الخوف والعنف في السياسة المعاصرة | د. عقيل سعيد محفوض

تعبيرية
تعبيرية

يمثل الخوف والتهديد مسائل ملازمة للإنسان والعالم، إذ لا تمرّ لحظة لا يقتل فيها إنسانٌ إنساناً، أو كائن كائناً آخر. وحتى الأمراض والأوبئة والفقر والجوع وغيرها، هي أشكال من التهديد والخطر بلا نهاية. والواقع أن الإنسان اليوم مُعرَّض لأنماط جديدة ومتزايدة من الخطر أو التهديد، وهي –بصفة عامة- نتيجة لعمليات التحديث والثورات التقنية، بكل مخرجاتها وتأثيراتها.




السياسات الحيوية 

السياسات الحيوية تعبير له استخدامات كثيرة، وخاصة في الدراسات السياسية والعسكرية، ومثله تعابير "المجال الحيوي"؛ إلا أن خط المعنى المراد هنا يحيل إلى العلوم الاجتماعية والفلسفة في المقام الأول، ويعني –وهذا مجرد تحديد أولي- "تدبير الحياة"، بما في ذلك، سلطة الإحياء والإماتة. وتدبير أمن الإنسان، حمايته، والحفاظ على الموارد المادية والمعنوية. والتركيز على حق الحياة، وما يتصل به من شروط ومتطلبات العيش، والأسرة، والولادة، والصحة العامة، والغذاء والدواء، والتنمية. إلخ. 


والسياسات الحيوية هي إلى ذلك، "تدبير الموت" و"العقاب" أيضاً، سواء أكان ذلك الحكم به أو الحد منه، تقريبه أو تبعيده، وخاصة في الحالات ذات الطابع الجنائي أو العقابي، مثل: السجن أو التعذيب أو الحرمان من الموارد أو الحرمان من الغذاء والدواء، أو في حالات "الموت الرحيم"، أو حالات الحرب.


لكن السلطة على الحياة أو السلطة الحيوية، لا تقف عند ذلك، إنما يتسع نطاقُها إلى سياسات: المواليد، والصحة العامة، وخرائط السكان، والضمان الصحي، والحماية الاجتماعية، والشيخوخة، وحتى أثر التكنولوجيا على القوة الحيوية للأفراد والجماعات، وصولاً إلى سياسات التمدن (التركز العمراني الحضري) والهجرة، والأوبئة والكوارث البيئية، وحقوق الإنسان. إلخ 


فَتَحَ حدثُ فايروس كورونا، مثلاً، الباب أمام أسئلة كثيرة حول العلاقة بين السياسة والحياة. وبرزت مخاوف متزايدة من أن يمثل ذلك فرصة سانحة لممارسة "سياسات نكوصية"، استبدادية، تتمثل بالمزيد من التقييد والمراقبة للأفراد والجماعات، وإعادة توزيع الموارد؛ بذريعة أن الخطر يمثل "حالة استثناء". والخوف هو من أن يصبح "الاستثناء هو القاعدة"! على ما يقول أو يحذر جورجيو أغامبين، أو على قاعدة أن "الضرورات تبيح المحظورات".


تدفق العنف والمخاطر

تبرز في عالم اليوم "تدفقات" لا نهاية لها تقريباً من المخاطر، مثل المواجهات والحروب والنزاعات، والجماعات والهويات والثقافات المهددة وجودياً، والأمراض والأوبئة والفقر والمجاعة، والعنف ضد النساء والأطفال والملونين والمستضعفين، والتمزق الاجتماعي، والعنف الفردي، والعنف الجماعي، والانتحار، والاستبداد، والصراعات الطبقية والإثنية والعرقية والمذهبية، والشعبوية، والجهادية التكفيرية. إلخ. هذه المخاطر، ومحاولة الاستجابة لها، تمثل أهم سمات العالم اليوم. 


