من العداء للغرب إلى هوس الهجرة إليه | د. عقيل سعيد محفوض

الهجرة
الهجرة

بين العرب والغرب علاقات ملغّزة، ومن الصعب فهم أي منهما بمعزل عن الآخر, ويكاد كل منهما أن يتحدّد أو يتعيّن بالآخر, والغرب هو بالنسبة للعرب بمثابة مقولة تفسيرية ودالة سببية رئيسة في الظاهرة العربية اليوم, وإنّ تحولات القيم لدى العرب حيال الغرب تضع الطرفين أمام لحظات فارقة في تاريخ كل منهما، وتاريخ التفاعلات بينهما. ولابد من التنويه إلى أنّ كلمتيّ "العرب" و"الغرب" لا تحيل الواحدة منها بالضرورة إلى فاعل أو طرف واحد. وغالباً ما تعني فواعل لديهم تقديرات, واتجاهات, ومصالح مختلفة, وأحياناً متناقضة، وخاصة العرب الذين قلما اجتمعوا أو أجمعوا فعلياً على أمر من الأمور. وعلى الرغم من أنّ مفهومَ الغرب حديثٌ نسبياً، إلا أن النص أحياناً ما يستخدمه بـ “أثر رجعي".





ما الذي يدفع بأعدادٍ كبيرةٍ من العرب للهجرة إلى بلدانَ عدَّتها نظم القيم والسياسات معاديةً؟ وما الذي يجعل الغرب يستقبل كل هذا العدد من المهاجرين؟ وكيف تحول البحر المتوسط من حيزِ قَطعٍ وفصل بين شماله الأوروبي وجنوبه وشرقه العربي والمسلم، إلى وصل واتصال؟ وأين ذهبت نظريات وسرديات الهيمنة, والاستعمار, وما بعد الاستعمار, والصراعات المتجذرة بين العرب والغرب؟ وأين ذهبت تواريخُ وتراكماتُ الحروبِ والأزماتِ والتدخلاتِ الأوروبيةِ في المنطقة؟  ينطلق النص من وجود تحوّل في قيمِ واتجاهاتِ شريحةٍ كبيرةٍ من العرب، من حالة "العداء للغرب" إلى "التطلّع الهوسيّ" و"المحموم" لـ "الهجرة إليه". وحدث تدفّقٌ كبيرٌ للمهاجرين إلى أوروبا وأمريكا وأستراليا وغيرها، الأمر الذي يمثل ظاهرةً تاريخيةً بكل معنى الكلمة. وتحوّل العرب إلى "ظاهرة مهاجرة"، والعربيّ إلى "كائن مهاجر"، وهذا أمر مفهوم باعتبار الظروف والأحوال والأهوال التي يشهدها العرب، لكن أن يكون مقصد المهاجرين هو "الغرب الاستعماريّ" و"الغرب الكافر"، من منظور البعض، والذي سبق للناس أن ثاروا ضده إبّانَ حركات الاستقلال والتحرر الوطني ليخرجوه من ديارهم. فهذا يمثل "مفارقةً تاريخيةً" بالفعل.


يمكن الحديث عن "لحظة فارقة" في تاريخ العلاقات بين العرب والغرب، وهي كذلك بالنسبة لتاريخ العالم, وسوف يكون لها ما بعدها, ومن المفترض أن تحفِّز على المزيد من التقصي والتدقيق في ظاهرةٍ غيرِ مسبوقةٍ تقريباً. ليس في بواعثها السياسية والأمنية والاقتصادية وغيرها في بلدان الهجرة، ولا في عوامل الجذب لدى بلدان التلقي أو الاستقبال فحسب، وهذا أمر حاصل على أية حال، وإنما في تحولات القيم الاجتماعية والثقافية والسياسية، وتغيّر معاني مفاهيم الولاء والانتماء والوطن والدولة والسياسة والهجرة واللجوء والحرب والسلم أيضاً. وثمة ما يجب أن تقوم به دراسات التاريخ والانثروبولوجيا والاجتماع من تتبّع تأثيراتِ ودلالاتِ ما يحدث على مستوى العالم، وخاصةً بالنسبةِ لصراعاتِ المعنى والقوة على جانبيّ المتوسط، التي مثلت خلال عدة قرون بؤرةَ الصِّراع في تاريخ العالم. وحتى لا نذهبَ بعيداً في التاريخ، يمكن البدء من سؤال العرب أنفسهم إبّانَ صدمة الاحتكاك مع الغرب خلال غزو نابليون لمصر والشام: كيف تَقَدَّمَ الغربُ، وتأخر العرب والمسلمون؟ وقد يكون السؤال أُثير قبل ذلك، وخاصةً في مركز الإمبراطورية العثمانية عندما أخذ العثمانيون يلمسون الفارق في القوة بينهم وبين أوروبا. 


