالعصب العاري | خليل صويلح

الكتابة
الكتابة

في عام ألفٍ للميلاد، أنهى أبو القاسم الزهراوي نسخ كتابه "التصريف لمن عجز عن التأليف" في ثلاثين مجلداً، وقد وضع فيه خلاصة تجربته في الجراحة. كان الطبيب الأندلسي قد اختبر وصفة من الأعشاب المخدّرة لاستعمالها في عملياته الجراحية كي لا يشعر المريض بالألم أثناء العلاج، إثر ذلك كتم الصراخ أثناء بتر ذراع, أو فتح بطن, أو استئصال ورم، وذلك باستخدام نشوق تحت أنف المريض إلى أن يغيب عن الوعي، ويطوّر طبيب أندلسي آخر هو ابن زهر عملية تخدير المريض باستخدام صابونة منقوعة بموادَ مخدّرة أكثر فاعلية، شرح مكوّناتها في كتابه "التيسير في المداواة والتدبير", كان المخدّر (البنج) إذاً هو الترياق الذي أسهم في انخفاض مقياس الألم.





ما كان يجري في غرفة العمليات هناك ما يوازيه في غرفة الكتابة، ولكن من موقع مضاد لجهة تدوين الألم، ذلك أنَّ الكتابة دونَ مخدّر ستنتصر على ما عداها في استنفار الحواس، وإن كانت بجرعات متباعدة، أفلتت بمعجزة ما من محاكم التفتيش الأدبية، إذ إنَّ تطوّر علم التخدير انتهى إلى حقنة مركّزة، سواء أكان موضعياً أم عاماً، فيما اقتحمت المحسنات البديعية والمجازات والرنين الإيقاعي جسد الكتابة بقصد إخفاء موقع الألم، وتزويق أحوال الكائن بما ليس فيه بطرق التفافية ومنعطفات ومطبات تمنع ما ينبغي فضحه وتقليبه فوق جمر الموقد، وإذًا ما يسمى الكتابة باللحم الحي بالكاد تعلن عن ذاتها خشية الصدام مع قائمة طويلة من المحرمات من جهة، وخشية المخيال العربي من فتح الصندوق الأسود على الملأ كي لا يكون صاحبه ضحية فردية في ساحة الرجم. 


هكذا توارى ضمير المتكلم تقريباً، لمصلحة ضمير الغائب طلباً للنجاة من اتهامات باطلة تضع ما هو متخيّل في وعاء السيرة، وكأنَّ الروائيَّ _على نحوٍ خاص_ يكتب سيرته الشخصية لا شخصياتٍ متخيّلةٍ استدرجها كيميائياً من مصادرَ, ووقائعَ, وأحداثٍ مختلفةٍ، قبل أن تتشكّل على نحوٍ آخر لحظة تدوينها. ما أحوج المؤلف في هذا المقام إلى تمثّل ما قاله النفري" إذا رأيت النار فقع فيها ولا تهرب فإنك إن وقعت فيها انطفت وإن هربت منها طلبتك وأحرقتك". عبارة ثقيلة من هذا الطراز ستضع الروائي أمام فاتورة باهظة من الخسائر الحياتية، في حال اقتحم النار فعلاً: هل يخضع لموضع الجراح دون مخدّر، أم يلجأ إلى حقنةٍ مسكّنةٍ تبعده عن شكوك المتلقي حيال الأفعال الطائشة التي ارتكبها استجابةً لمتطلبات السرد المكشوف؟ 


هناك لحظة تاريخية سوداء أطاحت ما راكمه الأسلاف قبل قرون في ما يقع في باب "الكتابة من دون مخدّر"، أو "الكتابة بالعصب العاري"، إلى أن ضاقت الدائرة وباتت أنشوطة حول عنق المؤلف بفعل قِيم وافدة ألقت بثقلها على النصّ الأصلي إلى أن استحال إلى زخرفةٍ لغويةٍ، وطهرانية مزيّفة، وحكاية للتسلية فحسب. هكذا خضع كتاب "ألف ليلة وليلة" إلى عملية تجريف واسعة أطاحت نتوءات النصّ وحواشيه إثر حقنه بمخدّر الفضيلة، وتنقيته من الأعشاب الضارة، وإذا بنا أمام نسخ متعددة من الليالي، تبعاً للجغرافيا التي لجأت إليها هذه الحكاية أو تلك، من طبعة (كلكتا) إلى طبعة (بولاق)، لترتهن "للحذف والشطب والنفي"، وفقاً لأهواء نسّاخ الحكاية، وسطوة سيّاف الرقابة، وكأننا إزاء عملية جراحية حرجة تستدعي تكتيف المريض كما كان يحدث قبل اختراع إسفنجة النشوق. 