وتؤدي مدارك التهديد و"اللا يقين" والاغتراب إلى قابلية تهديد وعنف متزايدة بوصفها استجابة طبيعية لعالم يمثل العنف والمخاطر سمتان بارزتان فيه. ذلك أن "العالم القديم، في الحقيقة، لم يعد هو عالم اليوم. ... في هذا الزمن صارت حياة كل الأمم الآن (على قاعدة) "البقاء للأقوى"، وتجربة تحديات وفرص لم تُجرَّب من قبل، الأمر الذي هز أسس القوى الكبرى، مثل الولايات المتحدة وأوربا، وهي قوى "كانت تظن أنها راسخة في هيمنتها وثرائها... هذه البانوراما الجديدة تعني، ببساطة، أن عالمنا اليوم أكثر عدالة، أو، إن أردتم، أقل ظلمًا، أقل إقليمية، أقل إقصاء، من عالم الأمس"، حسب الروائي البيروفي ماريو فارغاس يوسا. (يوسا، انهيار الغرب، تشرين الثاني/نوفمبر 2016).

  

الأركيولوجي والأنثروبولوجي

يمكن الحديث عن "أركيولوجيا المخاطر"، كون المخاطر أو مصادر التهديد–للفرص تمثل طيات وطبقات في مدارك الإنسان وتفاعلاته معها واستجاباته لها. انظر مثلاً: تاريخ الحروب، وتاريخ الأوبئة والأمراض والكوارث، وحتى تاريخ الغذاء والمجاعات. إلخ. هذا نمط من الظواهر تتناوله بحوث "التاريخ الجديد" كما قدمه مارك بلوخ وفرنان بروديل وجاك غودي وآخرون.


ويمكن القول: إنّ العالم يشهد نمطين عامين من المخاطر: الأول تمثل بتراجع بعض المخاطر على الصحة، ومواجهة الأمراض ومخاطر الطبيعة على الإنسان، وحدث ذلك خلال مراحل متتابعة من التطور البشري. الثاني تصاعد المخاطر على القطاعات نفسها، ولكن بكيفية جديدة أو تطورية؛ لأن أنماط الأمراض ومخاطر الطبيعة في تغير مستمر، وثمة أجيال من الكوارث البيئية غير مسبوقة أو هي في تحول مستمر. 


وهناك مدارك متزايدة بأن قدرة الإنسان أو العلم على مواجهة تلك الأنماط من المخاطر الفيروسية والبيئية تبدو أقل كفاءة وحيوية، وهذا يفسر حالة الهلع التي انتابت أربع جهات العالم بسبب انتشار فايروس "كوفيد-19" أو "كورونا". وكان "حدث كورونا" مناسبة لإعادة التفكير في تاريخ الأمراض والأوبئة، والكوارث الطبيعية من زلازل وبراكين وأعاصير...إلخ، وسيرة الإنسان معها أو سيرتها معه. 


البيو-تكنولوجي

تمثل تطورات الهندسة الجينية والوراثية مصدر مخاطر كبيرة، صحيح أن التدخل على المنتجات والأدوية والغذاء يمثل فرصة كبيرة لتجاوز تحديات كثيرة، إلا أنه يمثل في الوقت نفسه مصدر تهديد كبيراً، على الإنسان نفسه؛ لجهة الأمراض المتأتية عن التدخل في الجينات أو ما يُعرف بـ "الهندسة الجينية"، وتزايد القدرة على التأثير والتدخل الدوائي والطبي والوراثي. وثمة مخاطر على مستقبل الإنسان نفسه. 


وأثارت "التقانة الحيوية" و"الهندسة الوراثية" قلقاً كبيراً، ليس لجهة التدخل في الأجنة وإمكانية استبعاد احتمالات معينة أو لجهة نوع جنس المواليد فحسب، وإنما إحداث تغييرات في الخصائص والقابليات الفيزيولوجية والذهنية وحتى البيولوجية للإنسان. وهذا يفتح ذلك الباب "على نوع من ما بعد البشرية"، ويثير رعباً لا يوصف لدى البشرية.


الانكشاف على المخاطر

ويزداد الإنفاق على بحوث الطاقة وهندسة الخلائط الكيميائية والمعادن، وهندسة الخلايا الجذعية والجينية وغيرها بكيفيةٍ تزيد من القدرة على التدخل في شروط الحياة والبقاء، ولكنها تزيد أيضاً من قدرة الإنسان على تدمير الحياة. وتواجه النظم الاجتماعية والاقتصادية تحديات متزايدة؛ بسبب الهجرة أو اللجوء أو بسبب انهيار الثقة بالمؤسسات المالية والشركات وغيرها. 


