لا تتحدث آيات الكتاب عن حياة محمد بن عبدالله وعائلته، بينما نلاحظ تخمة في السيرة النبوية والأحاديث الشريفة، ومع ذلك لا يذكر الرواة ما يكفي عن والدَي نبي الأمة وطفولته وشبابه الأول للتعرف على مكونات شخصيته البشرية قبل بعثته، كما هو الحال في سيرة المسيح وموسى قبل التبشير، فلم يذكروا شيئا مهماً عن والده عبدالله سوى أنه مات في طريق عودته مع قافلة تجارية قبل ولادته، كما لا يذكرون شيئا عن والدته آمنة التي أُخذ من حجرها وهو رضيع ليتربى عند أسرة حليمة السعدية، وهي التي لا نعرف عنها سوى أنها كانت تعيش في فقر مدقع برملة بني سعد بالحديبية، وغير مفهوم (لماذا تركته والدته وعائلته الثرية في بيت فقير يرعى الغنم حتى السادسة من عمره).. فهل أن تعمية حياة الرسول في مكة قد طُمست في العهد الأموي كي لا يتذكر المسلمون مأساة الرسول وعائلته على يد بني أمية؟ أم لعل الرواة لم يرغبوا بالحديث عن بشرية النبي قبل البعثة؛ فمالوا إلى الأسطرة عبر روايات متأخرة، كحديث حليمة عن امتلاء ضرعها وضرع أغنامها بعدما حضنت طفل النور والهداية، وحديث اعتقال جبريل وملاك مساعد لمحمد في المرعى؛ "فشقَّ صدره وأخرج من قلبه علقة الكفر"، حيث كان يرعى الغنم مع ولد حليمة السعدية، وكأن الكفر جزء مادي في الجسد الإنساني!
يوجد فراغات زمنية كبيرة في القسم الأول من حياة النبي أهمل الرواة ملأها، فهل يعقل أن تُعتمد ستة أحاديث صحيحة لأبي بكر الذي رافقه من طفولته حتى وفاته، بينما يروى 5374 حديثًا لشخص مختلَف على اسمه ومتفق على لقبه "أبي هريرة"، وهو الذي أخذ عنه 800 راوٍ، ولم يذكروا فيها شيئا مهمًا عن تاريخ النبي قبل البعثة، وهذا أمر مريب وغير منطقي في إغفال ذكر الأعمال التي أعطت محمدا قبل بعثته صفة الصادق الأمين بين قومه!
الملاحظ أن الأب غير موجود في سيرة الأنبياء جميعا، فالنبي أب نفسه، وليس له ولدٌ ذكرٌ يرثه؛ حتى لا تورث النبوة. فقط نرى الوالدة موجودة، ولكن سيرتها أيضًا معمّاة، ولا نعرف عنها سوى اسمها وعائلتها، وكذا كان محمد في مرحلة الطفولة الأولى، حيث جعلوه راعيًا للغنم بالأجرة مثل بقية الأنبياء من قبله، مع أنه من عائلة تجارية صاحبة مال وسيادة، في حين تقول الروايات: إن محمداً استمر برعي أغنام قريش وهو في بيت جدّه عبد المطلب، وهو السيد في قومه والعالم بأديان العرب؛ كونه سادن الكعبة الذي ينظم الحجيج على تنوع آلهة الحجاج في البيت العتيق. ويمكننا أن نتخيل حياته المعرفية في أجواء بيت جدِّهِ وضيوفه من أشراف العرب وسادتها، ممن سمع منهم وعاين شخصيَّاتهم القياديَّة والثَّقافيَّة المميَّزة، فاتَّسمت شخصيَّته بالجديَّة وحبِّ المعرفة في عائلة حنيفيَّة على الأغلب، لم يتأكد أنها عبدت الأصنام، ولكنها لم تكن تمانع وجودها في كعبة الله تعالى، كنوع من حرية العبادات التي ألغاها النبي فيما بعد. فقد ذكر الرواة أن (عبدُ المطَّلب) كان يعبد الله ويختلي بنفسه في غار حراء كعادة الأحناف، وقد سمَّى ابنَهُ (عبد الله)، وليس عبد اللات أو العزى، وكذا كان الرسول على طريقة جده قبل بعثته. فقد كان الأحناف ينتمون إلى مِلَّة إبراهيمَ الخليل، ويعبدون اللهَ الواحد، ويميلون إلى الانعزال للتأمُّل في أرض حراء، وكانوا يتطهَّرون بالماء قبل الصَّلاة، ويغتسلون من الجنابة، ويختتنون، ويمتنعون عن الخمر وأكل الميتة والذبائح المقدمة إلى الأصنام، غير أنَّ مفهوم الله عندهم لم يكن قد تطوَّرَ إلى ما صار عليه في الإسلام، فكانت شخصيَّةُ (مُحَمَّد) قبل البعثة مندغمةً في أجواء عائلته ومحيطها الحنيفيِّ، بتأكيد أنَّ جدَّهُ عبد المطلب ختنه يوم سابعه، وصنع له مأدبة وسمَّاه محمداً، وقد استمرَّ في هذا المحيط بعد وفاة جده، وانتقاله إلى كنف عمِّهِ (أبي طالب) الذي ورث عن والده منصبَهُ الدِّينيَّ، وبقي على حنيفيته دون أن يسلم أو يعارض الإسلام، فقد بقي على حنيفيته التي لا تختلف عن الإسلام، هذا إذا لم تكن هي الإسلام في بذرته الأولى.
