في النقد الفلسفي للتكنولوجيا | مجدي ممدوح

تعبيرية
تعبيرية

لم يدر في خلد كارل ماركس عندما وجه سهام نقده للتكنولوجيا أنها ستتحول إلى أداة شريرة للهيمنة على البشر. ما كان يخشاه ماركس تحديدًا هو أن تحل الآلة محل العامل مع كل تقدم تحققه التكنولوجيا، وتؤدي بالتالي إلى تفاقم البطالة بين طبقة العمال. مع دخولنا القرن العشرين، أصبحت التكنولوجيا معضلة فلسفية وأخلاقية تستوجب مقاربات فلسفية جديدة. لقد كانت وعود الحداثة والأنوار تبشر بتوظيف العلم والتكنولوجيا من أجل منح الإنسان مزيدًا من السيطرة على الطبيعة، ولكن ما حصل في الحقيقة أن هذه التكنولوجيا تحولت إلى أداة للسيطرة على الإنسان.





كان مارتن هيدغر هو أول من دق ناقوس الخطر محذرًا المجتمعات من الخطر المتزايد للتكنولوجيا. ويعد النقد الهيدغري للتكنولوجيا هو الملهم لكل الفلاسفة الذين انخرطوا في هذا الحقل النقدي، وأهمهم بالطبع فلاسفة مدرسة فرانكفورت. كانت النظرة التقليدية للتكنولوجيا تعتبرها شيئًا محايدًا، ولكن هيدغر بذل جهدًا فلسفيًا دؤوبًا لدحض فكرة التكنولوجيا المحايدة، والكشف عن طابعها المؤدلج غير المحايد وميلها لخلق آليات في السيطرة. وقد برزت بوضوح، ومع تقدم التكنولوجيا، نزعات سيطرة من قبل الطبقات الرأسمالية، حيث وقعت المجتمعات الحديثة أسيرة لواقع لا متنفس فيه للحرية. كل هذا حفز ظهور فلسفات نقدية ذات مرجعيات مختلفة.


يمكن النظر إلى مفهوم "العقل الأداتي" بوصفه أحد المفاهيم النقدية المركزية في سياق نقد التكنولوجيا، وخاصة في مؤلفات مدرسة فرانكفورت. فقد ظهر هذا المفهوم في كتاب "جدل التنوير"، وهو مؤلف مشترك بين ماكس هوركهايمر وثيودور أدورنو، وكذلك في كتاب "أفول العقل" لهوركهايمر، بالإضافة إلى تردد هذا المفهوم بكثرة في كتاب هربرت ماركوزة "الإنسان ذو البعد الواحد". ويُفهم من المقاربات المختلفة لفلاسفة فرانكفورت أن العقل الأداتي يعتبر منطقًا متكاملاً في التفكير وأسلوبًا خاصًا في رؤية العالم.


ويرجع الفضل إلى لوكاش في نحت هذا المفهوم، حيث أوضح كيف أن المستوى الاقتصادي للمجتمع الرأسمالي منظم بطريقة تجعل العلاقات بين البشر تبدو كما لو أنها علاقات بين أشياء، وأن نظرة البشر لأنفسهم ولغيرهم تغدو كنظرتهم للأشياء المادية، وأن العالم الاجتماعي أصبح يبدو كما لو أنه طبيعة ثانية إلى جانب العالم الطبيعي الأصلي، وأصبح كالطبيعة نفسها غير قابل للتغيير ومستقل عن أفعالنا. وبالرغم من أن فلاسفة مدرسة فرانكفورت قد استلهموا هذا المفهوم من لوكاش، إلا أنهم قدموا مقاربات أكثر عمقًا لهذا المفهوم. إن أخطر ما يترتب على العقل الأداتي هو تجريد الواقع من القيم.


حصر فلاسفة فرانكفورت العقل الأداتي تحت مسمى "الوضعية"، حيث تم اختزال كافة الرؤى حول العقل الأداتي في الوضعية. وتعرضت الفلسفة الوضعية بأشكالها المختلفة، سواء وضعية أوغست كونت، أو الوضعية المنطقية، إلى نقد متكرر من فلاسفة فرانكفورت، ولا يكاد نص فلسفي لهم يخلو من هذا النقد. ومن المؤكد أن ثمة تقاربًا كبيرًا بين الوضعية والعقل الأداتي، وأن هناك مناطق مشتركة بين الاثنين، ولكن الوضعية في نهاية المطاف تشير إلى منهج مرتبط بمدرسة فلسفية، ولا تتطابق مع المفهوم الأيديولوجي الذي ألصقه بها فلاسفة فرانكفورت.