الواقع ان "الانكشاف" على المخاطر، والتزايد المطرد في تدويل كل شيء أو عولمته تمثل تحديات للفواعل الكبيرة والصغيرة، وثمة مؤشرات على أن "الانكشاف" على العالم، وهو لدى الدول المتقدمة أكبر منه لدى الدول الأخرى. وهذا ما أظهره بوضوح "حدث كورونا"، إذ كانت دول ومجتمعات مثل الصين وألمانيا وفرنسا والولايات المتحدة أكثر عرضة لتأثيرات انتشار الفايروس، على أن أداءها في مواجهته كان متفاوتاً. 


ويعزز الخوف أو الخطر سياسات الأمن بشكل يزيد من مصادر الخوف والتهديد نفسها، فمدارك التهديد التقليدي أو المعلوماتي أو الفايروسي، مثلاً، تزيد من الاعتمادية على أسلحة أكثر تطوراً، بما فيها أسلحة "السايبر"، والأسلحة البيو-تكنولوجية، وهذا جزء ديناميات "الحروب الجديدة" أو "الحروب الهجينة". 


إعادة إنتاج 

ما يحدث اليوم هو نوع من "إعادة إنتاج" لسلطة العاهل على الحياة، كما كان عليه الحال في القرن التاسع عشر، وفق ميشيل فوكو؛ وإنما بشكل أكثر شمولية من حيث الخطاب والقدرة (استعادة المراقبة)، وأكثر تخصيصا من حيث الفعل، أي أنها شمولية الادعاء وفئوية الفعل. فئوية الفعل هنا تتخذ معاني مختلفة: الطبقية، وذلك بالتركيز على الأغنياء مقابل الفقراء، والشعبوية والعصبية العرقية بالتركيز على "المجتمع" نفسه مقابل المجتمعات الأخرى، والتحالفية بالتركيز على الدول الحليقة مقابل غيرها مع الدول.


يشهد السياسي والحيوي أو ما دعوناه "السياسات الحيوية" في العالم تطورات متعاكسة، إذ يعاد إنتاجها أو إنتاج نسخ سابقة منها، تركز –وفق ميشيل فوكو- على سلطة العاهل وتمكينه من إدارة أو تدبير الحياة والموت، حتى لو جاء ذلك على حساب الحريات والديمقراطية. وهذا يتوافق مع ازدياد النزعات الشعبوية والتسلطية في غير مكان من العالم.


لكن السياسات الحيوية اليوم لا يعاد إنتاجها وفق مثال أو منوال واضح ومستقر، إذ إن العالم الذي كنا نعرفه "انتهى"، كما يقول إيمانويل والرشتين. ونحن أمام عالم مختلف، وسيال، ومن الصعب تدبير سياساته أو حتى تقدير استجاباته أو تلمس مساراته المستقبلية. ولم يتوافق العالم على ما يجب اتباعه حيال تزايد مصادر التهديد للحياة، بل إن ثمة قراءات ضدية نشطة، انظر مثلاً اختلاف التقديرات والمواقف بين الولايات المتحدة والصين وأوروبا وغيرها حيال الأوبئة الفايروسية، وسبل مواجهتها. وليس من المتوقع أن يحقق العالم –في وقت قريب- تقدماً كبيراً على هذا الصعيد.


وهكذا، فإن المهمة الرئيسة أمام فواعل السياسة في العالم، هي البحث عن "الطريقة الأمثل لتحسين الوضع الإنساني"، بتعبير ديفيد هارفي. والتحلي بنظرة كونية متحررة من "المركزية الغربية" أو الاستقطاب بين فواعل السياسة الكبار في العالم، ومتحررة من الليبرالية الجديدة، ومن سطوة التكنولوجيا وتدفقاتها وتأثيراتها المهولة، وإعادة الاعتبار للبيئة، وللإنسان بوصفه القيمة الحيوية الرئيسة أو قيمة القيم في العالم.