الاقتصاد السياسي في الإسلام | نبيل صالح

تعبيرية
تعبيرية

لا يمكن فهم السياسة بمعزل عن الاقتصاد، غير أنَّ المالَ في الإسلام هو مالُ الله، والخليفة هو من ينفّذ مشيئة الله ويقدّر كيفية جمعه وصرفه. وهذا أكثرُ ما أساء لروحيَّة الإسلام، إذ صار الرَّبُّ مالكًا افتراضيًّا لما يجمعه جُباة الضرائب من الأموال والأراضي والدَّواب والبشر؛ يوزعها الخليفةُ والوالي بمعرفتهما، دون الاستناد إلى إدارة وقوانين مالية تنظم اقتصاد الدولة. فمال الله يُوزّع على الأمراء والجند والصحابة والشعراء والمتسولين (الذين ما زالوا يستخدمون إلى اليوم جملة: "من مال الله")، بينما بقية الرعية هي من تنتج وتدفع إلى الله!





وكان ديوان العطاء (سجل الرواتب)، الذي تأسس سنة 20 للهجرة، يُطبَّق على النخبة الإسلامية في المدينة، وعلى مقاتلة الشام والعراق وفق سابقتهم في الإسلام، بدءًا من تاريخ معركة بدر. في المقدمة عطاءُ أراملِ النبي، والمقدَّر بـ12 ألف درهم سنويًا، ثمَّ في الدرجة الثانية يأتي المهاجرون والأنصار، والمقدَّر بـ5 آلاف درهم، ثم المهاجرون إلى الحبشة والمشاركون في "أُحد" بـ4 آلاف درهم، ثم المهاجرون إلى المدينة قبل فتح مكة بـ3 آلاف، وأخيرًا الدَّاخلون في الإسلام بعد فتح مكَّة، ويتقاضى الواحد منهم ألفي درهم في العام.


فمثل كل الكتب المقدسة، لا توجد نظريات اقتصادية في القرآن الكريم، وإنما بيانٌ لموقف الدين من المال وكسبه عن طريق الحلال، وإنفاقه فيما يحقق صالح الإسلام والمسلمين. فبارك أعمال التجارة، وقيَّد البُيُوع، ومَنَعَ الرِّبا والاحتكار، ومنع الغِشَّ وأكل أموال اليتامى، وحثَّ على تقديم المهور والأجور إلى مستحقيها، وحدَّد توزيع أسهم الغنائم والأسلاب بين المسلمين، بالإضافة إلى تحديد قيمة الزَّكاة والجِزية والخِراج والعُشْر والصَّدقات.


أما كلمة "الاقتصاد" الواردة في القرآن الكريم فكانت تعني التوسُّط والاعتدال، وفي الحديث: "ما عالَ منِ اقتصد"، ولم يكن قد تطوَّرَ معناها إلى العلم الذي تُدَبِّرُ به الحكوماتُ شؤونها اليوم. كما لم تكن هناك عملة إسلامية حتى سنة 74 للهجرة، فقد كانت صورة هرقل وابنيه تضرب على الدنانير النحاسية الإسلامية حتى غيّرها عبد الملك بن مروان فجعلها ذهبية ووضع صورته عليها، فاحتج الصحابة حتى تم وضع شهادة التوحيد عليها. واستمر هذا التقليد ألف عام إلى أن جاء سلاطين بني عثمان فاستبدلوا الشهادة والآيات بأسمائهم وألقابهم المعظمة، حيث أخذ السلطان دور الله تعالى على جموع مسلمي الإمبراطورية.


ومن يعُد إلى التشريعات النقدية عند أئمة المذاهب يجد أن الشرع قيد أرباح العملة في ذاتها، فهي مجرد حوالات بقيمة ثابتة وكأن متغيرات السوق لا تمر عليها. أما المصارف الإسلامية القائمة اليوم، فلا تربطها علاقة بالإسلام سوى اسمها الذي تستقطب به المودعين المتدينين، إذ لا يسمح الإسلام بالمرابحة عن المال في الأجل، ولم يعترف بتنامي قيمة الأرباح مع الزمن، واعتبرها من الرِّبا. كذلك، في المقايضة: "الذهب بالذهب، والبر بالبر، والشعير بالشعير"، ولم يميز حتى في جودة النوع الواحد، كما منع المقايضة بين نوعين مختلفين. فعطلت شبهة الرِّبا حيوية وحركة الاقتصاد، لأنَّ "كل قرض جر منفعة فهو ربا"، واقتصرت فائدة القرض على الثواب للمقرض في الآخرة، وتم بذلك هدرُ مضاعفة الأرباح مع الزمن!


