في المعنى السياسي لـ "خلق الإنسان على صورة الإله" | د. عقيل سعيد محفوض

تعبيرية
تعبيرية

فكرة أن الله "خلق الإنسان على صورته" هي فكرة رئيسة في السرديات الدينية. "فَخَلَقَ اللهُ الإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِهِ" (سفر التكوين، 1-27). وفي الحديث النبوي: "خلق الله آدم على صورته"، عاقلاً مفكراً، واستخلفه في الأرض. "إني جاعل في الأرض خليفة" (البقرة، 30). وتجد في اليهودية والبوذية وأديان أخرى، وفي بعض الأساطير القديمة أفكاراً مشابهة.





هل علينا أن نفرح أم نحزن لهذا؟ وإذا كان الإنسان "على صورة الله"، فأي إنسان هو؟ وفيمَ هو كذلك؟ وكيف وأين ظهر منه أنه "على صورة الله" بالفعل؟ وأي تلقٍّ أو تَمَثُّل أو تجسيد لذلك؟ والأهم هو: كيف أمكن لكل هذا العنف والقتل والتدمير، وكل تلك الشرور، أن تصدر عنه، وأن يعبث بنفسه وعالمه على هذا النحو؟


هل ما كان من الإنسان هو بفعل الفطرة التي فطره الله عليها؟ هل خلقه الله على صورته، ثم فطره أن يفعل ما يفعل، لا مخيراً بالتمام ولا مسيراً بالتمام، وفق التعبير الفقهي؟ وماذا فعل هذا الإنسان "المخلوق على صورة الإله"، و"المستخلف في الأرض"؟ وما المعنى أو البعد السياسي في ذلك، بحكم التاريخ والظاهرة البشرية؟


الأسئلة كثيرة، ولكن النص لا يطرحها للإجابة عليها الآن؛ بل لتحديد "خط المعنى" أو "خط النقاش" في البعد أو التجلي الخاص بالسياسة، بالمعنى الواسع للكلمة، على ما في الموضوع من تشابك وتداخل وتعقيد. لا بد من التنويه إلى أن عنوان النص يتحدث عن "المعنى السياسي"، في حين أن النقاش يحيل في أكثره إلى "تجلي" الفكرة و"تمثلها"، فعلاً أو ادعاءً، في السياسة.


لا شك أن للأديان وجودًا حيويًا في الظاهرة البشرية. وقد مثّلت – في جانب منها – ثورة روحية ومعرفية، وقوة توحيدية وأخلاقية بالغة الأهمية في تاريخ الإنسان. لكن النقاش هنا لا يتعلق بالأديان بوصفها نظمًا وقيمًا روحية وإيمانية، وإنما بوصفها "ظواهر اجتماعية"، وجزءًا من حالة الحركية والصراع على مستوى المجتمعات والجماعات والمناطق والكيانات، وحتى الأفراد.


كيف يتم تلقي النصوص الدينية، وتَمَثُّلُها، واستعمالاتها، وحركتها ومنعكساتها في الواقع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي؟ الأديان، بما هي ظواهر وفواعل اجتماعية، ذهبت مذاهب مختلفة في التمييز والفصل بين الناس. تتحدث عن بُعد رسالي عالمي أو كوني، لكنها تقسم الناس والعالم إلى فسطاطين: الإيمان-الكفر، الهداية-الضلال، الجنة-النار. وما من دين يقبل أن يعامل الناس سواسية. بل إن الإيمان، في كثير من الأحيان، لا يصح – من منظور أهله – إلا بتكفير وإقصاء أو إبعاد غير المؤمنين به عن "الملة الناجية".


فكأن إيمان المرء لا يصح إلا إذا كان كارهاً للآخر ورافضًا له ولإيمانه (فكرة الولاء والبراء). ولا تقف الأمور عند هذا الحد، إذ ثمة ما يحيل إلى الحكم بالقتل وربما الإبادة في الحياة الدنيا، دون انتظار أن يحكم الله في أي الملل هو الصحيح وأيها الخاطئ. ويحكم في أمر من هم "خارج الملة" في الآخرة أو في "نهاية التاريخ".


