العبادة.. دراسة لسانية في النصوص القرآنية (3) | د. يوسف فؤاد أبو عواد

تعبيرية
تعبيرية

جدير بنا أنْ نتذكّر أنّ قصص المرسلين خير ما يمكن أن نفهم من خلالها عبادة الله وحده بصوَرها التطبيقية العملية، فالقرآن الكريم يكرر في عدّة سور قرآنية قصص المرسلين، ويذكّر في كلّ مرّة أنّ كلّ رسول كان يفتتح دعوته لقومه قائلا: "اعبدوا الله ما لكم من إله غيره"، وقد استعرضنا في مقالين سابقين تطبيقات العبادة من خلال قصص كلٍّ من نوح وهود وصالح مع أقوامهم.








ويأتي ذكر الرسول شعيب المرسل إلى مدين بعد قصص الرسل الثلاثة السابقين: نوح وهود وصالح، في سياق قوله تعالى: ﴿وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ* وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُواْ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ*﴾ الأعراف:85-86، والدراسة اللسانية المباشرة لهذا السياق تجعل المتدبر يدرك أنّ القوم قد وصلوا رتبة من التحضر الإنساني أعلى ممّن سبقهم من الأمم؛ فلم تقتصر أنشطتهم على الزراعة والصناعة والمعمار، كما هو حال قوم نوح وعاد وثمود على التوالي، بل زادت أنشطتهم الاقتصادية في كافّة المجالات، ليصلوا إلى مرحلة التجارة وما يرافقها من استيراد وتصدير.


لكنّ هذا التقدّم المحمود من حيث الأصل رافقه انحرافات سلوكيّة تمثّلت في الغشّ في الكيل والميزان. والكيل والميزان معياران لا تخرج تجارة العالم عنهما في كل العصور، فالأول يمثّل الجانب الشكلي من السلع: أحجامها وأشكالها وألوانها ومواصفاتها الخارجية، فمن المعلوم في الاستخدام الشائع لهذه الكلمة أنّ المكيلات تقيّم بناء على حجمها، لكنّ المعنى المفهومي الدلالي الأوسع لهذه الكلمة يشمل كلّ ما يتمّ تقييمه بناء على معايير شكليّة في المنتجات، وإنّ من كان يقبض ثمن كوب من القمح قديمًا فينقص شيئًا منه قبل تسليمه للمشتري، يمثّل صورة مصّغرة لمن يقبض اليوم ثمنًا لقاء بناء بيت وفق مواصفات متّفق عليها، فينقص من هذه المواصفات، ولا يوفّيها طبقًا لما جرى الاتّفاق عليه، وقل مثل ذلك في كلّ أشكال التجارة؛ بدءًا من مكاييل الحبوب القديمة، وصولًا إلى إنتاج الصور والفيديوهات والأفلام اليوم.


أمّا الميزان، فهو ما كانت قيمته راجعة لما فيه من معنى جوهريّ؛ ومن هنا كان الوزن هو المعيار في تبادل النقد من الذهب والفضّة قديمًا وحديثًا، والمعنى الممتدّ إذن لهذا المعيار يشمل اليوم جميع الخدمات التي يجري الاتفاق عليها، فمن قبض ثمنًا لقاء خدمة طبيّة أو تعليميّة أو غيرها من الخدمات التي تقيّم بقدر ما فيها من معنى جوهريّ وفائدة حقيقيّة يجب إيصالها لطالب الخدمة، لا يسعه أن ينقص من هذه الخدمة بحسب الاتفاق، وإلا فقد نقص الميزان.


