جُبنة فرنسية! | د. عقيل سعيد محفوض

تعبيرية
تعبيرية

لا يتعلّقُ الأمرُ بالجبُن ولا بفرنسا، إنما بالعرب وأحوالهم. والعنوان استعارة تحيل إلى واحدٍ من أهم التحديات التي تواجه العرب منذ بدايات القرن العشرين، على أقرب تقدير. ويتعلق الأمر بمسألة السياسة والدولة. وأظهرت الأزمات والصراعات الممتدة في العالم العربي تَرَاجُعاً، بل تآكلاً كبيراً، في فكرة الوطن والهوية والدولة والأمة. ولا مبالغة في ذلك! لكن ما علاقة هذا الكلام بـ"الجبُن الفرنسيّ"؟








يقول الفيلسوف السلوفيني سلافوي جيجيك في مناظرة له مع الأكاديمي الكندي جوردن بيترسون: إنَّ الطبيعةَ والتاريخَ مليئان بـ"الارتجالات"، ويَضْرِبُ مثلاً طريفاً على ذلك، يقول: "في فرنسا، تمثيلاً لا حصراً، نجد أنَّ أصلَ الكثير من الأطعمة أو المشروبات الفرنسية، هو أشياء كان الصُّنَّاعُ الفرنسيون قد انتهوا إلى الفشل في صنعها بطريقة صحيحة، تبعاً للمعايير المعروفة والمتبعة بهذا الخصوص، إلا أنَّ فشلهم كان نجاحاً في حدِّ ذاته، فالجبُنُ الذي تعفّن أصبح جُبُناً مصنوعاً بشكلٍ أصليٍّ في فرنسا، مثلاً، وعندما فسد منهم النبيذ، صنعوا منه الشامبانيا"!


ربما لم تقم الدّولة لدى العرب في بدايات القرن العشرين "ارتجالاً"، ولو أن فيها شيئاً من ذلك. وإنّ دولاً مثل سورية والعراق ولبنان والأردن وفلسطين واليمن والسودان والكويت والبحرين وعمان والإمارات وغيرها، لم تكن محض فعل استعماري/كولونيالي، ولا مجرد إسقاط أو تمثيل لخرائط سايكس-بيكو وتوماس إدوارد لورنس (لورنس العرب) وغيرها، وإنما نتيجة "تشكلات وبنى أولية" و"قابليات محلية"، و"اتجاهات" و"إرادات" لفواعل اجتماعية وثقافية وسياسية واقتصادية وغيرها، في مناطق وجغرافيات من أجل التشكل كيانيات ودولاً أو أشباه دول أيضاً. 


وهكذا، بدت الدولة العربية حصيلة جهود وتطلعات، وإكراهات وفرص، وضعت الناس "بين –بين"، بين ديناميتين متناقضتين:


- "الدولنة" مقابل الهويات والتكوينات "ما دون الدولة"، مثل: التشكلات القبلية والعائلية والمذهبية/الطائفية والمناطقية. ونزعات أو تجاذبات واتجاهات "اللادولة". هنا بدت الدولة أو الدولنة إنجازاً بحد ذاتها، ولو أنها لم تقطع مع "ما دونها"، ولا تزال تحت اختبار القوة والشرعية والقابلية الاجتماعية، بل لا تزال مهددة بالنكوص إلى "ما قبل الدولة"  وحتى إلى "اللادولة". 


- "الدولنة" مقابل الطموح أو التطلع إلى "دولة واحدة" أي الوحدة العربية، أو حتى هيئات أو تجمعات إقليمية، مثل المشرق العربي والجزيرة العربية ووادي النيل والمغرب العربي. وهذه لا تعبر عن مجرد تطلعات أو إيديولوجيات "وحدوية كبرى" أو "إقليمية"، وإنما عن "نزعة إمبراطورية" كامنة أو مضمرة في التفكير العربي المعاصر. والإمبراطورية –بالمعنى الذي عرفه العالم سابقاً- هي في قلب أسئلة الفكر والسياسة لدى العرب منذ ما يعرف بـ"عصر النهضة". 