في كل الأديان تقريبًا توجد "حدود" و"أحكام" محروسة بالرجال (والنساء)، وغالبًا ما كان الفصل فيها للدم والسيف، رغم أن ذلك لم يكن على طول الخط. إن تاريخ الإنسان هو تاريخ صراع ومواجهة بلا انقطاع تقريبًا: حروب وغزوات وفتوح، ودعوة وتبشير، وقهر ديني وتكفير، واستباحة وإبادة. وظلم اجتماعي واقتصادي وثقافي وسياسي.


ومن الصعب تصور لحظة واحدة من تاريخ الظاهرة البشرية لا يلعب الدين فيها دورًا وازنًا. وحتى إذا تراجع دور العامل الديني لبعض الوقت، فإنه يعود ليمارس حضورًا بالغ التأثير.


وإذ يؤمن الإنسان أن لديه القدرة والإمكانية والقوامة على العالم، بوصفه مخلوقًا "على صورة الله"، ومفوضًا من قبله بذلك، فإن ثمة صعوبة في أن يتشكل الأفراد المتساوون في المعنى والتفويض في هرميات للمعنى والقوة. فكيف يمكن المقابلة والمشاركة بين أنداد بهذا المعنى؟ وكل واحد منهم لديه ذات القوة والمكانة والتفويض؟


كيف يمكن تفسير تشكل الجماعات والمجتمعات؟ وكيف بدأت السياسة والتدبير والسلطة والقوة والحال كذلك؟ لا جواب حاسماً على ذلك. هل كان على الأفراد أن ينسوا "الوضع الأصلي"، أي بما هم مخلوقون على صورة الإله، ليصبحوا قادرين على الانتظام في شبكات وهرميات للمعنى والقوة؟


وليتم فرض السلطة والدولة من قبل الحاكم أو السلطان تحت عنوان إلهي أيضًا، بحيث إن ذلك التفويض للأفراد أخذ يتجسد ويتكثف في شخص الحاكم. هنا يكون الله وحده مصدر السلطة والشرعية، ويضع ذلك في شخص ومركز وإرادة الحاكم.


ويصبح الحاكم هو التعبير عن فكرة أن الإنسان مخلوق على شاكلة الله. الصحيح أن الحاكم وحده – من هذا المنظور – هو المخلوق على شاكلة الإله، وهو "المفوض" و"الراعي" و"العاهل"! وثمة "تداخلات" أو "تشابهات" في الألفاظ والمعاني لكلمة "الراعي"، بين كونها "صفة لله" و"صفة للحاكم". "كلكم راع، وكل راع مسؤول عن رعيته" (حديث نبوي). ومن هنا جاء "التمفصل" التاريخي والأسطوري بين السلطة والدين.


وهكذا، حدث نوع من "التمثل" و"الاستبطان" لقيم مفروضة أو مهيمنة، ثم لاحقًا قيم مستقرة لزمن طويل، من أن الله "خلق الإنسان على صورته"، إلى "تجسد" و"مركزة" فائقة للمعنى والقوة بيد الحكام أو السلطان، كما تتكرر الإشارة. أصبح الأخير هو التجلي والتجسيد للإله على الأرض وبين البشر، وبالأخص بين الرعية.


وغير معروف كيف أن أفرادًا، كل منهم مخلوق على صورة الله ومفوض فرديًا، وهم أنداد بهذا المعنى، قبلوا أن يكونوا جزءًا من رعية العاهل على الأرض، يسوقهم إلى ما فيه أمنهم وصلاحهم وخلاصهم. وماذا بقي للفرد غير الطاعة والامتثال، والإيمان والتسليم بأن ما هو فيه هو "قضاء الله وقدره"، وأن طاعة الحاكم من طاعة الله، وأن الخروج على الحاكم فتنة، و"الفتنة أشد من القتل".