ولعلّ كلمة الميزان أعمّ وأشمل من كلمة الكيل، ومن هنا نرى الله تعالى قرنها بالكتاب في قوله جلّ ذكره: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ الحديد:25، فالكتاب هو مجموعة البنود والمعايير والمحددات التي تصنع معًا نظامًا متكاملًا، والميزان هو معيار العدالة الذي يضمن تفعيل الكتاب بشكل منصف، ويشبه هذا أيضا سياق آيات سورة الرحمن التي جاء فيها:  ﴿الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ* وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ * وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ * وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ * فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ * وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ * فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ الرحمن 5-13. إنّ تفعيل قواعد نحو النصّ وتماسك الخطاب في فهم هذه الآيات يجعلنا ندرك أنّ الفكرة المركزية لهذه الوحدة النصيّة هي قوله تعالى: "أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ"؛ وذلك لأنّ ما ذكر قبلها من إشارة لحركة نظام الشمس والقمر والنجم والشجر والسماء عمومًا، يشير إلى صورة كونية علويّة تطبيقية واضحة للعيان؛ وهو السير المتّزن الذي يمثّل تطبيقًا عمليًّا مستقيمًا للكتاب الأول لحركة الكون، كما أنّ ما ذكر بعد الفكرة المركزية من نظام الأرض وما فيها من أرزاق، صورة أخرى سفليّة جليّة لتكريس المبدأ نفسه، ويبقى بينهما الإنسان المشار إليه في بداية السورة: ﴿الرَّحْمَنُ* عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ﴾ الرحمن:1-4، ولْيلاحظِ القارئ الحصيف أنّ خلق الإنسان مسبوق بتعليم القرآن، ومتبوع بتعليم البيان؛ وذلك ليفهم الميزان الذي ينبغي عليه الالتزام به في حياته العملية، ولا يكتفي بذلك، بل ينقل هذا الفهم ويدعو إليه من خلال البيان، فالمخلوق الوحيد الذي في وسعه وطاقته أن يطغى في الميزان هو الإنسان. وبهذا التحليل المقتضب بما يناسب السياق لهذه الوحدة النصية، نعرف تمام المعرفة أنّ أعظم عبادة لغير الله وقع فيها قوم مدين-الإنقاص في المكيال والميزان.


وبالعودة للنظر في حوار شعيب مع قومه نقف وقفة لا غنى عنها عند حرف الفاء؛ حيث قال لقومه: "فأوفوا الكيل والميزان بالقسط"؛ فمن الواضح تمامًا أنّ هذه الفاء تفسيريّة لما قبلها، وهو قوله: "اعبدوا الله ما لكم من إله غيره"، ولا يمكن إذن أن يكون قوله: "فأوفوا الكيل والميزان" مقترنًا بهذه الفاء إلا تفسيرًا لقوله الأول: "اعبدوا الله ما لكم من إله غيره"؛ فالعبادة التي نادى بها شعيب هي أن يعود القوم لعدالة الميزان الإلهي الكوني الأول، ويتخلّوا عمّا اخترعوه من صور الغشّ والخداع التي تخلّ بالميزان، وتمثّل الطغيان الذي حذّرت منه سورة الرحمن، وشتّان شتّان بين إدراك معنى العبادة بهذه الآلية اللسانية العربية المبينة التدبرية، وبين ما شبّع به رجالُ الدين عقولَ النّاس من تصوير العبادة طقوسًا وحركات وأعدادًا لا يمكن تشبيهها بغير "صكوك الغفران".


إنّ عبادة الوفاء بالميزان من أجلّ العبادات التي أوضحها القرآن الكريم وألحّ عليها، ولذلك نجد شعيبًا نفسه في سياق قريب يقول لقومه: ﴿اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّيَ أَرَاكُم بِخَيْرٍ وَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ﴾ هود:84، فالتوجيه نحو الوفاء بالميزان تارة، والنهي عن إنقاصه تارة أخرى، فيه إشارة بالغة إلى أنّ الأمر يحتاج من مقدّم السلعة والمنتج وغيرها من أشكال التجارة أن يتحقق أوّلًا من إكمال المطلوب المتفّق عليه، ثمّ يراجع عمله مرّة أخرى تحاشيًا لأيّ نقص قد يكون حدث، بقصد أو بغير قصد، وهذا الإلحاح الذي يظنّه السذّج تكرارًا ممجوجًا نجده متكرّرًا في سورة الرحمن: (وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ) الرحمن:7-9، فلاحظ كيف حذّر من الطغيان في الميزان، ثمّ أمر بإقامته بالقسط، ثمّ حذّر ثانية فقال: "ولا تخسروا الميزان"، ستعلم قطعًا أنّ المقصودَ التوكيدُ على مراجعة العمل والمنتَج، والتحرّي من مطابقته للمعايير المتفّق عليها تمامًا، وذلك لقاء استلامك الأجر كاملًا غير منقوص، لكنّ الفرق بين الاثنين أنّ الأجر من السهل تمييز أيّ نقص فيه، أمّا العمل، منتجًا أو خدمة، فقد يكون من العسير على العميل أن يدرك ما فيه من خلل ونقص، فألحّ عليه النصّ الكريم أن يكون هو من يتحرّى قدر الوسع إكمال العمل، ويراجعه ليضمن عدم وجود نقص أو خلل فيه.