يقوم بنيان الدول على الضرائب المحصَّلة من الرعايا، وهذا ما دفع الخليفة أبا بكر إلى إعلان الحرب على القبائل التي رفضت دفع الزكاة عن أموالها، وقال جملته الشهيرة: "والله لو منعوني عقال بعير لحاربتهم عليه". وصدر قوله هذا كحاكم دنيوي، كونه لم يستشهد بقرآن أو حديث شريف في قرار الحرب، ولم يعترض الصحابة الذين حكموا من بعده على قراره بكونهم رجال دولة.


ويقول المفكر هشام جعيط في هذا الصدد: "إن الفتح العربي الذي استهله وقرره أبو بكر حدَّد مهمة العرب بالحفاظ على هويتهم، والجُهوزية الدائمة للجهاد، وأن ينقادوا للأعمال الحربية، وكان يتعين على الشعوب المغلوبة الباقية فوق أرضها أن تلبي حاجات العرب، وأن تعفيهم من السعي وراء اللقمة، وذلك بدفعها الخراج على الأرض والجزية على الرؤوس والعشر على التجار من غير المسلمين. لكن، خلافًا لقوانين الحرب العربية، لم يجرِ تقاسم الأرض بين الغالبين، ولم يُحوَّل السكان الأصليون إلى رقيق، وأُعلنت الأراضي أملاكًا عامة. وكان نظام التوزيع والمكافأة الذي ابتكره عمر وطبَّقه يقوم على جعل المقاتلة العرب يعيشون من عمل فلاحي الأرض المفتوحة".


ومع توسع دولة الإسلام في سورية والعراق ومصر، توسعت مظلة الضرائب، وبدأ تشكُّل اقتصاد الدولة بإنشاء بيت مال المسلمين، الذي تتدفق الأموال إليه من توسع الغزو في البلدان. "فكانت أراضي الخراج في السواد، التي يشغلها الفلاحون وتديرها طبقة النبلاء المحليون (الدهاقنة)، تنتج القسم الأساسي من عائدات العراق، التي قدرت في عهد عمر بمئة مليون درهم". وما زالت قبة الخزنة قائمة وسط الجامع الأموي بدمشق إلى اليوم، شاهدةً على تراث الاقتصاد الإسلامي الذي تشكل متأثراً بنظام السوق الدمشقي المحيط بالجامع، إذ تم ربط الاقتصاد بالدين لإنتاج السياسة، وبات أمير المؤمنين هو آمر الصرف لمصرفٍ يمنع الفائدة (الرِّبا) ولكنه لا يمنع الهبة، الأمر الذي أغلق الباب أمام المسلمين وفتحه أمام المرابين من اليهود والمسيحيين للإثراء والتقرب من الولاة بالهدايا طوال ثلاثة عشر قرناً، حتى أواخر العهد العثماني، عندما سمحت السلطنة بإنشاء المصارف الأوروبية الربوية التي كانت تدفع ضرائبها إلى "الدولة العلية".


فكان اقتصاد القصر هو الغالب في العصور الإسلامية المتعاقبة، وقد لاحظ ابن خلدون ذلك في الفصل الأربعين من مقدمته، إذ يقول: "إن التجارة من السلطان مضرة بالرعايا ومفسدة للجباة". وقد فصَّل في المضار الناتجة عن تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي، وأشار إلى الممارسات الخاطئة من قبل السلطان، مثل مزاحمة الفلاحين والتجار، وعدم وجود حالة من التكافؤ بين السلطان وباقي شركاء السوق.