ليس كتاب "ألف ليلة وليلة" وحده ضحية العبارة المشهورة "نسخة منقّحة ومهذّبة"، إنما هناك مئات العناوين في المكتبة العربية وقعت ضحية الإقصاء والنبذ وبتر الأعضاء تحت بند "خدش الحياء العام". في فحص هذا البند بجديّة سنكتشف أن الخدش يتجاوز سطح الجلد ليتحوّل لاحقاً إلى ندبة في الوجه. هكذا اختفت تدريجاً كتب الباه، الكتب التي أنجزها علماء وفقهاء ونسّاخون دون أن يستعملوا أي صنف من المخدِّرات (البنج)، ليس بقصد إثارة الغريزة بقدر عناية هؤلاء بالمعلومات العلمية والوصفات المجرّبة في مواجهة حالات الخصاء. 


 على الجانب الآخر بإمكاننا المقارنة بين ألم ضرس العقل قبل تخديره بمادة "بريلوكائين" الفعّالة من جهة، والأفكار المجنونة, والمتمرّدة, والمشعّة, التي بقيت حبيسة عقل أصحابها خشيةَ سخط الآخرين, وانحيازهم لمصلحة الكتابة مسحوبة العصب من جهةٍ ثانية، وتالياً نظن أنَّ أرشيف الأفكار العصية على التدوين يتفوق على ما سُمح بعبوره تاريخياً، ذلك أنَّ الأدب العربي بقي في منطقة الأسر محاصَراً داخل حقل ألغام، وكأن الكتابة بلغة مقدّسة كاللغة العربية وضعَ النصّ في قفص طيور: هناك أصوات، صرخات موجوعين، خبطُ أجنحة، ولكن داخل قضبان القفص. 


هذه الإعاقةُ التاريخيةُ لم تمنع الكتابة المتمرّدة، والمتفلّتة من الإنشاء أن تنجز فتوحات نوعية، سوف تتراكم تدريجياً، على رغم الانقطاعات القسرية، سواء عن طريق الصورة المبتكرة، وهو ما نجده في المدوّنة الشعرية، أو بادّعاء مقاصدَ تُضمِر نصّاً آخرَ وفقاً لإستراتيجيات أشعار المتصوّفة التي تنطوي على حسيّة دنيوية عالية لا يمكن إنكارها, بصرف النّظر عن روحانيتها المعلنة التي ستحمي معظم هذه النصوص من المحاكمة, أو النفي, أو الاهمال. 


سيُصلب الحلّاج بحجة الإلحاد مقابل عبارة واحدة فسّرها الفقهاء حينذاك على أنها نوع من التجديف، رغم أنه استعمل (بنجاً) من الألغاز اللغوية والمجازات وطبقات التأويل لتطهير نصّه من المحظورات، واجتياز جسر العشق الإلهي نحو ما لا يُقال دنيوياً لفرط الأشواق والصبابة والهيام.  نحتاج هنا إلى إستراتيجية ابن حزم الأندلسي في "طوق الحمامة في الأُلفة والأُلّاف" بقوله" وما مذهبي أن أنضي مطية سواي، ولا أتحلى بحليّ مستعار" راسماً تضاريس خريطة الحب في ثلاثين باباً، من بينها "من أحبَّ في النوم". ابتكر ابن حزم سبباً لتأليف كتابه، وهو استجابةٌ لطلب صديق مجهول الاسم، كنوعٍ من التمويه، لكننا سننسى هذه الذريعة، ونتوغل معه في تفكيك صفات الحب, وأعراضه, وعلاماته نحو هجنة سردية لافتة تمزج الخبر بعلم النفس، والتاريخ, والسوسيولوجيا، واستخدام ضمير المتكلم باعترافات صريحة، مشيراً إلى ذلك بعبارة" وفي ذلك أقول شعراً". 


