نظرية الدولة عند هيجل | د. أشرف حزين

هيجل
هيجل

لم يُعرف عن فيلسوف أنه عظّم من شأن الدولة كما فعل جورج هيجل، فلقد بلغ من تعظيمه للدولة الحد الذي ارتقى بها لمرتبة المطلق. ونحن هنا نتكلم عن الدولة بشكلها الحديث الذي ظهرت به في القرن السابع عشر، والتي تعد أحد تمظهرات الحداثة. وبالرغم من وجود تنظيرات في ماهية الدولة قبل هيجل، إلا أنها كانت تدور حول أشكال الدولة القديمة والتي هي في أغلبها مستقاة من الدولة/المدينة. ويمكن القول: إن هيجل هو أول من قدم نظرية مكتملة في الدولة الحديثة لم يستطع الفكر السياسي الغربي أن يتجاوزها.





 فقد وضع هيجل مفهوم الدولة ضمن ثنائية، كمعنى مقابل للمجتمع المدني، وهذا هو جوهر المنهج الهيجلي، حيث لا يمكن تحديد أي مفهوم إلا من خلال علاقته الجدلية بنقيضه، ولا يمكن تحديده بشكل مستقل ومطلق. وقد ارتأى هيجل استنادا إلى رؤيته المعمقة لمفهوم الدولة أن يضعها بوصفها المفهوم النقيض للمجتمع المدني. والمجتمع المدني بالمفهوم الهيجلي هو عينه المجتمع، ولا شيء أكثر، حيث يعني عنده تجمعا لأفراد لتنمية انتاجية العمل. فهو إذن مجتمع شفاف لا سر فيه ولا غموض، قابل للتحليل والتركيب العقليين، هذا المجتمع الشفاف الخاضع كليا لمفهوم المنفعة والهادف إلى توحيد المصلحة الفردية. 


يعتقد هيجل أن مفهوم الدولة يجب أن يكون مستقلا عن مفهوم المنفعة، ولا يخضع عنده حتى لمعايير الحقيقة. وربما يكون هيجل قد استقى بعض المبادئ حول الدولة من فلاسفة الأنوار من أمثال كانط وروسو ومونتسكيو، ولكنه اختلف معهم كونهم ظلوا ينظرون للدولة بوصفها تركيبا اصطناعيا وظيفته خدمة المجتمع، في حين أنه اعتبره بمثابة الفكرة الكلية والتحقق التاريخي والتجسيد للروح المطلقة. وقد أشار ألكسندر كوجيف، الذي يعد من الهيجليين الجدد، إلى أن نظرية الدولة عند هيجل كلها ترتكز على مفهومي الرضا والاعتراف، فالدولة توجد عندما يجد كل مواطن في قلب الجماعة تلبية للمصالح التي يقر بأنها مصالح معقولة. وهذا الرأي يتفق إلى حد كبير مع الرؤية الكانطية للدولة، حيث يمكن تلخيص جوهر المقاربة الكانطية للدولة بوصفها العقد الأصلي الذي يتنازل بموجبه جميع أفراد الشعب عن حرياتهم الخارجية ليستعيدوها على التو بصفتهم أعضاء جمهورية، أي أعضاء في شعب منتظم كدولة. وعلينا التأكيد أن الحرية التي يتنازل عنها الأفراد هي الحرية المتوحشة والفوضوية. وعلى العموم، فإن مفهوم الرضا والاعتراف اللذين نوّه إليهما كوجيف يفصحان عن فكرة التناقض الهيجلية بين الدولة والمجتمع. وهذا التصور يقود بشكل أو بآخر إلى التصور الليبرالي للدولة القائم على مبدأ المصلحة. 


يشير جان توشار إلى أن هيجل قد قرأ وتأثر بآدم سميث وديفيد ريكاردو. واستنادا إلى هذه الرغبة بالتوافق عن طريق الرضا والاعتراف، فإن التناقض الذي تكلم عنه هيجل بين الدولة والمجتمع يصبح أقل حدة. وقد حاول ماركس استثمار فكرة التناقض بين الدولة والمجتمع التي أبدعها هيجل. ورأى أن هيجل قد أخطأ عندما اعتبر أن هذا التناقض منشؤه منطقي، في حين أن هذا التناقض برأي ماركس ذو منشأ تاريخي، حيث يلحظ ماركس أن العصور التاريخية القديمة لم تشهد هذا التناقض، بل إن الدولة والمجتمع كانا متماهيين، حيث التنظيم الاجتماعي هو عينه التنظيم السياسي. 