لذلك فإن الجزء الأكبر من الخلافات بين ولاة المسلمين ومناهضيهم كان على "مال الله"، حيث تظنُّ كل فرقة وجماعة أنهم أكثر إيماناً بالرَّب من خصومهم، وبالتالي فإنهم الأحق بإدارة دولته وتوزيع ماله. وقد قُتِلَ وشُرِّدَ الكثير من المسلمين الصالحين لأجل ذلك... والواقع أنه لو لم يكن هناك مال وطمع وجشع في الأرض، لما اختلف الناس على الله في السَّماء. ويكفي أن نذكر أنه بالرغم من منع الخليفة عمر لوجوه المؤمنين من مغادرة المدينة، فقد هاجر أكثر من 500 صحابي جليل إلى مدينة حمص وحدها، تركوا مكة المكرمة والمدينة المنورة ليقيموا مع القائد الكريم خالد بن الوليد بعدما ولاَّهُ عثمان بن عفان على حمص وباديتها، التي كانت بغالبيتها مسيحية، حيث كان يُجري عليهم خراجاً وفيراً بعدما ضاعف الجزية على غير المسلمين، حتى تحوَّل أغلب سكان حمص إلى الإسلام.


إذاً، فمَنْ يضمنُ أنَّ الإسلاميين اليوم حين يضعون يدهم على "مال الله" سيوزِّعونه على الرعايا بالتساوي؟ ومَنْ يضمنُ عدم تنازعهم وانقلابهم على بعضهم قبل غيرهم؟


يقول د. هشام جعيط: إن الفترة الأولى من ولاية عثمان كانت فترة هدوء تركز فيها الاهتمام على المشاكل الداخلية، وكما هو الحال في كل فترة تلي الفتح، نشهد هنا فترة إدراك تجاه تدفق الثروات. وفي وقت واحد، اختلَّ التوازن وتراكمت الذَّهب والفضة والأحجار الكريمة، وكانت الثروات تجد طريقها نحو أولئك الذين يستطيعون أو يجيدون التقاطها. وكان بيتُ مال الخليفة يغصُّ بالمال بعد عشر سنوات من الفتح المتواصل، على الرغم من أنه لا يحق له سوى خُمس الغنائم، كما أنه كان يتغذَّى من صدقات الجزيرة وضرائب الزكاة المفروضة على الماشية المخصَّصة للمساكين وأبناء السبيل، وأخيراً كان يتغذَّى بقسم من الفيء (خُمس عائدات الأراضي من الملوك المغلوبين والأرستقراطيين الحربيين الذين فرُّوا أو تم قتلهم).


"وكان العمال وقادة الجند يتعاملون مع مبالغ هائلة مصدرها الغنائم وعائدات البلدان المفتوحة، وكان التجار يقتفون آثار الجيوش فيشترون عبيداً وحجارة كريمة وأشياء ثمينة يبيعونها بأضعاف ما اشتروها".


إنَّ ربط الاقتصاد بالدين كان سببَ فشل الإسلاميين المعاصرين في إدارة معاش النَّاس واقتصادهم في الحكومات التي أداروها، لعدم وجود نظرية اقتصادية أو مثال عمليٍّ مناسب في التَّاريخ الإسلامي يهتدون به، كما لم يفهموا آليات عمل الدولة وجهازها البيروقراطي ومراكز القوَّة ونقاط الضَّعف فيه. وما تقدم يثبتُ خَطَلَ مقولة الإسلاميين بأنَّ "الإسلام دينٌ ودُنيا"، بينما الرَّسولُ يقول: "أنتم أعلمُ بأمور دنياكم".


فقد شكلت الزكاة والجِزية والغنائم عصب الاقتصاد النبوي، وكان للنَّبيِّ خُمُسُها، بحيث أنه توفِّيَ وهو يملك 1217 كغ من الذهب، وخمسة عشر أرضًا (عبد الفتاح محمد السمان: أموال النبي: رسالة دكتوراه بإشراف الشيخ محمد الزحيلي). ولكنه كان يعيش كزاهد، إذ كان يؤتى بالغنيمة فيقسمها على خمسة؛ فيكون أربعة لمن شهدها ويأخذ الخمس، فيضرب بيده فيه، فما أخذ من شيء جعله للكعبة (وهو سهم الله)، ثم يقسم ما بقي على خمسة، فيكون سهم لرسول الله، وسهم لذوي القربى، وسهم لليتامى، وسهم للمساكين، وسهم لأبناء السبيل.


أما الأخيرة، فما زالت مشرعنة في الآداب الإسلامية حيث يتصدق المؤمن من ماله على المتسولين الذين تحولوا إلى طبقة تعتاش على حساب المجتمع، بينما تقوم ضابطة الشؤون الاجتماعية بتوقيفهم وتعليمهم مهنة يعتاشون منها، إذ إن سيادة الدولة ومنعتها تأتي من كرامة وعزة مواطنيها.