إنّ العبادات التي تحدّث عنها الرسول شعيب تتتابع في الجوانب التجارية لتقيم نظامًا هو الغاية في العدالة؛ فيقول محذّرًا قومه: "ولا تبخسوا النّاس أشياءهم"، وهذا الإرشاد العباديّ تدمير تامّ لما يسمّيه كثير من التجّار اليوم حِذقًا في البيع والشراء؛ وذلك من خلال استغلال جهل البائع أو مقدّم الخدمة في القيمة الحقيقية لمنتجه أو خدمته، فقد لا يكون من أهل الصنعة، فيستغلّ التجّار ذلك، فيبخسونه ثمن منتجه أو خدمته. إنّ هذا "التحاذق" في لسان القرآن ليس إلا مظهرًا لعبادة غير الله، وإخلالًا بناموس الصلاح، ومن هنا تجد الجملة التالية مباشرة: "ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها".


ثمّ يتابع شعيب عليه السلام توضحيه لعبادة الله وحده قائلا: "وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُواْ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ" الأعراف:86، وبهذه العبادة تتكامل العبادات التجارية، ففيها تحذير شديد من إعاقة طرق التنقّل وسُبل الاستيراد والتصدير من خلال الإيعاد (مصدر أوعدَ، ومضارعه يُوعِد)، وهو التهديد بالوعيد، ومن خلال إعاقة الحركة التجارية (وتصدون عن سبيل الله من آمن به)، ومن خلال الرشوة ونحوها من الوسائل المنحرفة (وتبغونها عوجًا). وينبغي للقارئ الفطِن أن يعلم ها هنا أنّ من آمن بالله هو من دخل ضمن عقد الأمان، وقد شرحنا معنى الإيمان في مقال سابق. 


ولك إذن أن تتخيّل عزيزي القارئ صور الانحرافات التجارية في البيع والشراء وتقديم الخدمات، والاستيراد والتصدير، والخدمات الجمركية، وخدمات التخليص والتوصيل والتسليم، وغيرها من الخدمات والمراحل التي تكون بين دفع الثمن وتلقّي الخدمة أو السّلعة، ثمّ تعلم أنّ الدعوة لعبادة الله وحده لا شريك له -كما جاءت على لسان شعيب- ما هي إلا اجتناب كلّ هذه الانحرافات، وأنّ اقترافها -بالتالي- عبادة لغير الله، ثمّ يتجلّى لك بما لا يدع مجالًا لا شكّ أنّ ما قاله الدكتور محمد شحرور -رحمه الله-: "إنّما يعبد الله في الأسواق" هو كلام في غاية الدقّة.


هل سيستغرب أحدٌ بعد ذلك إنْ فهم المتدبرون باللسان العربي المبين أنّ المساجد في القرآن الكريم هي المزارع والمصانع والعمائر والمتاجر؟ وأنّ السجود والركوع لله ربّ العالمين ليس إلّا الخضوع لسننه وميزانه في العمل والتعامل، وهو الميزان العادل الذي خضعت له السماوات والأرض، وأنّ الطقوس التي جعلها معظم رجال الدّين أسّ الدين وأساسه ما هي إلا وسائل للتذكير، والركون إليها لتكون سببًا لنجاة العبد عند الله ما هو إلّا وهمٌ عاشه النّاس قرونًا، فأدّى إلى الصورة الماثلة اليوم للمجتمعات العربية والإسلاميّة.

لقد كان من السّهل جدًّا على من يسعى لفهم القرآن الكريم أن يدرك أنّ معنى قوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ الذاريات:56، لا يمكن أن يكون إلّا ممارسة الحياة وفق السنن والميزان الربّاني دون انحراف عنه، كان ذلك سهل الفهمِ تمامًا لولا حجم الغبار الهائل من التشويش الذي أحدثه من عدَل عن كتاب الله وفهمه التدبري باللسان العربي المبين إلى وسائل محدثة؛ إذ لو كانت العبادة هي الطقوس، لما كانت هذه الآية الكريمة قابلة للتطبيق البتة، فقد حصرت غاية الخلق بالعبادة، وليس في وسع أحد أن يقصر حياته على الطقوس، أمّا إذا فهمت العبادة كما بيّنها النص القرآني بيانًا لا مزيد عليه في قصص الرّسل، فإنّك ستوقن عندئذ أنّ العبادة ليست إلّا الحياة كلّ الحياة، لكن، دون انحراف عن سنن الله، ولا إخلال بالميزان.


وإنّي سأطرح في ختام هذه السلسلة من المقالات سؤالًا مفتوحًا إلى أجل غير مسمّى لكلّ من لا يزال يشكّ في محتواها: (أين ذكر الرّسل الذين أخبر القرآن عن كلّ واحدٍ منهم أنّه خاطب قومه قائلا: "اعبدوا الله ما لكم من إله غيره"، أين ذكروا طقسًا من الطقوس في تفصيل كلامهم، وهل من موضع بيّنوا فيه أنّ مقصدهم بهذه العبارة كان كلمات وحركات؟ هو سؤال مفتوح برسم تحدّي الإجابة.