سننبُذُ جانباً إذاً، "الحليّ المستعارة في الكتابة"، ونفتّش عن تلك النصوص والسرديات والشذرات التي أسست لنصوصٍ مضادة، كما لو أننا إزاء عملية رفع بصمات، في تحديد هوية هذا النصّ عن سواه، وقابليته للإقامة لا الزوال لجهة التفرّد، كما حدث في اختيار المعلّقات من بين آلاف الأشعار التي صدّرها العصر الجاهليّ، أو مثل رسوم الواسطيّ التي رافقت مقامات الحريريّ، أو مثل كتابات الجاحظ التي جرى تغييبها نحو خمسمئة سنة، أو مثل "بصائر وذخائر" أبي حيّان التوحيديّ. لقد ابتكر هؤلاء وسواهم سرديات مفارقة للسائد، كانت بمثابة بنية تحتية لعمارة جمالية صلبة, وعابرة للأزمنة تستدعي البناء عليها لا ردمها، وفي الوقت نفسه ينبغي ألا نتخندقَ خلف أسوارها. ما أحوجنا إذاً إلى خبرة قصّاصي الأثر في فحص تضاريس الطريق، وحدس البدو الرّحل في معرفة ناحية الماء والكلأ. 


بجرعةِ مخدّر مركّزة، أطاح محمد سعيد القاسميّ بمخطوطة "حوادث دمشق اليومية" التي دوّنها المؤرخ الشعبي شهاب الدين بن أحمد بن بدير الحلّاق _أواخر القرن الثامن عشر_ من موقعه كونه حلّاقًا يتطلع لأن ينتسب إلى طبقة العلماء، خاصةً أن بعض الأعيان كانوا يتردّدون إلى محلّه، فكان ينصت إلى أحاديثهم باهتمام، ويدوّن يومياته كمرآة لأحوال المدينة ومكابدات العوام.


 أخضع القاسميُّ النص لعملية جراحية أفضت إلى بتر أعضاء النصّ بقوة وإلى الحذف والإضافة, تحت بند "التنقيح والتهذيب". يروي القاسميُّ أنه أراد أن يبتاع شيئاً من عطّار، فوضع العطّار ما باعه في ورقة مكتوبة، ولما عاد الشيخ إلى بيته فتح الورقة وقرأ ما فيها، فأدرك أنها جزء من مخطوطة تاريخية، فعاد على الفور إلى دكّان العطّار وحصل على بقية الكرّاسة، حتى اجتمعت له مخطوطة "حوادث دمشق اليومية". 


ما فعله القاسميّ فعلياً هو تشويه النصّ الأصلي، بقصد تسكين آلام الحلّاق ومحوها من متن هذه المدوّنة النفيسة بلغة هجينة أطاحت عامية الحلّاق، وإذا بالمخطوطة تتحوّل إلى بطةٍ عرجاءَ لا هويةَ أصليةَ لها، وكأنّ القاسميّ أراد محو سرديات مؤرخ العامية التي تنطوي على موقف نقديّ صريح مما كان يجري في تلك الفترة المضطربة من تاريخ دمشق _خلال عهد الوالي أسعد باشا العظم_ فحذف كل ما يخصّ استبداد الوالي تجاه الرعية، وممارسات الأعيان، والأشعار الهجائية، وحتى بعض الأمثال الشعبية، فيتحوّل المثل الشعبي الدمشقي "كلام الليل ملطوخ بزبدة، فإذا طلع عليه النهار ذاب"، إلى "كلام الليل يمحوه النهار"، بالإضافة إلى عشرات المذابح الأخرى، فهاهنا نسْفٌ علنيٌّ لسرديات العوام كنوع من التعالي على الهامش؛ لكن رحلة المخطوطة لم تتوقف هنا، إذ وصلت نسخة منها إلى القاهرة، ثم ارتحلت إلى مدينة (دبلن) بعد أن اقتناها رجل أعمال أمريكي يُدعى (ألفرد شستر بيتي)، يعيش في إيرلندا، لتأخذ مكانها في رفوف مكتبة المدينة حتى اليوم. 


في النسخة الأصلية من المخطوطة التي حققها أخيراً، فارس أحمد العلاوي، يعيد الباحثُ السوريُّ الحقَ لصاحبه باسترجاع الفصول المحذوفة من المخطوطة، خصوصاً تلك التي ينتقدُ الحلّاقُ فيها عهد والي دمشق أسعد باشا العظم وجوره على الأهالي،  بالإضافة إلى  تحليل محتويات المخطوطة، وسيرة المؤلف، والمصادر التي اعتمدها في كتابة يومياته، كاشفاً عن أبرز الظواهر التي رصدها هذا الحلّاق النبيه طوال ثلاثةٍ وعشرين عاماً (1741- 1762) من موقع المراقب لأحوال المدينة عن كثب، وتوثيق كلِّ ما يتعلّقُ بالغلاء، وزيادةِ نسبةِ الفساد الأخلاقي، وارتفاع الضرائب، ففي القوائم المرفقة بأسعار البضائع والمواد الغذائية، إشارة إلى تدهور أحوال الناس المعاشية "ما جعل الخلق تستغيث وتستجير"، و"تركوا الأعوام في الذل والإرغام، منتظرين الفرج من الملك العلّام ومغيّر الدول والأزمان"، و"وزير الشام مشغول في عمارة داره، ولم يلتفت إلى رعاياه وأنصاره"، و"ما أبقى للفقراء قمصان، وهذا الغلاء ما سمعنا بمثله أبداً، وقد طال المطال، والناس منتظرة للفرج من الملك المتعال" .


