في بداية القرن السابع الميلادي، كانت اليمن ممزقة إلى العشرات من المقاطعات ومراكز القوى المتناحرة، وفي هذه الأثناء بدأ انتشار الإسلام، وكان أول أمراء اليمن الذين أعلنوا إسلامهم أمير صنعاء الفارسي (باذان)، وبدأ الإسلام ينتشر في اليمن، وعندما مات باذان ولّى النبي ابنه (شهر بن باذان) على صنعاء وأعمالها. بعد موت الرسول، أدت سياسة قريش في جباية الصدقات وإرسالها إلى المدينة إلى احتجاج أهل اليمن واعتراضهم، فكان لا بدّ من إجبارهم بقوة السيف؛ ولذلك تم اختراع شخصية (الأسود العنسي) من أجل تبرير إرسال الجيوش إلى اليمن.
بحسب الروايات القرشية فإنّ (الأسود العنسي) من (عنس)، وعنس من (مذحج)، واسمه (عبهلة بن كعب)، ولقبه (ذو الخمار)؛ لأنه -كما ادعوا- كان يغطي وجهه معتمًا متخمرًا بخمار، وقيل: (ذو الحمار)؛ لأنه كان له حمار مدرَّب، يقول له: "اسجد لربك، فيسجد، ويقول له: ابرك، فيبرك". اشتهر باسم (الأسود العنسي)، قيل: لاسوداد في وجهه، وقد يكون (الأسود) هو اسمه الأصلي لا صفة له، كان الأسود العنسي -كما تقول الروايات- ضخم الجسد قويا شجاعا، كان ذا شخصية قوية جذابة مؤثرة، وكاريزما عالية، وقدرة مدهشة على الإقناع والقيادة، فقد كان كاهنا مشعبذًا يري الناس الأعاجيب، ويسبي منطقه قلب من سمعه.
انضمت إليه كندة في حضرموت، والأزد غربا، وقبائل خولان في الشمال، وقبائل حمير في الوسط، وزبيد في الغرب، كلهم انضموا إلى جانبه بسهولة. وكان قد راسله (بنو الحارث بن كعب) من أهل نجران، وهم يومئذ مسلمون -كما قال المؤرخون-فطلبوا منه أن يأتيهم في بلادهم، فجاءهم فاتبعوه، وارتدّوا عن الاسلام، فاستولى عليها وطرد منها عامل الرسول (عمرو بن حزم)، ومن نجران بعث الأسود رسالته الشهيرة إلى عمال الرسول في اليمن: "أيها المتوردون علينا، أمسكوا علينا ما أخذتم من أرضنا، ووفروا ما جمعتم، فنحن أولى به، وأنتم ما أنتم عليه". يقول الذهبي في سير أعلام النبلاء: "قال سيف بن عمر التميمي: حدثنا المستنير بن يزيد النخعي عن عروة بن غزية عن الضحاك بن فيروز الديلمي عن أبيه قال : أول ردة كانت في الإسلام على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على يد عبهلة بن كعب، وهو الأسود، في عامة مذحج؛ خرج بعد حجة الوداع، وكان شعباذا يريهم الأعاجيب، ويسبي قلوب من يسمع منطقه، فوثب هو ومذحج بنجران إلى أن سار إلى صنعاء، فأخذها، ولحق بفروة من تم على إسلامه، ولم يكاتب الأسود رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لم يكن معه أحد يشاغبه، وصفا له ملك اليمن". كما تزوج من (أذاد) أرملة (شهر بن باذان). وهكذا، وبحسب الروايات، يكون الأسود قد كوًن أكبر دولة، ويمتلك أكبر قوة عسكرية في الجزيرة العربية. وتقول الروايات أيضا: إن الأسود كان يلقب بـ(الرحمن). هذه باختصار هي قصة (الأسود العنسي) كما ذكرتها كتب التراث.