السؤال هو: هل اختار الناس ذلك طوعًا أم كرهًا؟ أم كانوا في غفلة مما يحدث وتم إيهامهم بذلك؟ لا جواب واضح على ذلك. ثم إن الناس أو الأفراد عادوا لتذكر أنهم "مخلوقون على صورة الله"، ولهم الحق في المشاركة وتقرير ما يجوز وما لا يجوز في السياسة وغيرها، ولكن ذلك حدث بعد أن وقعت الواقعة.


بالطبع، الأمور لا تستمر كذلك على طول الخط؛ بل تحدث تطورات تعيد طرح الأسئلة حول الدين والظاهرة الدينية، وموقع الدين والألوهية من حياة الناس، ودور الدين في الاجتماع البشري وتجاذبات المعنى والقوة.


ومع حركة الإصلاح الديني والتنوير والحداثة، لم يعد الدين مصدر السلطة. بداية كان التمييز بين الديني والدنيوي، ولاحقًا بين "سلطة الكنيسة" و"سلطة الحاكم". وبرزت مقابلة حادة بين "ما لله" و"ما لقيصر"، أو بين الدين والسلطة، إنما في أفق الدولة، التي استحوذت على الدين وجعلته وأدرجته في منطقها وعدتها لإدارة المجتمع. وتراجعت قدرة الدين على أن يكون ميزان المعنى والقوة، وحتى ميزان العيش وتدبير الحياة والسياسات. وما لبث الدين أن أصبح على هامش الحياة العامة، وحتى الفردية، وتقريبًا خارج التقديرات الرئيسة للمعنى والقوة.


الحديث هنا عن المجتمعات في أوروبا أساسًا، وثمة "تشكلات" و"تمثلات" لذلك في مناطق مختلفة حول العالم. وهكذا، أصبح "الشعب" هو مصدر السلطة ومرجعها، وليس الدين أو الحاكم. هل لك أن تتخيل التحول الثوري من مرجعية إلهية للسياسة والسلطة إلى مرجعية الملك بوصفه مفوضًا من قبل الله أو نائبًا عنه أو ممثلًا له، ثم إلى مرجعية أرضية بشرية محددة بقوانين وضعية لا علاقة لها بالديني أو الإلهي سوى كونها مجرد بُعد من أبعادها؟


ما كان "إلهيًا متعاليًا" في أساس السياسة والسلطة أصبح مسألة أرضية، اجتماعية حيوية، و"سلطة تمثيلية". لا أحكام أو مرجعيات دينية أو فتاوى هنا؛ بل سلوك كتلة ناخبة، وأعداد أصوات، وجماعات ضغط، يمكن التأثير عليها وحتى التلاعب بها! ما كان تفويضًا إلهيًا للحكم والسلطة أصبح لعبة انتخابات، طبعًا في بعض البلدان التي تعرف الانتخابات.


الديني والمقدس حاضر لا شك في حيوات وسياسات العالم اليوم، ولكن ليس على منوال أو نظام أو ميراث ديني فقهي سابق بالتمام، بما في ذلك التيارات المتشددة. إنما هو وموقعه ومعناه ودوره تحت مراجعة وتعديل دائمين، بما في ذلك أيضًا موقع الإنسان فيه، مع إبدال متزايد للمعادلة: كان السياسي مادة وموضوعًا للديني، أما اليوم فإن الديني هو مادة وموضوع للسياسي.


كما لو أننا أمام مقاربة معكوسة: الإنسان هو الذي "يخلق" أو "يشكل" الديني والمقدس "على صورته هو"، وليس أن الله "خلق الإنسان على صورته". هذه الخلاصة ليست غريبة أو محدثة أو طارئة، وقد يجد كثيرون أن الأمر كان كذلك من الأصل!