حمل اليتيم (مُحَمَّد) طفولته القاسية في حياته العاصفة، فكان أباً وأُمًّا للفقراء والعبيد والمستضعفين، يتبعونه فينالون نصيبهم من العدالة والاحترام والطعام والحماية، مقابل الدُّخول في حزب الله، ضد "الارستقراط" القرشي. وقد بسَّط إجراءات الدُّخول في الدين الجديد بجملة واحدة يشهد فيها المرءُ أنَ لا إله إلا الله، وأنَّ محمداً عبدُهُ ورسولُه، فكان كلُّ عضوٍ منتسب إليه يدعى عبد الله، وكان دخول الفرد فيه يمثل انفصالا عن أسرته المشركة، وخروجا من حزب القبيلة وأعرافها، ليندغم في حزب الإسلام ونظامه، هو وسلالته من بعده.
فقد حطم محمد (ص) الأصولية القرشية ثم أعاد بناءها كقائد مجدد، غير أنَّ صورة الإسلام ورسالته وشريعته لم تكن كاملة لدى أعضائه الداخلين فيه، وإنما استمرَّ الدين بالتشكُّل تدريجيا على امتداد 23 سنة: منذ البعثة حتى حجَّةِ الوداع التي أكمل النَّبيُّ فيها صورة مجتمع الإسلام وفكرته الثورية، أي أنَّ إسلام الأولين ترقى في الزَّمن ونضج فقهيا وروحيا، وهذا أدعى إلى ارتباط آيات الكتاب وأحاديث الرسول بالأحداث والوقائع التاريخية ضمن تسلسلها الزمني، فلو كان الكتاب قديماً أزلياً لكان قد أُنزل دفعة واحدة قبل التبشير به، ولمَا كان فيه تكرار أو ناسخ ومنسوخ، فقد كانت آياته مواكبة لقضايا ومشاكل مجتمعه بغية إصلاحه والارتقاء به وسط منافسة الثقافات اليهودية والمسيحية والوثنية، فقد كان التحدي كبيرا.
في ختام رسالته تمكن مُحَمَّد (ص) من خلط الطبقات الاجتماعية القبلية، وإعادة تشكيلها في طبقة جديدة تضمُّ المؤمنين المتكاتفين حدَّ التَّآخي، وهي أمة الإسلام، وجعل من الأسبقيَّة في خدمة حزب الله مقياساً لرفعة النَّاس ورياستهم، فحرَّرَ الفرد المسلم من هيمنة القبيلة وطبقة النُّبلاء والسَّادة، وساهم في تحرير العبيد وأعطاهم فرصة للارتقاء في مجتمع الإسلام. كما حَرَّمَ وَأْدَ الإناث، وأشركهنَّ في الإرث والشَّهادة وحفظ القرآن وجمعه. وخلال عقدين من الزَّمان تمكَّن من إدماج القبائل وإلحاقها بمملكة السماء بدلاً من بطاح الأرض. وحوَّلَ طاقاتِ العرب المسفوحة في غزو بعضهم البعض إلى قوة موحَّدة ابتلعت فيما بعد قارَّات العالم القديم، وأعادت تشكيل حياة شعوبها كرهاً أو حباً.
تشكِّل حياة الرسول وإرثه روايةً فريدةً لا تماثلها حياةُ أيِّ بطلٍ آخر على مرِّ التَّاريخ القديم، وما يُفْقِدُها بعضَ دهشتها وسحرها هو ردُّ نجاحها الكلِّيِّ إلى القدرة الإلهيَّة التي تقدِّمُ مُحَمَّداً كمخرجٍ مُنَفِّذ، على الرُّغم من النَّكبات المريرة والخسائر الكثيرة التي واجهته في حياته التي لم تتدخل العناية الإلهية فيها، فكان رجلا قويا بما يكفي لاستمرار رسالته ونجاحها في بيئة صعبة لم ينجح فيها أحد قبله بجمع شمل العرب، ذلك أن القرآن جاء لهداية قبائل العرب روحيا، بينما عمل الرسول على توحيدهم اجتماعيا أمةً متجانسة في كيان الدولة التي ستتحول إلى امبراطورية عظمى، فقد بدأت ثورته ثقافية بامتياز، ولو كان مجتمع مكة مسالمًا له لما احتاج إلى السيف في نشر رسالته.
