لكن العرب "لم ينقرضوا"، إذ ما يزالون "حاضرين" في العالم، ولديهم دول أو أشباه دول، وحكومات، ووزارات، وبعثات دبلوماسية، وجيوش، وفرق رياضية...إلخ. و"لم ينهضوا"، إذ إنّ وجودهم على هامش الحضارة والتاريخ، وربما خارجهما، بما هم "مجتمعات" أو "أمم"، إن أمكن التعبير. والصحيح أنهم في "منزلة بين المنزلتين"، إذا أردنا أن نقرأ بشيء من التفاؤل، وفي حال كان التفاؤل ممكناً حقاً.
تقديرات وتعميمات
لا توجد إجابة جامعة مانعة على السؤال: "لماذا تفشل الأمم؟"، ولا "قانون للفشل" أو "الإخفاق". وبالطبع لا يقف الأمر عند العرب، حتى لو أنهم الموضوع الرئيس والمثال الذي يكثف معنى "إخفاق" و"فشل" الأمم؛ إنما الحديث هو عن ملاحظات وتقديرات يمكن أن تساعد في التوصل إلى "توافقات" و"تعميمات" حول أسباب فشل أو إخفاق الأمم بالمعنى الذي يُخرجها من عالم المجتمعات والأمم الآمنة والمستقرة، إلى عالم المجتمعات والأمم التي تشهد أزمات وجودية، وليس فقط اختناقات في أحوالها من حيث التنمية والاستقرار والمكانة (الطَرَفية والهامشية جداً) في موازين المعنى والقوة في العالم.
ديناميات ومرشحات
يمكن تقييم تجارب المجتمعات والأمم من خلال أنماط أو ديناميات الاستجابة حيال الأنا والآخر، إذ "تمرر تجارب هذه الدول عبر مجموعة من المرشحات" لعل أهمها: [1] التقييم الواقعي للذات. [2] والتبني الانتقائي لأفضل الوسائل والممارسات من أماكن أخرى. [3] والقدرة على التعلم من الغير. [4] والحفاظ على القيم المركزية في الوقت نفسه. [5] والمرونة التي تسمح بتقديم تنازلات سياسية واجتماعية". [6] و"كيفية الوصول إلى حالة من التوازن مع القوى الموجودة على الساحة". (جارد دايموند، الانهيار، 2011).
هذا يشبه "كيتات" الاختبار، بالمعنى الطبي/المخبري والصيدلاني، وكل منها ينطوي على خطوط تحليل مختلفة. والواقع أن المجتمعات والأمم تختلف في القراءة والتقدير، كما تختلف في مداركها حول القيمة والوزن النسبي لكل منها (المرشحات) في تقييمها لـ"الأنا" و"الآخر". لكن، بالعموم، لا يقف الفشل أو الإخفاق لدى المجتمعات والأمم عند عامل أو بند من البنود المذكورة أعلاه.
لا توجد علاقة سببية بسيطة ويقينية هنا، الصحيح هو وجود شبكة من العوامل والتأثيرات: سببية متعددة الأنماط، ودوالّ ارتباط أو تزامن متعددة أيضاً. وبالتالي فإن إخفاق أو فشل المجتمعات والأمم عادة يكشف عن اختلال في "نسق" أو "دينامية" العوامل المذكورة أعلاه، في حصيلتها العامة، وليس في كل واحدة منها بالضرورة.
عوامل وأخطاء كارثية
يمكن الحديث أيضاً عن (5) خمسة أسباب أو عوامل رئيسة تسبب انهيار المجتمعات والأمم: "[1] التأثير البشري المدمر للبيئة، [2] والتغيرات المناخية، [3] وتدهور أحوال المجتمعات المجاورة، [4] وتزايد العداء من الجوار، [5] وإدراك المخاطر وطبيعة الاستجابة لها". (دايموند، كيف لأمة أن تدير أزماتها؟، ميدان، 2019). ولا يفترض أن تتوافر العوامل كلها دفعة واحدة، لكن عادة ما "يتواشج" أو "يتزامن" وجود عدد منها في كل حالة، ويتكثف ذلك في عاملين رئيسن، إن أمكن التعبير، وهما: "سوء الفهم"، و"سوء الاستجابة".
وهكذا، ثمة أخطاء كارثية تدفع المجتمعات والأمم للفشل، مثل: [1] تدمير البيئة اللازمة للعيش، [2] والاستخدام الجائر للموارد والثروات، [3] والإخفاق في ملاحظة إلى أين تسير الأمور، [4] والإخفاق في تصحيح المدارك والتقديرات والسياسات. ومن الصعب تصور أن يكون المجتمع على وعي بما يحدث، ولذا فإن الحديث هو عن ممارسات "غير مَوعيّ بها". ولا تعدّ الاستبصارات والتنبيهات من قبل باحثين أو مفكرين أو غيرهم محدِّدًا للوعي بالواقع أو الوعي بمصادر التهديد/الفُرص، ما لم تصبح (الاستبصارات والأفكار) جزءًا من "الوعي العمومي" ذي الطابع الحيوي والحركي، وجزءًا من "أجندة" السياسات المُحدِّدَة والحاكمة.
