وثمة ظواهر مَرَضِيَّة أقل خطورة نسبياً، مثل: الفقر والعنف، والتفاوت الاجتماعي والصراعات الطبقية والإثنية والدينية والمناطقية، إلخ. وهذه الظواهر ليست مَرَضِيَّة بالضرورة؛ الصحيح أنها تحدث بكيفيات متفاوتة في مختلف المجتمعات والأمم، لكنها تتحول إلى مَرَضِيَّة عندما يكون هناك إخفاق طويل أو مستمر في "تدبيرها"، فتتحول إلى مصادر توتر وتأزيم، ولاحقاً صواعق تفجير في الداخل، وتكئة للتدخلات من الخارج.
لكن الأمراض لا تميت بالضرورة؛ المميت هو "الإنكار" و"عدم الاعتراف"، وبالتالي "سوء الفهم" و"سوء التشخيص"، وبالطبع "سوء العلاج". والصحيح أن الموت ليس هو النهاية الحتمية للظواهر المَرَضية، فقد يقع المجتمع أو تقع الأمة في أمراض مزمنة تكون ملازمة لها عقوداً وربما قروناً طويلة. وكم هو عدد المجتمعات والأمم التي تقع في موقع متأخر جداً في مؤشرات التنمية الاجتماعية والاقتصادية أو ما يُعرَف بالتنمية البشرية، والحريات، والديمقراطية، والأمن البشري؟ وكم هو عدد المجتمعات والدول "الهشة" و"المهددة بالفشل" و"الفاشلة" في العالم؟ المؤشرات كثيرة في هذا الباب.
ثمة "أمراض اجتماعية" يمكن علاجها أو تجاوزها، فتدخل المجتمعات في مرحلة "النقاهة"، بالمعنى الطبي الباثيولوجي الاجتماعي، ولاحقاً مرحلة "الصحة" و"الحيوية"، بالمعنى التاريخي والحضاري. هذا ما نجده لدى المجتمعات والأمم الأكثر تنمية واستقراراً. والمجتمعات والأمم التي درجت على طريق التنمية ونهضت مما كانت فيه من اختلالات في الأمن والتنمية والسياسات، وليس ثمة مجتمعات وأمم لم تمر بانكسارات واختلالات أو أمراض.
ومن "الأمراض الاجتماعية" ما يكون مُرَكّبًا أو مُعقدًا، وربما غير قابل للعلاج، فتغرق المجتمعات والأمم في العنف والصراع، وتمضي في طريق طويل، وصولاً إلى "الخروج من التاريخ"، بما هي مجتمعات وأمم. وثمة أمم كثيرة كانت حاضرة وقوية في الماضي، ولكن لم يعد لها وجود اليوم، مرة أخرى بما هي مجتمعات وأمم، إلا في سجلات التاريخ والأنثروبولوجيا والآثار والمتاحف. ومنها ما أصبح جزءًا من تكوينات ومجتمعات وأمم أخرى.
أمراض مزمنة
المجتمعات أيضًا تعاني من أمراضٍ مُزمنة ومُعَنِّدَة، قد لا يكون من السهل علاجها. وقد تزيدها محاولات العلاج سوءًا، وخاصةً إذا وقع "تشخيص خاطئ"، وكثيرًا ما يكون. وأخذت تظهر استجابات "تعويضية" أو "تكيفية"، وحتى استجابات "تلفيقية" أو "مزيفة". وقد يقع نوع من "سوء الفهم الجماعي" للواقع وللعالم، ويعجز المجتمع أو الأمة عن إحداث التغيير المطلوب.
وقد يتعذَّرَ بروز "كتلة اجتماعية" لتقوم بتدبير الأحوال، على ما يقول غرامشي. وإذا كانت منظومات القيم تعاني عُقَدًا واختناقات متجذرة فيها، مما يشكل "عقبات إبستمولوجية/معرفية" و"ميتافيزيقية" و"سوسيولوجية"، وبالطبع "سياسية"، وإكراهات وتداخلات خارجية، فقد يصبح "تدبير المرض" نفسه، نوعًا من الانتحار أو الموت لـ"أسباب علاجية"، بلغة العلوم الطبية.
