هل انتحل الجابري مقولات جدعان حول قضية المحنة؟ | مجدي ممدوح

القرآن الكريم
القرآن الكريم

ربما يكون كتاب "المحنة" للمفكر فهمي جدعان هو الأوسع والأكثر رصانة والأغنى توثيقا فيما يتصل بمحنة أحمد بن حنبل المشهورة بمحنة خلق القرآن، التي ابتدأت في خلافة المأمون، وامتدت لخلافة المعتصم والمتوكل. وكان من الطبيعي أن ينهل الجابري وغير الجابري من هذا المرجع المهم. لم ينكر الجابري أنه اطّلع على كتاب فهمي جدعان، وأنه استعان بالمراجع التي أوردها جدعان في كتابه.




ومن المعروف عن الجابري أنه يستشهد باقتباسات من مراجع مهمة دون أن يرجع لهذه المراجع، بل يأخذ الاقتباسات ممن اقتبسوا من هذه المراجع ووثقوا لهذه الاقتباسات في كتبهم. وقد انتقد جورج طرابيشي هذا الأمر عند الجابري واكتشف الكثير من الاقتباسات التي لم يأخذها الجابري مباشرة عن المرجع الأصلي، مثال ذلك اقتباسات الجابري من لالاند التي لم يأخذها من لالاند بشكل مباشر. وقد عد طرابيشي هذا الإجراء نقصا خطيرا في منهجية الجابري. من الواضح أن الجابري استعان بمجموعة المراجع والاقتباسات التي وجدها في كتاب جدعان، وهذا أمر مفروغ منه، ولا يحتاج لنقاش. والسؤال المحوري في هذا السياق: هل تبنى الجابري مقولة فهمي جدعان واستنتاجاته حول المحنة؟


 يتفق الرجلان (جدعان والجابري) على أولوية العامل السياسي في هذه القضية. والفارق بينهما أن الجابري يعتبِر العامل السياسي هو العامل الوحيد الذي ظل حاضرا طوال هذه المحنة، في حين يعتقد جدعان أن السياسي تداخل مع الديني، ولا يمكن الإحاطة بمفاتيح هذه القضية من خلال العامل السياسي فقط. ويظهر هذا الرأي عند جدعان بوضوح كافٍ في الفصل الخامس من كتاب المحنة، والذي يمكن عدّه فصل الأحكام والاستنتاجات. يعتقد جدعان أن هذا الحدث الجلل محكوم من مبتدئه حتى منتهاه بالجدلية التي تتحكم بالحياة الاجتماعية في الإسلام، وهي جدلية الديني - السياسي. بل إن جدعان يعتقد أن كل ما حدث ويحدث من حراك اجتماعي في الفضاء الإسلامي محكوم بهذه الجدلية. ويضيف جدعان أن قضية المحنة تمثل حالة الاندماج القصوى بين طرفي هذه الجدلية. 


 يعتقد الجابري أن السياسة هي المحرك المركزي في الحضارة العربية الإسلامية؛ ولهذا السبب فإنه اعتبر أن قضية المحنة التي ابتدأها المأمون كانت قضية سياسية خالصة، ونعتها بأنها قضية أمن دولة، الهدف منها القضاء على خصوم الدولة العباسية، وعلى خصومه هو شخصيًا، بعد الخلاف الدامي الذي حصل بينه وبين أخيه الأمين. ويشير الجابري إلى أن قضية الامتحان بخلق القرآن كانت غطاء ووسيلة لتصفية خصومه الذين ساندوا أخاه الأمين.  ثمة خصوم لم يتساهل معهم المأمون، وهم المعارضون له بالرأي والفعل، حيث استنطقهم وقتلهم فور إنكارهم لمقولة خلق القرآن وتمسكهم برأيهم أنه كلام الله الأزلي، وهؤلاء ممن استشعر منهم الخطر المؤكد. والدليل على ذلك أنه لم يمهل أحمد بن نصر الخزاعي كما أمهل بن حنبل، بل بادر بقتله وحز رأسه وتعليق الرأس للمشاهدة من قبل العامة؛ والسبب في ذلك أن الخزاعي كان خصما سياسيا خطيرا، وهو الذي بايعه الناس لتولي مهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في فترة الفراغ السلطوي إبان غيبة المأمون في خراسان، بعد أن أصبحت بغداد خرابًا جراء المقتلة التي حصلت بين الأمين والمأمون. أما حالة ابن حنبل، فإن المأمون كان يعلم أنه معارض له بالرأي فقط، وهو ليس ممن اصطفّوا مع الأمين في محاربته، وظل يواظب على استتابته، حيث كان يؤتى به مصفدًا بالأغلال ويمتحن مرة تلو الأخرى:


- ماذا تقول في خلق القرآن؟ 

- هو كلام الله الأزلي.

- ولكن الله يقول: "إنّا جعلناه قرآنا عربيا"؛ فهو إذن مجعول، والمجعول مخلوق.

- هو مجعول 

- ويقول الله: " ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون"؛ والمحدث مخلوق. 

- هو محدث ومجعول. والله لا أزيد على قول الله. 