السؤال المذكور أعلاه، هو سؤال السياسة والقوة والصراع والاستراتيجية بالأساس، لكنه أفضى إلى إجابات في الفكر والثقافة والاجتماع، كان لها طابع نهضويّ وحداثيّ وتحرريّ، بالمعاني التي كانت معروفةً آنذاك. وهكذا، ثمةَ انتقال في السؤال من السياسة والقوة إلى الفكر والثقافة والاجتماع والعمل والإنتاج والتنظيم، بوصفها ممرات لازمة للإجابة، وتكاد تمثل "كلمة السر" في تفوق الغرب على العرب (والعالم)، وبالتالي تمثل "شرطاً" أو "بداهة تأسيسية" لنهضة العرب وعودتهم المأمولة إلى التاريخ، ليس نهضةً حيالَ أوروبا فحسب، وإنما حيالَ أنفسهم أيضاً. صحيح أنّ صدمة الاحتكاك بالغرب أثارت أسئلةً حيالَ الغرب نفسه، ومن أجل مواجهته، كما سبقت الإشارة، إلا أنّها أظهرت مدى التأخّر التاريخيّ والحضاريّ لدى العرب أيضاً، وحاجتهم للنهضة والتغيير والتنوير، بما هم عرب، وليس بما هم "توابع" لـ “مركز" هو الإمبراطورية العثمانية. وكان ذلك "المركز" ضعيفاً حيالَ أوروبا، ولُقِّبَ بـ “رجل أوروبا المريض"، ولكنّه قويّ في الداخل وحيال "التوابع" و"الهوامش" أو ما تبقى منها. 


ولعل من إيجابيات أو حسنات الهزيمة أمام أوروبا في أعقاب الحرب العالمية الأولى (1914-1918) _من هذا المنظور_ أن تخلّصت المنطقة بما فيها الأتراك أنفسهم، من ثقل اللحظة العثمانية وعنفها وفسادها وتهالكها، حتى لو أنها وقعت تحت السيطرة الكولونيالية الغربية. وهذه مسألة خلافية على أية حال. قد تكون الخسارة أمام الغرب في الحرب العالمية الأولى, والانهيار العثمانيّ هزيمة بمنظور ذلك الزمان، لكنّ الانهيار العثماني مَثَّلَ فرصةً بحد ذاته، على خلافية ذلك بنظر البعض. وكان بالإمكان أن يتحول ذلك الانهيار إلى انتصارٍ بالمعنى التاريخيّ والحضاريّ، وليس فقط السياسيّ والكيانيّ(الدوليّ) لو أمكن للعرب أن ينتهزوا الفرصة ويحققوا استجابةً مناسبةً تضمن وجودَهم الفاعل بين الأمم. وبالطبع لو أمكنهم "تدبّر الموقف" مع الغرب و"احتواء" اندفاعه للسيطرة على المنطقة (والعالم).


لم ينتظر الغربُ العربَ لحين إنزال أفكارهم النهضوية إلى موضع التنفيذ، ولم يكونوا قريبين من ذلك، على الرغم من جدية المحاولات وارتفاع سقف الطموحات والتوقعات. واحتل الغربُ المنطقة، وأقحمَ حداثته فيها، وأدرجها (المنطقة) بقوة العسكرة والحداثة نفسها في نظامه للعالم، دولاً أو أشباه دول، وخرائط وحدود -بالأحرى صدوع- انقسام وصراعات مستمرة بلا انقطاع.


تلقى العرب التأثيرات الأوروبية بقبولٍ واسعٍ نسبياً، ليس لأنها مفروضةً بالقوة الكولونيالية وقوة التجربة والمثال والمنوال فحسب، وهذا ما تتكرر الإشارة إليه، وإنما لشعورهم العميق بالحاجة إليها أيضاً، وافتقارهم للبديل وعجزهم عن تشكيله؛ لكنه تلقى داخله مخاوفَ وهواجسَ على الذات والهوية والقيم الدينية والاجتماعية، وعدم رضا عن حالة "الإلحاق" و"التبعية" التي "أُعيدَ إنتاجها" من النمط العثماني إلى النمط الحداثي الأوروبي الكولونيالي، ولاحقاً ما بعد الكولونيالي. ولم تكن مطالبُ العربِ بالاستقلال السياسيّ والتشكلِ الحضاريّ، مناهضةً للغرب أو معادية له بالتمام، بل كانت تتحرك في أفقه وخط المعنى الرئيس لديه وهو التحديث السياسيّ والاقتصاديّ للمنطقة وإلحاقها بالنظام العالمي آنذاك.