مقاومة العلاج
هل تتصور وجود مجتمعات تقاوم العلاج، وقد تَعُدُّهُ نوعًا من "الإمراض"، وبالتالي "مصدر تهديد" تجب "معاداته" و"احتواؤه"؟ قد تبدو الفكرة غريبة نوعًا ما، لكنها صحيحة، وثمة أمثلة لا تُعدّ ولا تُحصى في هذا الباب. لا شك أن مقاومة التغيير من الأمور المعتادة لدى المجتمعات، وظاهرة طبيعية وحتى تاريخية، إن أمكن التعبير. لكن خط القوة والفعل والتفكير والتدبير في المجتمعات والأمم ذات الحيوية، يفترض أن يكون قَوَّامًا على خط المحافظة والسكونية والإجهاد والاعتلال فيها.
لا يوجد تحديث بسيط أو سلس وانسيابي؛ ثمة على الدوام مقاومة للتغيير وصعوبات وتمزقات واختلالات ملازمة لما يحدث. وبالطبع، ثمة تطورات "نكوصية"، إذ يمكن أن تتقدم مسيرة مجتمع ما أو أمة ما نحو العلاج والنهوض مما هي فيه، وقد تتعرض لهزات وانتكاسات، وربما تغرق فيما كانت تحاول الخروج منه.
لكن، وفي هذا عودة إلى فكرة غرامشي عن "الكتلة الاجتماعية" أو "الكتلة التاريخية"، من المفترض أن المجتمع يفرز تلك "الشريحة" أو "الكتلة" التي تفكر وتشخّص أحواله وتدبّر شؤونه وتأخذ بيده إلى "التغيير الآمن"، وتحميه من الانفجار أو التأزم الداخلي. إنما المعضلة، إذا كانت النخب وفواعل الفكر والاجتماع والسياسة وغيرها، تذهب بالمجتمعات والأمم في "دروب خاطئة". وهذا باب فيه كلام كثير.
الخروج من التاريخ
وهكذا، فإن من أسباب خروج المجتمعات والأمم من التاريخ، ولاحقًا اندثارها وزوالها وانقراضها، بما هي مجتمعات وأمم (قد لا تنقرض بالمعنى البيولوجي)، هو: "سوء الفهم" و"سوء التقدير" لـ"مقتضيات وجودها" بين المجتمعات والأمم: معنى ووجود مجتمع ودولة قابلين للاستقرار والاستمرار، وعوامل أمن في الداخل والخارج، ومستويات من القوة والمعنى، وشرعية بنظر أهلها والعالم، وبالطبع ثمة أمور أخرى لا مجال لذكرها هنا.
لعل المجتمعات العربية (أو جزءًا كبيرًا منها) غارقة في "سوء الفهم" و"سوء التقدير"، ولديها مدارك وأفكار نمطية عن "الأنا" و"الآخر"، متجذرة بقوة، وتقوم لدى أصحابها مقام "العقائد الإيمانية"، بل مقام "القوانين الطبيعية"! وأحيانًا ما يحدث ذلك عن سبق الإصرار، في فهم سلبي وحتى عدائي لـ"الأنا الجماعي" أو "الأنا الاجتماعي" أو تجاه "جزء منه"، في نوع من "التدمير الذاتي" المُلغز والمُدهش بالفعل.
مسيرة الحمق
والآن، عودة إلى عنوان هذا النص، تعالوا نضع كلمة "حمق" أو "حماقة" محل كلمات مثل: "سوء التقدير" و"سوء التدبير" و"سوء التشخيص" إلخ. هذا ما يضع الأمور في نصابها الواقعي والسوسيولوجي والتاريخي. وإذا كان الحديث عن العرب، فذلك ليس لأن سوء الفهم والتقدير هو خصيصة لهم أو بينهم، فالظاهرة ليست محض عربية، ولو أن العرب يحتلون موقعًا متقدمًا بين المجتمعات والأمم بهذا الخصوص، وهذا مما يؤسف له.