هذه طبيعة الاستنطاق الذي كان يتعرض له أحمد ابن حنبل بحضور ابن داود المعتزلي، وهي تختلف كثيرا عن استنطاق بقية المعارضين، وهذا يثبت أن دوافع المأمون كانت بالفعل دوافع سياسية خالصة، وأنه استعمل المعتزلة كأداة لتصفية الخصوم. وقد سار المعتصم والواثق والمتوكل على نفس النهج الذي انتهجه المأمون، واستمروا في تصفية خصومهم بهذه الطريقة. ويشير الجابري إلى حقيقة أن المؤيدين للأمين كانوا من المتعصبين للعنصر العربي؛ فالأمين هو ابن هارون الرشيد من حرة عربية، هي زبيدة الهاشمية، في حين أن المأمون هو ابن مراجل الخراسانية. وكذلك المعتصم كان ابن ماردة التركية. أما الواثق فكان ابن قراطيس الرومية، والمتوكل ابن شجاع الخوارزمية. 


وإذا كان الجابري وجدعان قد غلّبا الدوافع السياسية الكامنة وراء المحنة مع ميل جدعان لربط السياسي بالديني، فإن الجانب الفلسفي في المسألة ظل غائبا عند كلا المفكرين، فالمعتزلة الذين أعطوا قضية خلق القرآن هذه الأهمية وجعلوها القضية الأولى في امتحان الفقهاء، كانوا يعلمون أن القول بقدم القرآن يبطل الدليل الفلسفي الذي كانوا يسوقونه على وجود الله في سياق محاججاتهم ضد الدهريين والملاحدة والزنادقة الذين كانوا يشكلون خطرًا على الدولة الإسلامية. كان الدليل الفلسفي الذي دأب المعتزلة على تقديمه هو دليل العلة الأولى، حيث إن سلسلة العلل للموجودات الممكنة لابدّ أن تنتهي إلى موجود لا يكون في نفسه معلولاً؛ لأنّ تسلسل العلل إلى ما لا نهاية محال، ولا بد أن تنتهي سلسلة العلة والمعلول إلى علة نهائية، وبذلك يثبت وجود علة أولى تكون علة كل العلل، وتكون علة ذاتها في نفس الوقت. لقد تشدد المعتزلة في حصر القدم في الله، ونفي القدم عمن سواه. ولو افترضنا وجود مادة أزلية، فإن هذه المادة الأزلية ستفي بالغرض تماما كعلة أولى لكل العلل الكونية، وفي هذه الحالة تنتفي الحاجة لافتراض وجود إله كعلة أولى للكون. كان المعتزلة يعلمون بوجود هذه الثغرة في الدليل الذي كانوا يسوقونه في محاججاتهم، ولسد هذه الثغرة قطعوا الطريق أمام كل ادعاء بوجود قديم غير الله واعتبروا أن القول بوجود قديمين يستتبع القول بوجود إلهين. الحقيقة أنه كان من الممكن القول بوجود مادة قديمة متحركة حركة أزلية مع الله دون أن يترتب على ذلك القول أن هذه المادة هي إله، فالمادة لا يمكن بأي حال عدّها إلهًا. ومن المعلوم أن ابن رشد كان يتبع أرسطو في القول بوجود مادة أزلية قديمة دون أن يعد هذا ضربا من الشرك بالله. 


هذا هو السياق الفلسفي الذي برزت فيه هذه القضية. أما قضية التوظيف والاستغلال لهذه القضية من قبل السلطة العباسية، فهذا أمر لا يدخل في صلب البناء المعرفي لهذه القضية. وقد أشار الجابري وجدعان إلى أن جذور هذه المسألة الجدلية تعود إلى ما قبل ظهور المعتزلة، حيث قال بها قبلهم الجعد بن درهم والجهم بن صفوان، وهما من أشد المعارضين للدولة الأموية. وقد اكتفى الجابري وجدعان بهذا التأصيل للفكرة دون الخوض بالأسباب المعرفية التي قادت المعتزلة لتبني هذه المقولة والدفاع عنها هذا الدفاع المستميت ونشرها بين الناس. ويمكن الاستئناس برأي الجاحظ أحد أعلام المعتزلة في هذه المسألة، والذي لم يكن طرفا في هذا الصراع، حيث يظهر حماسه لهذه المسألة ويتبناها ويدافع عنها ضد من أنكروها من أهل السنة. وعلينا الانتباه أن الاعتزال يعد مذهبا في العقيدة يختلف عن مذهب أهل السنة في العقيدة؛ لأنهم انتهجوا نهجا مختلفا في اعتقادهم عن الله وذاته وصفاته وعلاقته بأفعال العباد. وهذا يقودنا لإعطاء أهمية للصراع الذي حصل بين المعتزلة وأهل السنة على صعيد العقيدة. والصراع بين المذاهب العقدية شغل حيزا في السجال المعرفي والاجتماعي في الحضارة العربية الإسلامية. وهذا الصراع موجود سواء استعملته السلطة أم لم تستعمله. ولهذا السبب فإنني أميل لرأي جدعان في عدم إغفال الجانب الديني في هذه المسألة، ولا بد من التعامل مع هذين العنصرين ضمن الجدلية التي قال بها. أما تغليب الجابري للعامل السياسي واعتباره هو المحدد الوحيد فهذا نابع في المقام الأول من طبيعة المبحث الذي أعده حول معاناة المثقفين في الحضارة العربية في مواجهة السلطة، وهو بالتأكيد يدرك الجوانب المتعددة للمشكلة، ولكن طبيعة مبحثه قادته لهذه النتيجة المبتسرة. علاوة على ذلك، فإن المبحث الخاص بمحنة ابن حنبل كان في الأصل عبارة عن سلسلة مقالات في إحدى الصحف مما لا يتسع فيه المقال للتوثيق والتأصيل.