وكان العرب مندفعين أو مدفوعين لـ"الهروب" من الأولى إلى الثانية، أي من "ما دون الدولة" و"اللادولة"، إلى "ما فوق الدولة" و"العابر للدولة"، كما سبقت الإشارة. ولكنهم أخفقوا في ذلك، بل لعلهم وقعوا فيما أرادو الهروب منه. ذلك أن تجربة السياسة شهدت نكوصاً حاداً أحياناً إلى ما دون الدولة، وخاصة في مجتمعات وبلدان الصراع والحرب، "تمفصلت" مع ما فوق الدولة في تلك المجتمعات والبلدان، وخاصة عندما كانت القبيلة والطائفة والجماعة العرقية والشبكة الدينية وغيرها على جانبي الحدود أو عابرة للدولة. 


هكذا، وبمرور الوقت، بدت الدينامية الأولى (ما دون الدولة، أو الانقسامية، أو اللادولة) مصدر تهديد رئيس للدولة. وأما الثانية (دولة الوحدة) فبعيدة عن مجرد التفكير فيها، وأنتجت في بعض الأحيان نقيض ما قالت به أو ادَّعَتْهُ، وكانت من حيث النتيجة مصدر تهديد أيضاً، إذا أخذنا بالاعتبار الصراعات والحروب العربية-العربية المستمرة، بلا انقطاع تقريباً. 


لا بدَّ من أن نستدرك على ما ذُكر أعلاه، من "تراجع" بل "تآكل" فكرة الدولة الوطنية والهوية والانتماء لدى عدد من المجتمعات العربية. والواقع هو أنَّه ظهر –في بعض الأحيان- تمسُّك بالدولة والهوية الوطنية والانتماء، وأحياناً استعداد للموت دفاعاً عنها، بمعنى: أنَّ فواعل الفكر والاجتماع والسياسة(..إلخ) تمسّكت بالدولة، حتى مع عدم الرضا عنها، وحتى مع كونها أقل من الطموح السياسي لدى شريحة كبيرة من الناس؛ وإلا كيف يمكن تفسير وقوع عشرات الآلاف من الضحايا دفاعاً عن الدولة وفكرة الدولة في عدد من المجتمعات الدول؟ 


إن الصراعات والحروب في عدد من البلدان العربية ليست لـ "اغتنام" السلطة أو الدولة فحسب، بل هي من أجل "بناء" السلطة أو الدولة، أو المحافظة عليها أيضاً. وهذا باب فيه كلام كثير. والواقع أن الصراع من أجل الدولة، على علاتها ونواقصها، أقرب لصراع من أجل المحافظة على "خطأ" أو "خطيئة مؤسسة"، وهي "واقعة الدولة" نفسها، ولو أن فكرة الدولة على ما تظهر في الخطاب السياسي العربي هي أقرب لـ"طموح" أو "مخيال إمبراطوري"، كما تتكرر الإشارة. انظر مقام الدولة لدى التيارات والتنظيمات القوموية والإسلاموية، والتي تتطلع إلى "إمبراطوريات مستعادة" من "التاريخ المجيد". 


ولا تُغيِّرُ من ذلك كثيراً النزعة الكِيانية والجهوية/المناطقية ما دون الدولة في عدد من البلدان العربية، كما هو الحال في العراق ولبنان والأردن وليبيا والجزائر والسودان واليمن وسورية وغيرها، لأنَّ ذلك هو -في جانب منه- نتيجة "إخفاق" مشروع الدولة الوطنية، كما كنا نعرفها، و"الافتقار" لمشروعات وطنية ذات قابلية وحيوية اجتماعية وسياسية؛ وهو في جانب منه أيضاً نتيجة إكراهات الصراع والحرب، ونتيجة تدخُّل وتأثير من فواعل خارجية، إقليمية ودولية، يمكن تعيينها والتفصيل في رهاناتها وأدوارها الكارثية. 


