العبادة.. دراسة لسانية في النصوص القرآنية | د. يوسف فؤاد أبو عواد

القرآن
القرآن

بيّنا في المقال السابق -باستخدام قواعد نحو النصّ وتحليل الخطاب وفق منهجية اللسان العربي المبين- السلوكات التي كانت شائعة عند قوم نوح، وتوصّلنا إلى أنّ هذه السلوكات هي مظاهر عبادة غير الله التي دعا نوح قومه لاجتنابها.





ولدى سيرنا قُدمًا في ثنايا النصوص القرآنية التي تشير إلى أنّ كلّ رسول من الرُّسل كان دائمًا ما يفتتح دعوته لقومه بقوله: "اعبدوا الله ما لكم من إله غيره"، نقف مع قوم عاد، حيث دعاهم نبيهم كما دعا غيره قومه: (وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ)الأعراف:65.


 ولنعرف مظاهر ونتائج عبادة القوم لغير الله، لا بدّ لنا أولا أن نشير إلى أنّ النصوص القرآنية الواردة في شأن قوم عادٍ توضّح أنّهم كانوا قومًا أهل بناءٍ وإعمار وصناعة، وقد بيّن القرآن الكريم على لسان الرسول هودٍ أنّ هذه الإمكانات التي أعطيها القوم هي من آلاء الله ونعمه عليهم، وذلك في قوله: (وَاذكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُواْ آلاء اللّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)  الأعراف: 69، ولْيفهمْ إذن أنّ تطوّر القدرات العمرانية والصناعية -من حيث هو- ليس إقبالا على الدنيا وإعراضًا عن الآخرة، كما يصوّره بذلك كثير من رجال الدّين، فيبنون في العقل الجمعيّ للأمّة فكرة سلبية وعقدة تشعرهم بالذنب إذا ما أقبلوا على مثل هذه الأعمال من الإعمار والصناعة؛ فالنصّ واضح تمام الوضوح في اعتبار ذلك من الله أولا (وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً)، ومن نعمه التي امتنّ بها على العباد ثانيا (فَاذْكُرُواْ آلاء اللّهِ). 


إنما كمنت المشكلة لدى القوم في أهدافهم من هذا الإعمار وتلكم الصناعة، وسلوكهم الذي تجلّى باستغلالها بما يفسد نظام الأرض؛ ولذلك نجد رسولهم يخاطبهم قائلا: (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ* وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ) الشعراء: 128-131، فها هنا سلوكات ثلاثة انحرفت بهم عن الطريق المستقيم: 


الأول: هو البناء بغرض العبث، وما يتضمنه ذلك من إهدار الطاقات والأوقات والموادّ من غير هدف نافع للمجتمع، وما أكثر ما نرى في عالم اليوم أبراجًا وبنايات عملاقة ليس لها غرض أكثر من مجرد العبث بالمعنى الحرفيّ للكلمة! فما بالك إن أقيمت المباني الشاهقة لإفساد الأرض وتدمير البشر وتغيير سنن الوجود؟


أمّا السلوك الثاني، فهو اتخاذ المصانع بغرض الخلود، ومعلوم أنّ أحدًا لن يخلد، ولكنّه هوس الإنسان الذي لا ينفك يلازمه، ولك أن تتخيّل ما الذي يتولّد عن جعل الخلود هدفًا للصناعة، وتستحضر صورة مصانع أسلحة الدمار الشّامل، ومختبرات الأسلحة الجرثومية البيولوجية، وغيرها من أشكال الصناعات الزائفة والضارّة التي ليس لها سوى همّ واحد هو خلود أصحابها، ولو كان ذلك على حساب صحّة البشرية، ولو أدّى إلى فنائها.


وثالث السلوكات التي نهى عنها هود قومه هو أن يبطشوا جبّارين، وكلمة (الجبر) هنا فيها من معاني الإكراه وهضم الحقوق والتعدي على الحريّات الشخصية والاستهانة بالكرامة البشريّة ما كان كفيلا بأن يدوس كرامة أعداد كبيرة من القوم، ويجعلهم لشدّة وطأة هذا البطش الجبّار يستمرئون الذلّ والهوان، ويعتبرونه عقيدة مقدسة ( قَالُوا سَوَاء عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُن مِّنَ الْوَاعِظِينَ * إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ) الشعراء: 136-137، هذا الخُلق الذي قدّسوه هو ما وصفته آية أخرى فقالت: (وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ وَاتَّبَعُواْ أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ* وَأُتْبِعُواْ فِي هَـذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْدًا لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ) هود: 59-60، ولاحظْ كيف جعل إتْباعهم باللعن في الدنيا أولا قبل يوم القيامة مترتبًا على هذا الخُلق الذميم، وكيف عاد في آخر السياق فبيّن أنّ هذا السلوك منهم هو كفرهم ربَّهم، فقد كان ذلك لحساب كلّ جبّار عنيد.