وثمة مبررات كافية للاعتقاد بأن وضعية أوغست كونت ربما شكلت أرضية صلبة لبناء العقل الأداتي، حيث يطرح كونت رؤية سلبية للمجتمع. فهو لا يرى الحياة الاجتماعية هنا بوصفها نتاجًا إنسانيًا، بل بوصفها واقعًا خارجيًا محكومًا بواسطة قوانين ثابتة كقوانين الطبيعة. وهذه الرؤية تقود للاعتقاد باستحالة إحداث تغيير جذري في المجتمع.


فقد ذهب أدورنو وهوركهايمر إلى أن جذور العقل الأداتي تعود إلى حقبة التنوير، حيث نظر هذا العصر إلى الطبيعة بوصفها أداة، مما يعد تحولًا جوهريًا في نظرة الإنسان للطبيعة، حيث كان ينظر لها في السابق على أنها من خلق الله. ويعتقد هوركهايمر وأدورنو أن العقل الأداتي هو الذي أنتج الرأسمالية وليس العكس.


يحاول ماركوزة أن يشخص الأسباب التي أدت بالمجتمعات الصناعية المعاصرة إلى أن تقع في قبضة نظام محكم من السيطرة لا فسحة فيه للمعارضة. وهو يشير كمبادأة أولية إلى أن غياب النقد هو الذي قاد المجتمعات إلى هذا الوضع الكارثي. ويشخص ماركوزة أن غياب الفكر النقدي قد حدث في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، حيث كان النصف الأول من هذا القرن يشهد ازدهارًا للتنظير الفلسفي، والذي كان له الأثر الأكبر في بلورة النظريات السياسية للبرجوازية والبروليتاريا، مما جعل هذه الحقبة حقبة غنية بالتقدم على الصعيد الفكري والسياسي والاجتماعي.


وربما يعزى غياب النزعة النقدية وغياب تقدمية الفكر إلى هيمنة الفلسفة الوضعية على الأفق الثقافي، إلى الحد الذي يمكن اعتبار نصف القرن هذا بأنه وقع أسيرًا لأوغست كونت، الذي اختزل الفلسفة والفكر بالعلم والتفكير الوضعي المعادي لكل تفكير تأملي. فإذا كانت القضية تنتج نقيضها وفق الديالكتيك الهيغلي، فإن وضعية كونت الفاقعة استنهضت الكثير من الفلسفات الناقدة لهذا الفكر الاختزالي. ولهذا السبب، فإن ماركوزة، ومعه كافة فلاسفة فرانكفورت، يتفقون على إحياء النزعة النقدية التي اختفت من أفق الفكر المعاصر.


إن الفكر الغربي يمتلك تراثًا غنيًا بالنقد ونقد النقد، ولكن مع دخولنا في أعقد حلقات التكنولوجيا، برزت تقاليد ثقافية لا تحتفي بالنقد والتفكير النقدي. ويشير ماركوزة إلى أن مصادرة التفكير النقدي قادت إلى الحيلولة دون أي تبدل اجتماعي، أي دون أي تحول بالمعنى الكيفي يؤدي إلى قيام مؤسسات مختلفة اختلافًا جوهريًا، وإلى ظهور اتجاه جديد لعملية الإنتاج وطرز جديدة للحياة.


بالرغم من أن هربرت ماركوزة كان قد وضع التكنولوجيا في قفص الاتهام، ووصفها بأنها أداة للسيطرة والهيمنة، إلا أنه اعتقد أيضًا أن التكنولوجيا تمتلك طاقة كامنة بإمكانها أن تكون طاقة محرِّرة. فإذا كانت التكنولوجيا قد انطلقت في بدايتها لكي تكون أداة تحرر، فإن بالإمكان العودة إلى هذه الجذور التحررية للتكنولوجيا قبل مصادرتها من قبل القوى المهيمنة وتوظيفها كسلاح ضد الحرية. ويشير ماركوزة إلى أن واقع التكنولوجيا الراهن يقوم على إنتاج كل ما من شأنه تدمير البشرية، من أسلحة ونفايات سامة.