وقد أنتجت هذه السيرة في إطارها الآسر أبطالاً آخرين تأثَّرُوا بالنَّبيِّ وتقمَّصوا شخصَّيتَهُ الفذَّة، كعليّ وعمر وأبي بكر وأبي ذَرّ وسَلمان وعمَّار بن ياسر، وكانت سِيَرُهم كما وصلتنا تنهلُ من اسم المقدَّس (محمد) بدلاً من كونها تأتي من تميُّزهم وتفردهم الإنساني، مثلما وصلنا من سيرهم العظيمة. هذه السِّيرة السَّاحرة لبطلٍ فريدٍ ألهمت الكثير من الأفراد عبر القرون اللاحقة، بحيث أنهم تقمَّصُوها وقلدوها في سلوكهم وخطابهم، كما لو أنهم "مُحَمَّدون" صغيرون يستعيدون سيرته بحذافيرها، نقلاً لا عقلاً، مع الإضافات الأسطورية والبهارات التي أضافها الرُّواة للحكاية، بحيث باتت لدينا تصوُّرات عديدة لدى هؤلاء المأخوذين بقصًّة (مُحَمَّد)، بحسب الجزء الذي قرأوه وأحبُّوه: فالصُّوفيُّون والأشاعرة يميلون إلى نُسخة (مُحَمَّد) الحنيفية المكيَّة، بينما تميل جماعاتُ الإسلام السياسي إلى النُّسخة المدنيَّة، ويميلُ الشيعة إلى نسُخة (مُحَمَّد) العَلَويَّة، أما السُّنَّة فيميلون إلى نُسخة (مُحَمَّد) البكرية العُمَريَّة، بحيث بات لدينا (مُحَمَّدون) عديدون بعدد تصوُّرات المتقمِّصين لشخصيته، وما يدمجونه معها من صحابته أو آل بيته، وهذا سببُ اختلافهم على كلِّ شيء، باستثناء الشريعة والعقيدة.
إن متابعة سيرة حياة محمد بن عبدالله ستكشف لنا عن شخصيتين متمايزتين؛ الأولى تبشيرية مسالمة نبتت في مكة، والثانية قيادية سياسية مُحاربة نضجت في المدينة، وكذا في آيات القرآن المكيَّة والمدنيَّة، حيث نجد في الأولى مجازاً وبلاغة وروحانية عالية أفرزتها تجربة العزلة والتأمل، بينما تنهج المدنيَّة نحو التشريع وتستخدم السَّرد المبسط في المراسيم والعقوبات التي لا تحتمل المجازات، لأن الغاية منها تنظيم كيان المجتمع المسلم وما يدخله من تحريم وتحليل وزجر وعقوبات كانت تفرضها الوقائع اليومية لعدد من الناس بات أكبر من أن يتمكن الرسول من متابعتهم فرادى كما كان الوضع في مكة. فإذا كان هناك اختلافٌ واضحٌ وبَيِّنٌ في السيرة النبوية، وفي صياغات النَّصِّ المقدَّس، بين زمنين ومكانين، قبل الهجرة وبعدها (بفارق 13 سنة قبل الهجرة للمكيَّة و11 سنة للمدنيَّة، خلال ربع قرن من الزمان، ومسافة 400 كم في المكان بين مكَّة والمدينة)، فكيف كان الأمر ليكون لو أنَّ الرسول الكريم بُعث بيننا اليومَ، وأراد أن يخاطب مجتمعاتٍ إسلاميةً متنوعة الثقافات وشديدة الاختلاف فيما بينها من الناحية التاريخية والأنثربولوجية واللغوية والعرقية؟ بل ماذا لو جاء (المَهْديُّ)، فكيف سيكون الإسلام الذي سيبشِّرُنا به اليوم أو غدا؟ لاشكَّ أننا سنحصل على نسخة إسلامية محدَّثة تناسب مجتمعاتنا وتساعدها في مواجهة التَّحديات المعاصرة، ولا شك أنَّ السَّلفيين كانوا ليتمرَّدُوا على الرسول ويكفِّروه كما فعل الخوارجُ من قبلُ مع صهره عثمان بن عفان وتلميذه ونَجِيِّهِ عليِّ بنِ أبي طالب.