الصحيح أن "الحمق" و"الحماقة" ليست ظاهرة تصيب الأفراد فقط، وليكونوا هنا الحكام وفواعل السياسة والسلطة، وبالطبع الفواعل المؤثرة اجتماعيًا وسياسيًا وفكريًا؛ بل هي ظاهرة جماعية أو اجتماعية بالمعنى الواسع والمعروف للكلمة. ذلك أن المجتمعات والأمم الحية والحيوية تتمكن من حل مشكلة السياسة أو السياسيين والمؤثرين غير العقلانيين أو المتسلطين، وتتمكن من "تصعيد" قوى وشرائح وفواعل سياسة وقوة وحكم فاهمة وواعية وقادرة على تدبير الأحوال، حتى لو بدت الاستجابات "غير شعبية" و"غير جماهيرية"، أو بالتعابير الدارجة اليوم: "غير شعبوية". وأحيانًا ما يكون ذلك هو المطلوب وفق تقديرات العقلانية في السياسة والتاريخ! ولو أن هذه نقطة خلافية على كل حال.
ثمة كلام كثير عن الحمق في التاريخ، لكن عادةً ما يركز الحديث على حمق أو سوء تقدير وأداء السياسيين والزعماء وأصحاب القرار، وكم من زعيم أو حزب حاكم أو تيار سياسي وإيديولوجي، إلخ، ذهب بنفسه وبالمجتمع إلى الكارثة؟ ولن يجد القارئ صعوبة في تذكر أمثلة بهذا الخصوص. بل يكاد العالم العربي أن يكون مثالًا ونموذجًا حول العالم في هذا الباب!
ويفترض أن يتعدى حديث الحمق وسوء التقدير الزعماء والحكام إلى الافتقار لـ: الرأسمال البشري، وقوة القيادة، والتضامن الاجتماعي، والانتماء والهوية، وعوامل المعنى والقوة، والتوازن والتماسك الوطني، والشرعية السياسية، والمشاركة في صنع السياسات، وتدبير عوامل الفرصة - التهديد، إلخ، بكل التداعيات الكارثية الناتجة عن ذلك. وهذا باب فيه كلام كثير.
ومع ذلك، فإن النقاش هنا يركز على وجود حالة حمق أو سوء تقدير معممة تخص المجتمع والأمة ككل تقريبًا، ذلك أن الاستبداد والاختلال والتمزق الاجتماعي والصراع الداخلي والرهانات الخاطئة في السياسات، أحيانًا، ولا نقول غالبًا، ما تكون "تمظهرات" أو "تجليات" لأزمات أعمق على صعيد المجتمع والأمة.
هل يذكرك هذا بشيء؟
قد تكون أحوال العرب اليوم، وهذا من باب التأكيد، خير مثال على قوة الحمق وتلك السوسيولوجيا عميقة الجذور في الإقليم، ولا مبالغة في ذلك، إذ يكاد العرب يقولون الشيء نفسه تقريبًا منذ قرنين على الأقل: أمة واحدة، وحرية، ورسالة عالمية، وماضٍ مجيد، وهمة كبيرة، وحيوية عالية. لكن واقع الحال مختلف تمامًا تقريبًا. واقع لا يختلفون في توصيفه، لكنهم يختلفون في تحليل أسبابه، كما يختلفون حول سبل الخروج منه. وقد ابتُلي العرب بأنفسهم قبل خصومهم. وغرقوا في الأوهام وسوء القراءة والتدبير. وليس ثمة أمل كبير بأن يخرجوا أو يتجاوزوا ما هم فيه، في وقت قريب.
انظر حواليك، وفي مجتمعك والعالم من حولك، بما أمكن من هدوء وتبصر، فقد يساعدك ذلك في اختبار ما حاول النص قوله، وبالطبع فهم ما نحن فيه اليوم.