ولكن ماركوزة يحذر من أن حديثه المستمر عن فظائع النظام الرأسمالي لا يعني البتة الارتداد إلى العالم ما قبل الصناعي، بل الانتفاع بأعلى نواتج التكنولوجيا. وقد نفى ماركوزة عن نفسه أن يكون من المفكرين الداعين إلى العودة للطبيعة البريئة. وهو لا يدعو الإنسان المعاصر للتضحية بإنجازه التكنولوجي والاقتصادي، بل على العكس من ذلك، فهو يدعو إلى تحقيق أعلى درجات التقدم، ولكن شريطة وضعه في خدمة حرية الإنسان.


ويرى ماركوزة أن هذا التحول في توظيف التكنولوجيا يجب أن يترافق معه تحولات اجتماعية، من دولة الحرب إلى دولة الرخاء. فالتنظيم في سبيل السلم لا يشبه في وجه من الوجوه التنظيم في سبيل الحرب، والمؤسسات المستخدمة في النضال من أجل الوجود لا يمكن استخدامها في تهدئة الوجود. والحياة باعتبارها غاية لها معنى مختلف عن معنى الحياة باعتبارها وسيلة.


اتجهت التكنولوجيا مع نهاية الألفية الثانية اتجاها جديدا غير مسبوق، حيث ظهر نمط جديد متفرد من التكنولوجيا هو تكنولوجيا المعلومات، التي حولت مجتمعنا إلى مجتمع معلومات. وهو المجتمع الذي يعتمد في تطوره بصورة أساسية على المعلومات وشبكات الاتصال والحاسوب، أي أنه يعتمد على ما يسمى بالتكنولوجيا الفكرية، التي تضم سلعًا وخدمات جديدة مع التزايد المستمر في القوة العاملة. وهو ينضوي على فلسفة جديدة غير مسبوقة.


وتكمن فرادة تكنولوجيا المعلومات في أنها اخترقت فضاء كان طوال قرون عديدة محظورًا على التكنولوجيا، وهو عالم العقل الإنساني. فالتكنولوجيا ظلت على مر العصور وسيلة ناجعة لإراحة جسد الإنسان، وكانت الآلة البخارية هي الفتح الكبير الذي أراح جهاز الإنسان العضلي، واليوم جاء دور تكنولوجيا المعلومات لتريح جهازه العقلي.


ربما كان هناك مبررات كافية لاعتقاد الإنسان أن الحواسيب هي امتداد لعقل الإنسان وتمثل ذراع العقل الطويلة، ولكن هل هذا الاعتقاد لا يزال صحيحًا مع دخول الذكاء الصناعي كمنافس للعقل البشري؟ ألم يخطر ببال الإنسان المعاصر أن الذكاء الصناعي يمكن أن يشكل بديلاً عن الذكاء الإنساني؟ وهذا سيخلق معضلات فلسفية غير معهودة، وسوف تنحو الفلسفة المعاصرة مناحي غاية في الجدة ولا يمكن التكهن بمساراتها.


ومن ضمن المناحي الغرائبية التي تشكلت بفعل التطور الكبير لتكنولوجيا المعلومات، أن التكنولوجيا لم تكتفِ بالهيمنة على مفردات وجودنا المادي، بل إنها أنتجت لنا عالماً افتراضيًا أخذ يسحب البساط من تحت وجود الإنسان الواقعي. والأمثلة على ذلك كثيرة: كأن يتدرب على قيادة الطائرات في واقع افتراضي، أو يجوب الفضاء الخارجي، أو يرحل زمنياً عبر العصور الجيولوجية ليستحضر عوالمها السحيقة.


انطلاقًا من تاريخ التكنولوجيا الطويل، يمكن الجزم أن الأسباب الرئيسة لحيازة وتطوير التكنولوجيا في الماضي، ليست هي نفسها الأسباب التي انتهت إليها حضارتنا المعاصرة. ففي الحقب التاريخية السابقة، لم تتعدَّ أهداف الإنسان في السيطرة على الطبيعة أكثر من طموحه بأن يضمن بقاءه في عالم غريب وعدواني.