تحالف العرب مع أوروبا من أجل الاستقلال عن الإمبراطورية العثمانية، وكانت الثورة العربية الكبرى (1916) ضد السلطنة العثمانية في جانب منها "هندسة بريطانية"، وجزءًا من متطلبات الحرب العالمية الأولى (1914-1918)، على ما يقول لورنس العرب في مذكراته "أعمدة الحكمة السبعة". ثم عن العرب نهضوا من أجل الاستقلال عن أوروبا. وانقسمت دول ما بعد الاستعمار، بين معادٍ للغرب من جهة، وموالٍ له أو متحالفٍ معه من جهة مقابلة؛ بل إنّ العربَ والغربَ كانوا خلال أكثر القرن العشرين، على الرغم من فترة الاستعمار وثورات الاستقلال، والتدخلات والمواجهات بينهما، وخلافاً لكثيرٍ من التقديرات، "في اصطفاف واحد" تقريباً أو "على جانب واحد" خلال الحروب والمواجهات الكبرى: الحربين العالميتين الأولى (1914-1918) والثانية (1939-1945)، والحربِ الباردةِ, وما بعدها. تخللّ ذلك استثناءات لم تكن قليلةً لكنّها _في نهاية المطاف، وإذا كانت العبرة بالنتائج_ لم تغيّر كثيراً في اتجاهات ومسارات الأمور. وبالطبع، هذا لا يقلل من شأن حركات التحرّر الوطني وتيارات الفكر والسياسة في العالم العربي. وهذا باب فيه كلام كثير. 


إنّ نظرةً إلى أحوال العرب في القرن العشرين تظهر أنهم كانوا -على العموم- "تابعين" للغرب أو "تحت تأثيره" من جهة، ومناهضين له ومتطلعين للتحرر منه من جهة أخرى, ويبدو أنهم لم يتمكنوا من اللحاق به بالتمام، والسير على منواله، ولا "الانفكاك عنه" أو "فك الارتباط به" واجتراح "طريق عربيّ" للحداثة والتنمية.


لنعد بالزمن إلى الوراء قليلاً. كان السؤال لدى العرب: كيف يمكن التحرر من الغرب؟ وأدى ذلك _بفعل عوامل مختلفة_ إلى الاستقلال ونشوء دولة ما بعد الاستعمار، كما سبقت الإشارة، وبالطبع النظام الإقليميّ العربيّ. ثم إنّ مقولاتِ الحريةِ والوحدةِ والاشتراكيةِ والعدالةِ وغيرها التي حكمت عدداً من البلدان العربية، وداعبت مخيال العرب ككل من المحيط إلى الخليج، لم تُصب نجاحاً، بل إنّ الأمور زادت سوءًا في أكثر الأحيان. بل إنّ شعارات الحرية أوصلت إلى المزيد من الاستبداد, واستباحة الإنسان، والوحدة إلى المزيد من الانقسام بين العرب, وداخل عدد من مجتمعاتهم ودولهم نفسها، والاشتراكية إلى المزيد من التفاوت في توزيع الثروات والمشاركة وزيادة في الفقر والقهر الاستبعاد الاجتماعي. 


والواقع أنّ ثمة إخفاق كبير في مشروعات الفكر والسياسة والاجتماع والتنمية والحريات والمشاركة خلال عدة عقود. تقول السرديات القومية والإسلامية وغيرها: إنّ الغرب هو الذي حال-مع عوامل أخرى- دون تحقيق الوحدة والتنمية وحقوق الإنسان، وجعل من نظم الحكم التسلّطية حليفاً رئيساً له، ودعم إسرائيل، وحاصر العرب وغذَّى  صراعاتهم البينية، وتحالف مع دول الجوار الجغرافيّ والتاريخيّ، مثل: تركيا, وإيران, وعدد من الدول الأفريقية ضد العرب؛ لكنّ السرديات إياها، إذ تُرَجِّح تأثير العامل الخارجي، وهو الغرب من منظورها، فإنها تسكت عن عوامل الداخل، من تسلطٍ واستبدادٍ وفسادٍ وقهرٍ اجتماعيٍّ وسياسيٍّ وغيرها، وهي الأهم.