لا تكمن أهمية هذه المخطوطة في نبرة الاحتجاج والسخط والإحساس بالهوان حيالَ ما أصاب دمشق في ظل الحكم العثماني فقط، وإنما في تقنياتها السردية التي تنطوي على شغف في تدوين تاريخ العوام من وجهة نظر شاهد العيان الذي كان يراقب من دكانه تدهور الأوضاع، وانحطاط القيم، وعدم الاكتراث بأحوال الشارع.  من ضفةٍ أخرى، تلفت دانة السجدي في أطروحتها "حلّاق دمشق: محدثو الكتابة في بلاد الشام"، إلى الإستراتيجيات الاجتماعية التي سخّرها الحلّاق، والممارسات الخطابية التي قوّضها حين وطأ, وتدبّر, واستفاد من مكانته الجديدة بين النخبة المتعلّمة منخرطاً في تدبير حيل تعكس حداثة مكتسباته الثقافية كونه متصوّف يتطلّع إلى مكانةٍ علميةٍ أعلى، ومنزلةٍ اجتماعيةٍ رفيعة، ومن ثَم "الانتقال من الفضاء النصّي إلى الفضاء العام"، وذلك بذكر أسماء العلماء الذين كانوا يترددون إلى دكانه زبائنَ، ما جعله يتمكّن من "اقتحام السلسلة الأفقية التي تجمع بين العلماء في زمنه"، فكان "يقص شعر النخبة، وفي الوقت ذاته يقصّ قصته معهم". 


وتشير دانة السجدي إلى المجزرة التي ارتكبها القاسميّ بحق ابن بدير، بأنها أتت من موقع طبقيّ ينتصر للوالي لا الرعية، وذلك بـ “إسكات الحلّاق وتغيير لغته إلى درجة أنهما أصبحا، في أحسن الأحوال، خلفيّةً ظريفةً، ويبدو أن العالِم لم يستطع استساغة مخاوف محدَثي الكتابة وطموحاتهم، فاضطر إلى إرجاع الحلاق إلى مكانته الاجتماعيّة الملائمة. بعبارة أخرى يستغل المحقق حقيقة موت الحلاق ليقتله مرة أخرى فيحذف الحلاق وحياته من النصّ".


بهذا المسلك المتعالي، فإنّ القاسميّ استثمر يوميات الحلّاق بوصفها مادة خاماً ، لا وثيقة تاريخية، فمن وجهة نظره، ليس من شأن حلّاق بالكاد يجيد الكتابة، وينتسب إلى طبقة دنيا، أن يتنطّح لمهنة الكتابة التي هي حكر على طبقة المتعلمين، فعَمِل المحقق على إعادة النصّ إلى الحظيرة، بعد قرنٍ كاملٍ من تدوينه، وإكساء اللحم العاري بما يمحو الأصل، وتالياً، نبذ العامية التي لا تخضع للقواعد والتأريخ الرسمي، وبدلاً من تزيين رأس الحلّاق أخضعه للحلاقة على الصفر، ومنعه من النطق، وأعاد تأهيل النص والشخصيات العامة بما يليق بمقامها العالي. 


على الأرجح فإنّ الحلّاق أراد تدوين وقائع الكارثة لا تزيينها، كما فعل القاسميّ في تحقيقه للمخطوطة، مطمئناً إلى موت الراوي الأصلي، وبدلاً من الاشتغال على هدم المنظومة السياسية وفجورها، وفقاً لسرديات ابن بدير، عمل القاسميّ على إعمارها بما ليس فيها بتشويه الأصل وتفريغه من محتواه المضاد، وإخماد تطلعات الحلّاق في كتابة يومياته من وجهة نظر العوام لا مؤرخي الولاة.