ويشير كارل ماركس إلى أن الدولة الحديثة انفصلت وتعالت على المجتمع وأصبحت مستقلة، حيث يورد في كتابه "الثامن عشر من لويس بونابرت" إشارتين واضحتين على فكرة التناقض بين الدولة والمجتمع، إذ يذكر "أن مهزلة الإمبراطورية كانت ضرورية لتحرير جمهرة الأمة الفرنسية من وطأة التقاليد، ولاستجلاء التناقض بين سلطة الدولة والمجتمع بصورته الخالصة. كما يشير إلى أنه في عهد بونابرت الثاني فقط، بدا أن الدولة جعلت نفسها مستقلة تمام الاستقلال. وقد وطد جهاز الدولة مركزه إزاء المجتمع المدني حتى إنه أصبح ممكنًا أن يكون على رأسه رئيس جمعية العاشر من كانون الأول. وبالرغم من أن هيجل عجز عن حل التناقض بين الدولة الحديثة والمجتمع "المدني"، إلا أن تشخيص هذا التناقض يعد بحد ذاته إنجازا غير مسبوق، وله قيمة فلسفية لا يستهان بها. وقد بادر ماركس إلى تقديم حله التاريخي لهذا التناقض، وهو حل مشهور ولا يمكن فهمه إلا في هذا السياق، لقد أدرك ماركس بنظرته المعمقة ورؤيته التاريخية أن هذا التناقض لا يمكن أن يزول إلا بإلغاء الملكية، حيث يؤدي هذا الإجراء إلى إعادة الاندغام بين المجتمع السياسي والمجتمع المدني. 


لا يمكن إغفال الحديث عن علاقة الدولة بالوضع الطبقي، أو بشكل أكثر تحديدا عن علاقة الدولة بالطبقة السائدة. فهذا التحليل في النهاية يقع في لب التحليلات الماركسية التي لا يمكن إغفالها، وهذا يوحي بشكل أو بآخر أن الدولة الحديثة قد تمت صناعتها على مقاس الطبقة البرجوازية المهيمنة. ولكن هذا التحليل رغم ما يتضمنه من وجاهة، لا يعبّر عن حقيقة الدولة الحديثة، حيث لا وجود لتأكيدات أن هذا الشكل من الدولة هو الشكل المثالي بالنسبة للبرجوازية. وهذا يجب أن يقود إلى تبني تصور أكثر تعقيدا للدولة من هذا النموذج المبسط. وبالرغم من وجود تحليلات وفيرة في الماركسية حول ماهية الدولة ونشأتها ومستقبلها، سواء كانت تصورات لينينية أو خاصة بكبار المنظرين الماركسيين الكلاسيكيين، إلا أننا يجب أن ننتبه أنه لا يوجد نظرية ماركسية في الدولة مكتفية بذاتها، بل إن جل هذه التنظيرات ظلت تدور وتدور حول تنظيرات هيجل في هذا السياق.  وربما يكون هذا العيب ليس متأتيا من الماركسية نفسها، بل لأنه لا يمكن وضع نظرية عامة للدولة. وهذا النقص لا يخص الماركسية الكلاسيكية فقط، بل إن الماركسية الراهنة لا زالت تواجه المعضلة عينها، فالماركسية لا زالت تفتقر إلى نظرية عامة للدولة. 


لقد حصل تبدل بنيوي في الدولة الحديثة، وهو انزياحها للاستبداد والشمولية. وهذا التحول ليس ناجما عن الأزمات السياسية الحادة التي هزت هذه الدولة، فهذه الأزمات أنتجت فاشيات، والتي تعتبر شكلا مختلفا عن النزعة الاستبدادية الشمولية. إن هذا التحول البنيوي للدولة الرأسمالية يمثل الشكل الديمقراطي الجديد للجمهورية البرجوازية في المرحلة الراهنة، وهذا يتفق مع رؤية هيجل المبكرة للدولة بصفتها الكلي والمطلق، وهي النظرة التي بقيت ملازمة لكتاباته حتى النهاية. 


وضع هيجل تصوراته النهائية للدولة في كتابه المتأخر "أصول فلسفة الحق"، والذي يعتبر من أكثر كتبه جدلا. فقد نظر الكثيرون لهذا الكتاب بوصفه تنظيرا للدولة الشمولية التي كانت سائدة أيام الملك فريدريش. وقد تعرض هذا المؤلف للنقد من قبل كارل ماركس. كما أن كارل بوبر يؤكد بوثوقٍ أن هيجل هو عراب الدولة الشمولية، ويورد اقتباسات لهيجل حول الدولة من قبيل (الدولة هي الفكرة الإلهية كما توجد على الأرض … علينا إذن أن نعبد الدولة كتجلٍّ للرب على الأرض … إن الدولة هي مسيرة الإله في العالم … إن الدولة قائمة لذاتها). يرى كارل بوبر أن هذه الاقتباسات كافية لإظهار إصرار هيجل على السلطة الأخلاقية المطلقة للدولة التي تهيمن على كل الأخلاق الشخصية وكل الضمائر. لا شك في أن كلًّا من اللغة المفرطة التي استخدمها هيجل لوصف الدولة، وفكرته أن الحرية الحقيقية تكمن في الاختيارات العقلانية، يمكن إساءة استخدامه وتحريفه تمامًا لخدمة الدولة الشمولية؛ لكن لا شك أيضًا في كونها مجرد إساءة استخدام وتحريف، وهي انتقائية إلى أبعد حد. فقد رأينا ما يكفي من آراء هيجل بشأن المَلَكية الدستورية وحرية التعبير وسيادة القانون والمحاكمة بواسطة هيئة محلفين لتوضيح المبالغات التي أوردها بوبر.