يمكن القول -وهذا من باب التأكيد-: إن الدولة العربية، كما نعرفها، هي إنجاز لم يكن مقصوداً بذاته، ولم يحقق قابلية اجتماعية وشرعية سياسية مستقرة أو نهائية. ولم تصبح الدولة –حتى الآن- "كياناً نهائياً" من منظور "مجتمعها"، وحتى من منظورها هي نفسها، لكنها تملك "معقوليتها" و"مبررات وجودها"، وكل الأسباب التي تدعو للتمسك بها. وظهر أن انهيار الدولة أو فشلها، على مشكلاتها ومساوئها، هو أمر كارثي بكل معنى الكلمة.   


 ان مجرد الاعتقاد بـ"ضرورة" و"أولوية" الدولة في الظروف الراهنة، على أهميته، قد لا يحقق دوماً الغايات المطلوبة، ولا يعصم من الإخفاق أو الانهيار، إذ إنَّ ميزان السياسة وأحد بديهياتها الرئيسة هو أنَّ كلَّ شيء ممكن، ولا أرجحية لأمر أو احتمال على آخر، ولا للفكرة الصائبة على الفكرة الخاطئة، ولا للحقيقة على الوهم، ولا للحق على الباطل، إلا بتخصيص الموارد والإمكانات، وإرادة تحويل الأقوال أو الأفكار إلى أفعال. وقد يقول قائل: إنه "لا يصح إلا الصحيح"، ولكن هذه الفكرة لا مكان لها تقريباً في عالم السياسة، وإذا كانت موجودة في أفكار وقيم الناس، وهي موجودة بالفعل، لكن، لا حتمية لها، ولا يمكن التحقق منها إلا في "نهاية التاريخ". 

 

 يموت الناس في عدد من مجتمعات الصراع والحرب، والحديث هنا هو عن الموت في أفق الدولة وتحت لوائها، وتمسكاً بها، وذلك دفاعاً عمّا "رفضه" آباؤهم قبل نحو قرن من الزمان أو لما عَدُّوه صنيع الاستعمار. مفارقة مؤلمة بالفعل، وبخاصّة إذا لم يقمْ إجماعٌ وطنيٌّ يحدد معنى وقيمة ما يموت أو يضحي الناس من أجله، أي الدولة الوطنية التي تتماهى في كثير من الأحيان مع نظام الحكم وشخص الحاكم، وبالأخص إذا كان ثمة صدوع قيمية وإدراكية وسياسية حادة حول فكرة الدولة نفسها، بين أبناء البلد الواحد، وبالطبع صدوع قاتلة حول فهم الواقع وتقدير ما يجب فعله. وهذا باب فيه كلامٌ كثيرٌ، ويحيل إلى مآسٍ وأوجاع يصعب حصرها. 


وهكذا، فإنَّ الدولة في عدد من البلدان العربية، مطلوبة ومرفوضة في آن. مطلوبة بما هي ضرورة، ومرفوضة بطبيعتها وكيفياتها التي نعرفها. وإذا لم تقُم الدولة العربية بطريقة صحيحة، فهذا يزيد الحاجة للتمسك بها، وليس تدميرها. وان لم يمكن "إعادة التفكير" فيها، و"إعادة بنائها"، فلا بد من تأكيدها وتثبيتها أو على الأقل منعها من الانهيار، كما لو أنها صنعت بالشكل الصحيح، ولا بد من فعل ذلك بطريقة صحيحة، ما أمكن. 


وفي الختام، 

إذا انتقل العرب، ولا يتوقف ذلك على بلدان ومجتمعات دون أخرى، من الصراع والحرب إلى السياسة، من دون حلّ تلك المعضلة، أي معضلة الدولة، فهم بذلك يصنعون اليوم، بطريقة خاطئة، ما يجب عليهم أن يدافعوا عنه في المستقبل، بطريقة صحيحة أيضاً، ما أمكنتهم الحيلة والوسيلة؛ بما هي ضرورة وحاجة وجودية، وليس "جبنة" يتصارعون من أجل "اغتنامها" أو "اقتسامها"!