لقد كان الملأ من قوم عاد -على قلّتهم- يتبجحون بأعلى أشكال الاستكبار (فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ) فصلت: 15، وإنّما نسب الاستكبار في هذه الآية إلى جملة القوم لأنّ سائرهم تابع للملأ المستكبرين منهم (وَاتَّبَعُواْ أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ)، ولقد استخدموا فكرة الآلهة الزائفة لتكريس استكبارهم هذا وتجبرهم على سائر القوم، فكانوا هم سدنة الآلهة والمتحدثين باسمها، حتى جعلوا تقديسها خُلقًا للأولين يرِثه الأبناء عن الآباء، ولم يكن أسهل وأيسر عليهم لردّ دعوة رسولهم -لإصلاح حالهم وإعادة كرامتهم وإعادتهم إلى جادّة السنن الكونية الطبيعية- مِن أنْ ينسبوا دعوته لسوء مسّهُ من آلهتهم (إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوَءٍ)، فتكون مجابهته بذلك أيضًا فعلًا مقدّسًا، وكان الذنب الأكبر لعامّة القوم سوى الملأ تعطيل أدوات المعرفة التي زودهم بها الخالق، فتبعوا الملأ منهم في الاستهزاء بدعوة رسولهم، وباعوا عقولهم لعقول غيرهم ممّن لم يكن له هدف سوى استعبادهم باسم آلهة مزعومة، فجاءت هذه الآية ملخصة حالهم هذا (وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون) الأحقاف:26


أمّا قوم ثمود، فقد حصل عندهم من التطور ما جعلهم يصلون لمرحلة بناء القصور في السهول، وينحتون من الجبال بيوتًا، فظهر الاستقلال بالمسكن لديهم من خلال الملكية الفردية (كما بيّن ذلك الدكتور محمد شحرور رحمه الله)، وقد عدّ القرآن الكريم ذلك من آلاء الله فقال: (وَاذْكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُواْ آلاء اللّهِ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ) الأعراف:74.


وقد دعاهم نبيهم بدعوة جميع الأنبياء قائلا: (يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ)، ولدى تتبعنا لمسالك القوم في ثنايا حديث القرآن عنهم نجد الطبقية والعنصرية فاشية في القوم: (قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهۦۚ) الأعراف: 75، ونلحظ أيضًا تكريس ثقافة تعطيل التفكير والتحليل والنقد لديهم لحساب اتّباع المستكبرين، فكان عامّة القوم يسيرون وراء الملأ المستكبرين منهم، شأنهم في ذلك شأن قوم نوح وعاد؛ ومن هنا قال لهم رسولهم صالح: (وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ*  الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ* قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ* مَا أَنتَ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ)الشعراء:151-154، وما يدلّل على التغييب التام للتعقل والتفكر لدى القوم أنّهم يطلبون من رسولهم آية ليتبعوه لكونه بشرًا مثلهم، رغم كون دعوته ليست إلا عودة للفطرة والحريّة البشرية التامّة باتّباع الله خالق الكون من خلال فهم سنن الوجود، وفي المقابل، يتبعون أمر المسرفين الذي يسيرون عكس السنن الكونية، فيفسدون في الأرض ولا يصلحون، يتبعونهم دونما آية، ويتبعونهم وهم بشر مثلهم، ولهذا نفهم السرّ في الآية الكريمة التي تحدّثت عنهم بهذا الخصوص فقالت: (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)فصلت:17، وهنا بالضبط يمكن أن ندرك السبب العميق لاختراع الآلهة الزائفة، وهو ذات السبب لتشديد كلّ رسول على قومه أن يعودوا لعبادة الله وحده؛ فلم يكن لهؤلاء الملأ المستكبرين أن يقنعوا العامّة باتّباعهم إلا من خلال دعوى اتّصالهم بالآلهة، واختيار الآلهة لهم ليكونوا أسيادًا، وحولوا ذلك إلى ثقافة تدرّس للنشء، يصرفونهم بها عن اتّباع القوانين الحقيقية والسنن الأصلية لفهم الحياة والكون كما خلقه الله.


ومن السلوكات المنحرفة التي نجدها أيضًا لدى القوم ربطهم ما يحصل من أحداث بأشخاص أو أسباب موهومة من غير أيّ دليل، وذلك ليسهل على المستكبرين منهم التحكم في عقول سائر القوم، وذلك من خلال ربط أي فساد أو دمار يصيب القوم بشؤم بعض الأشخاص ممّن لم يخضعوا لسطوتهم، نجد إشارة ذلك في قوله تعالى على لسان القوم: (قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِندَ اللَّهِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ)النمل:47 ولكن التقهقر الأسوأ لدى القوم زيادة على من كان قبلهم مجابهتهم الرأي بمخططات القتل والاغتيال المدبر الذي يضيع فيه دم المقتول، وما ذلك إلا لتبنيه رأيًا وفكرة تخالف ما عليه القوم: (وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ* قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ) النمل:48-49


إنّ كلّ ما سبق بيانه بالنصوص القرآنية الواضحة من سلوكات منحرفة ما يزال يتكرر ما يشبهه في العالم اليوم، ويخترع لتبريره من أسباب قدسية نحو الآلهة المخترعة التي كان الملأ يصورون لعامة الناس أنّها المتبوعة، وأن تصرفاتهم ليست إلا باسمها. وها أنت ذا بعد هذا التدبّر المحايد للنصوص القرآنية لم ترَ قطّ في محاورات هود وصالح وقوميهما ذكرًا لطقس ولا لشعيرة ممّا رسّخ فقهاء التراث في أذهان العامّة والخاصّة أنّه العبادة، ولستَ ترى إلا سلوكات ترفع طائفة قليلة إلى أعلى درجات البذخ على حساب سائر القوم، بل على حساب هدم سنن الحياة الطبيعية الأولى، ولا بدّ أن يكون هذا التدبر قد عزّز فهمك للعبادة كما شرحناه في الجزء الأول من هذا المقال.

وللمقال صلة.