ومع شعور العرب بصعوبة تحقيق تقدّم في مواجهة الغرب، وصعوبات أكبر في الاستجابة لتحديات الداخل على صعيد الاندماج الاجتماعي والتنمية والتعليم والخدمات والأمن... الخ بمعزل عن الغرب نفسه. كان السؤال: كيف يمكن "تدبير الموقف", و"إدارة العلاقات مع الغرب"، بكل ما في ذلك من تداخلات, وتناقضات, وتجاذبات، بين الثقافيّ, والقيميّ, والحضاريّ من جهة، والسياسيّ, والاستراتيجيّ من جهة أخرى؟ اللغز أيضاً كيف تغيَّر ميزان القراءة والتقييم والتقدير لدى العرب؟ وكيف تحولت أوروبا من "العدو التاريخي" إلى "المثال" و"المنوال" في السياسة والاجتماع والدولنة والثقافة... إلخ، ولو أنّ العرب لم يَقْتَفُوا الغرب أو "يَتَمَثَّلُوا" قيمه وتجربته بالتمام، صحيح أنهم "استوردوا" منه كل شيء تقريباً، لكن بوصفه "علبة أدوات" أو "علبة تقنيات"، و"سلع" و"متع"، و"ضبط وسيطرة"، وبنوك لإيداع الأموال، وظهير أو حليف ضد عرب آخرين، في الداخل والخارج، وضد غيرهم. وإذا تساءل الغرب في أعقاب غزوتيّ (11 أيلول/ سبتمبر 2001) لماذا يكرهوننا؟ وهو إذ يتحدث عن مواقف الشبكات الجهادية في المجتمعات الإسلامية، فإنه يعني بذلك العرب والمسلمين عموماً. فإنّ العرب يتساءلون منذ عدة عقود أيضاً: لماذا لا يتركنا الغرب وشأننا؟ ولو أنهم لا يريدون الانفصال عن الغرب بالتمام أو مواجهته، بقدر ما يريدون أن "يتيح لهم" تحقيق مشروعهم النهضويّ، إن كان لا يزال لهذا الكلام من معنى اليوم.


لكن هل لا تزال الأسئلة المذكورة أعلاه حول "العرب والغرب" أو "الإسلام والغرب"، هي نفسها اليوم، وقد تغير العالم كما كنا نعرفه، وتغير العرب والغرب، وتغيرت خرائط المعنى والقوة واتجاهات القيم، بل إنّ من الصعب تتبّع ما يحدث في العالم من تحولات, وتدفقات في الأحداث والمعاني والسلع والأفكار والفواعل... إلخ. عالم أهم ما يميزه "السيولة" في كل شيء تقريباً.


ربما تحولت الأسئلة لدى الغرب، من "لماذا يكرهوننا؟" إلى: لماذا كل هذا الهوس بالهجرة إلينا؟ إلى أن باتت دول الاتحاد الأوروبي تستخدم قواتها البحرية للحد من تدفق المهاجرين واللاجئين، وتقيم اتفاقات مع دول مثل تركيا ومصر وتونس والمغرب وغيرها للحد من تدفق المهاجرين إلى أوروبا؛ ولكنّ الوضع حرج لدرجة أنّ سفن الحراسة والدورية الأوروبية تنتشل اللاجئين من "قوارب الموت" وتأتي بهم إلى شواطئ أوروبا. هذه ليست مهمتها؛ ولكنه هو المطلوب بالنسبة للاجئين أنفسهم. وهل الحياة مستحيلة إلى درجة أن يقذف الناس بأنفسهم في البحر ويغامرون بالموت في سبيل الهجرة؟ وهل تحوّلت كراهية الغرب لدى العرب إلى حب لدرجة الهوس أو الهستيريا بالغرب؟!