والآن، ننظر في مصداقية هذه القصة:
أولا: إن مصدر هذه القصة هو سيف بن عمر الضبي السعدي البرجمي الضبي التميمي الأسيدي الكوفي، وقد أجمع أهل الجرح والتعديل على أنه متّهم بالوضع، وأنه كذاب، ومتهم بالزندقة. روى سيف هذا الخبر في إحدى عشرة رواية، ونسبها إلى ستة رواة؛ هم سهل بن يوسف الخزرجي السلمي، وعبيد بن صخر الخزرجي السلمي، والمستنير بن يزيد النخعي، وعروة بن غزية الدثيني، وهم مجهولون. وأبو القاسم الشنوي هو أبو القاسم غصن بن القاسم الشنوي، وهو مجهول عند أهل الحديث. والعلاء بن زيد هو أبو محمد العلاء بن زيد البصري الثقفي، وهو متهم بالكذب. هم مجهولون إذن من ناحية السند؛ فهذه القصة مصدرها كذاب يروي عن مجهولين. نقل هذا الخبر عن سيف بن عمر الطبريُّ، وعنه نقل الخبر ابن الاثير وابن خلدون في تاريخيهما.
ثانيا: بالنسبة لمتن القصة، فقد حفلت بالتناقضات؛ فمرة يقال: إنه قد ارتد، واعتُبر أنه أول من ارتد، ولكن، لسنا نرى أي معلومة تشير إلى أن الأسود العنسي قد أشهر إسلامه، فكيف يكون قد ارتد إذا كان لم يسلم أصلا؟ إن أخبار الأسود العنسي قد وصلت إلى الرسول بعد حجة الوداع، وبالرغم من أن الرسول قد أرسل جيوشه إلى الطائف، وكان آخر جيش أرسله إلى خارج الجزيرة، لكنه لم يلجأ للخيار العسكري في التعامل مع دولة الأسود التي وصلت إلى الطائف - بحسب الروايات-. كما أن الأسود لم يقم بأي أعمال عدائية ضد المسلمين، حتى الذين كانوا موجودين في اليمن، وكان أقصى ما فعله أن أرسل إلى جامعي الزكاة: "أيها المتوردون علينا، أمسكوا علينا ما أخذتم من أرضنا، وأمسكوا ما جمعتم فنحن أولى به".
وكما تضاربت روايات سيف في حياة الأسود العنسي تضاربت أيضا في مقتله؛ قال سيف بن عمر التميمي الكذاب: "عن أبي القاسم الشنوي عن العلاء بن زيد عن ابن عمر: أتى الخبر إلى النبي صلى الله عليه وسلم من السماء الليلة التي قُتل فيها العنسي ليبشرنا، فقال: "قتل العنسي البارحة، قتله رجل مبارك من أهل بيت مباركين. قيل: ومن؟ قال: فيروز، فيروز". ونقل عنه ابن كثير قوله: "إنّ خبر العنسي جاء إلى الصدّيق في أواخر ربيع الأول بعد ما جهز جيش أسامة". وقيل بل جاءت البشارة إلى المدينة صبيحة توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم. والأول أشهر. وكأنه نسي أنه سبق وأن ادعى أن الردة حصلت بعد موت النبي. ومن أجل ان يسوّق سيف بن عمر لأكاذيبه فقد زخرفها بمجموعة من المناقب للحاكم ومعاونيه من قريش، باعتبارهم امتدادًا للسلطة الدينية، والطعن في كل من يخالف أوامر الحاكم او يعترض عليها. فشاعت أكاذيبه ونسيت الروايات الصحيحة وأهملت. والتضارب في قصة الأسود العنسي لم يُجبنا: هل كان الرجل (مشركًا) أم مرتدًا؟ وإن كان (مرتدا) فمتى اسلم؟ وإن كان محاربًا للإسلام فلماذا تركه الرسول دون أن يحاربه، وذهب يحارب في الشام؟ وإذا كان مشركًا فلماذا لم يطلب الرسول من المسلمين في اليمن -وهم يسيطرون على اكبر مدن اليمن- أن يحاربوه؟ وكيف استطاعت دعوة مشعوذ أن تتغلب على دعوة الإسلام؟
ومما تقدم يتبين لنا أن الخرافة التي أطلقوا عليها اسم (الأسود العنسي) لا تصح، ولا يمكن قبولها؛ لكون مصدرها شخصًا إخباريًّا كذابًا ومتهمًّا بالزندقة، وادّعى أنه أخذ هذه القصة من أشخاص اخترعهم من مخيلته؛ مجهولين عند جميع من يسمّون أنفسهم أهل الجرح والتعديل. كما أن التضارب في تفاصيلها يجعل من الصعب على العقل السليم تقبّلها.