اختبار وتحليل
يمكن إجراء اختبار تحليل أولي حول إخفاق أو فشل المجتمعات والأمم في العالم اليوم، ومحاولة تقصي الإجابات على أسئلة من قبيل (هنا نعيد صياغة النقاط أعلاه على شكل أسئلة): [1] هل لدى الأطراف المعنية تقييم واقعي لـ"الذات"؟ [2] وهل أمكنها أن تَتَخَيَّر أفضل السبل والوسائل والتجارب والخبرات لدى المجتمعات والأمم الأخرى؟ [3] وهل أمكنها التعَلُّم من خبرات العالم؟ [4] وهل أمكنها المحافظة على قيم مركزية في أفق مجتمع أو أمة؟ [5] وهل تمكنت من إدارة المنافسات والنزاعات والصدام فيما بينها، هي نفسها، أو بينها وبين الآخرين؟ [6] وهل تمكنت من الوصول إلى حالة من التوازن بينها وبين القوى المنافسة أو الحليفة؟
اختناقات واختلالات
مهما كانت الإجابات، إلا أنها –بالعموم- لا تذهب في الخط الإيجابي والحيوي، ثمة اختناقات واختلالات كثيرة، وأحياناً قصور حاد في وعي واستجابة المجتمعات والأمم الفاشلة حيال كل ذلك. والصحيح أن "النقاط" و"المرشحات" المذكورة ذات طبيعة تأويلية واشتقاقية عالية نسبياً، ولدرجة يمكن معها للمجتمعات والأمم المتقدمة أن تخفق في بعض الحالات، وليس كلها، كما سبقت الإشارة. ومن المفارقات، مثلاً، أنّ المداولات بين الأمريكيين والأوربيين أنفسهم حول أحوالهم في الداخل ومكانتهم في العالم، تُظهر أن لديهم أسئلة، وأحياناً تقديرات وأحكامًا، حول إخفاقٍ أو تراجعٍ متزايد في مؤشرات القوة والمكانة بين المجتمعات والأمم في العالم!
طبيعة السياسات
لكن الأصل في سؤال الفشل أو الإخفاق لدى المجتمعات والأمم، ليس الموارد والإمكانات الاقتصادية والاجتماعية والجغرافية، ولا "ثقل التاريخ"، بل طبيعة السياسات. وإن كلمة السرّ في ذلك هي: المؤسسات ثم المؤسسات ثم المؤسسات. (دارن عصام أوغلو وجيمس روينسون، لماذا تفشل الأمم؟ ص483). وفي قلب كل ذلك حديث طويل عن التنافر بين المؤسسات والفساد السياسي، وضعف الرأس-مال البشري، والاخفاق في تدبير اللحظات الحرجة أو في اغتنام الفرص التاريخية، وبالطبع الاستبداد.
يلاحظ دارن عصام أوغلو وجيمس روبنسون، الحاصلان مؤخراً على جائزة نوبل في الاقتصاد، أن من الأمور التي تعرقل مسيرة المجتمعات والأمم نحو الازدهار: "وجود نظام حكم فاسد وعقيم، ومجتمع لا يستطيع الناس فيه استخدام مواهبهم، (ومتابعة) طموحاتهم (وتحرير) قدراتهم (وطاقاتهم)، وكذلك مستوى التعليم الذي يمكنهم الحصول عليه". ويبدو أن الجذر المكين لتلك المشكلات هو السياسة و"المنهجية التي تُمارَس وتُحتَكَر بها السلطة السياسية ... من قبل قِطاع ضيق من النخبة. إنهم يدركون أن هذا يمثل أول شيء يجب أن يتم تغييره". (عصام أوغلو وروبنسون، ماذا تفشل الأمم؟، ص21).
قوة المواطنين
لا شك أن ثمة عوامل كثيرة تؤدي إلى وضع المجتمعات والأمم في مواقع ومراتب وأحوال مختلفة، بل متناقضة، وبشكل حاد أحياناً، كما هو الحال بين العرب والغرب. ومن بين تلك العوامل: "قوة المواطنين" أو "قوة المجتمع"، و"الديناميات التاريخية"، و"بناء الهوية الوطنية"، التي تمكن المجتمع أو الأمة من إقامة نظم حكم مرتكزة إلى شرعية اجتماعية وتتمتع بالحيوية، وعلى قدر المسؤولية، ومستجيبة لمطالب المواطنين، وتحرر طاقاتهم وقدراتهم...إلخ. وإنّ الافتقار إلى ذلك، هو شكل من أشكال الإخفاق أو الفشل لدى المجتمعات والأمم.
الهمة والطاقة الخلاقة
ولعل من أهم عوامل الإخفاق أو الفشل لدى المجتمعات والأمم، هو الافتقار لـ"معنى" مجتمع أو "روح مجتمع". وإنّ الحديث عن "مجتمعات" و"أمم" في مناطق كثيرة حول العالم، ومنها المنطقة العربية وأفريقيا وجنوب آسيا وأمريكا اللاتينية، هو حديثٌ "بحكم العادة"، ولو أنّ الكثير منها هو "ادعاءات" أو تسميات "لا تبرر نفسها" واقعياً وموضوعياً -إن أمكن التعبير-.
ويمكن أن تفشل المجتمعات والأمم لأسباب أخرى قد لا يكون مَوعيًّا بها. يتحدث نيتشه، مثلاً، في معرض تحليله لـ "التراجيديا الإغريقية"، عن الافتقار لأمور مثل: "الفطنة" و"الإقدام". فيما يتحدث هيغل عن الافتقار لـ"الهمة". ويتحدث أدونيس عن "نهاية الطاقة الخَلَّاقَة". وإذا لم يتمكن الناس أو المواطنون من الإمساك بـ"زمام السياسة"، في أفق مجتمع ودولة، وأفق عالم مفتوح على تغيرات وتدفقات وخبرات ومصادر تهديد/فرص لا حصر لها، فهذا مما يحيل إلى "الفشل" و"الإخفاق" في تحقيق وجود حيوي وحضاري بين المجتمعات والأمم.