وقد يكون السؤال لدى شريحةٍ متزايدةٍ من العرب، من هاجر ومن يتطلع للهجرة: لماذا لم تعد الأوطان العربية مكاناً مناسباً للعيش، لمجرد العيش؟ ولماذا تبدو البلاد العربية كما لو أنّ "الداخل فيها مفقود، والخارج منها مولود"؟ بل ماذا يفعل الناس بشأن حياةٍ تكاد تكون مستحيلةً في البلدان العربية؟ وهل يصح أن ننتظر حدوث تحوّلات لا أفق لحدوثها، وقد يطول بنا الانتظار إلى نهاية التاريخ؟ الواقع أنّ التقديرات ونظم القيم أخذت بالتحول إلى أبعد من ذلك, ولم يعد أحد تقريباً يقول شيئاً عن العداء أو الصراع. شيء يشبه "حالة عربية" من حالات "نهاية التاريخ" لدى فوكوياما. انتهى الصراع مع الغرب رسمياً، خلا استثناءاتٍ قليلة. ولم يلبث أن انتهى الصراع اجتماعياً أو شعبياً. ولا يغيّر من ذلك وجود اتجاهات تفكير أو مزاج رافض أو ناقد للغرب، سواء لدى فواعل فكر وثقافة أو فواعل سياسة. وعندما اندلعت الاحتجاجات والثورات العربية عام (2010-2011)، لم تصدر كلمةٌ واحدةٌ تقريباً ضد الغرب. ومن الصعب أن تجد خطاباً مناهضاً للغرب بالمعنى الذي كان العرب يعرفونه قبل عدة عقود وربما قبل عدة سنوات.  

  

يُفترض أن "قوارب الموت" وتدفق ملايين اللاجئين والمهاجرين حسم جانباً من السجال –كما كنا نعرفه- حول العلاقة بين العرب والغرب، الإسلام والغرب. وبعد سنوات من الاستقلال عن الغرب، يصل المشهد إلى مفارقة تاريخية مؤلمة، كما لو أن الموانئ التي رست فيها سفن القوّات الأوروبية المنسحبة من دول المنطقة، أخذت تستقبل قواربَ تقل أضعافاً مضاعفة من اللاجئين الذين ناضل آباؤهم لتحريرها من الأوروبيين، فارّين من جحيم أوطانهم ودولهم ومجتمعاتهم. إن الهجرة إلى الغرب، ليس لمجرد الهروب من الصراع في عدد من المجتمعات والدولة العربية، أو البحث عن فرصٍ أفضلَ للعيش، ذلك أن الهجرة لا تقتصر على بلدان الحرب، بل نتيجة "شعور عام" بأنّ السياسة تكاد تكون بلا أفق في بلدان الهجرة. بل إنّ مجرد تدبير أوليات الحياة، مجرد الحياة أو "الحياة العارية"، مسألةٌ تزداد صعوبةً بمرور الوقت، وأحياناً ما تقترب من الاستحالة!


تكاد الهجرة من الدول العربية إلى الغرب تشكل "هستيريا جماعية"، نوعاً من "حس مشترك" و"التباس جماعي" أو "إرادة جماعية" تقريباً، إن أمكن التعبير. مئات الآلاف، بل ملايين المهاجرين الذي غادروا من بلدانهم في أقسى الظروف والمخاطر، وابتلع البحر المتوسط أجساد المئات وربما الآلاف منهم. صحيح أنّ الظاهرة تراجعت نسبياً من حيث تواتر أعداد المهاجرين، وربما تغيرت نوعية المهاجرين، إلا أنّ خط القيم الخاص بالهجرة في تصاعد، ويطال شرائح اجتماعية وعمرية أوسع. ما يحدث ليس استقالة العرب من الصراع مع الغرب، فسؤال الصراع لم يعد أولويةً لدى شرائحَ اجتماعيةٍ كبيرةٍ نسبياً، وقد لا يكون موجوداً في تقديرات أو أولويات ونظم القيم لدى كثيرين، وهذا ليس لنقصٍ في البداهة العقلية والتاريخية لدى الناس، وأولهم فواعل الفكر والسياسة، بل للشعور باستحالة أو صعوبة فعل شيء في مجتمعاتهم وبلدانهم. ما يحدث ليس قطيعةً تاريخيةً في براديغم (الإطار الإرشادي أو المعرفي) العلاقات بين العرب والغرب، ولا نهاية لعوامل التنافر أو الصراع بين الطرفين، بقدر ما أنّه تحول في مداركَ واتجاهاتِ شريحةٍ كبيرةٍ من الناس، قرّرت العزوف عن السياسة والقضايا الكبرى، والانهمام في تدبير الحياة، ما أمكن من حياة. 


مرة أخرى، وهذا من باب التأكيد، إنّ ما يحدث ليس نهايةً حتميةً للتجاذب مع الغرب، ولا خروجاً جديداً للعرب من التاريخ، بما أنّهم أطرافٌ فعليّون أو طامحون للفعل، مجتمعاتٍ وأممًا، بل اندراجهم فيه، بوصفهم أفرادًا لاجئون، هم "في" الغرب، ولكنهم ليسوا "منه". و"من" العالم العربي، ولكنهم ليسوا "فيه".