تعتمد هذه الدراسات، بالدرجة الأساس، على البيانات المتوفرة من جراء العمليات الإحصائية. إن قاعدة بيانات دقيقة ومتنوعة تتيح لنا البدء بإجراء دراسات مستقبلية نافذة وفعالة تتطابق أو تكاد مع حقائق المستقبل. إن اكتشاف المستقبل ليس نوعاً من الترف والتسلية كما يحصل في قراءة الطالع، بل يهدف إلى التعامل المبكر مع القضايا المستقبلية وصولاً إلى صياغة جديدة للمستقبل تتوافق مع مصالح الجماعات البشرية سواءً كانوا أمة أو مجموعة من الأمم، فهو نوع من السيطرة على المستقبل.
تتعامل هذه الدراسات مع برنامج حاسوبي يدعى برنامج المستقبل العالمي (International Futures) والصفحة الرئيسة لهذا البرنامج على الشبكة العنكبوتية هي (www.ifs.du.edu)، وهو أداة مهمة للتخطيط للمستقبل، ولأهمية هذا البرنامج في استشفاف المستقبل فقد أسهمت في تطويره جهات متعددة، أهمها برنامج الأمم المتحدة للبيئة (UNEP)، وأصبح أحد أدواتها للاستعداد للمشهد العالمي البيئي الرابع.
أنواع التغييرات التي يرصدها هذا البرنامج ويتعامل معها متنوعة، تشمل كافة جوانب الوجود الإنساني، السكان، الاقتصاد، السياسة الاجتماعية، السياسة الدولية، الزراعة، الطاقة، التقنية، المصادر البيئية والتوعية، ويتم إدخال البيانات المطلوبة في أي حقل من الحقول للحصول على صورة للمستقبل.
يحتوي البرنامج على 187 نموذج سكاني تمثل دول العالم المختلفة، كما أن البرنامج يتيح إنتاج المزيد من النماذج السكانية وبناء دول افتراضية بإعادة خلط العناصر المكونة للدولة.
برنامج الـ(IFs) الذي تستخدمه هذه الدراسات اليوم هو الجيل الخامس من هذا البرنامج والذي ابتدأ العمل به منذ العام (2004)، الجيل الأول للبرنامج لم يكن محوسباً بالطبع، بينما اتجه الجيل الثاني لبرنامج (IFs) إلى الحواسيب الصغيرة مستخدماً قاعدة (DOS)، وظهر الجيل الثالث في العام (1993) وأصبح نموذجا مكتملا على الحاسب الشخصي، والجيل الثالث أدخل تحسينات على التوزيع السكاني والطاقة وأنظمة الغذاء، وأضاف محتوى بيئيًا واجتماعيًا وسياسيًا إلى النموذج، والحقيقة أن الجيل الخامس المتوفر الآن على الشبكة العنكبوتية يعتبر نموذجًا فعّالا ومتطورا جداً يتيح للمستخدم درجات عالية من الدقة والمصداقية والمماثلة للواقع بعيداً عن التعميمات.
جرت الكثير من المحاولات المبكرة للتنبؤ بالمستقبل على أسس علمية إحصائية تتخذ من الاستقراء منهجاً، ولأن العالم كان مهتماً وقلقاً للغاية بخصوص البترول بوصفه عصب التطور الاقتصادي، فإن أهم المحاولات في اكتشاف المستقبل كانت ترتبط بالبترول، في خمسينيات القرن العشرين وضع م. كنج هربرت أفضل توقع ناجح بخصوص إنتاج البترول على شكل منحنى، عرف فيما بعد بـ"منحنى هربرت"، وهو منحنى جرسيّ الشكل. أنذر هذا المنحنى بأن بترول الولايات المتحدة سيبلغ ذروته في العام (1970)، ثم يبدأ بعد ذلك بانحدار طويل وبطيء، ونحن نعرف الآن أن هذا التوقع كان موفقاً ومطابقاً للواقع، وإذا ما أسقطنا الأرقام الحقيقية للإنتاج العالمي للنفط على هذا المنحنى حتى الوقت الحاضر، فإنها تنطبق بشكل لا بأس به.
والآن ماذا عن المستقبل؟ ماذا عن المئة سنة القادمة؟ المنحنى يوضح بجلاء أن الإنتاج سيهبط عام (2100) حوالي 2 مليون برميل، وهي نفس قيمة الإنتاج العالمي عام (1925).
أوضحنا في البدء أن عامل السكان هو أحد العوامل التي يستطيع برنامج المستقبل العالمي (IFs) التنبؤ به، ويتيح هذا البرنامج للمستخدم أن يقوم بإدخال العناصر التي يراها مناسبة، ابتداءً من العناصر الرئيسية؛ مثل عدد المواليد والوفيات، مروراً بمعدلات الخصوبة، وانتهاء بالأمراض، حيث يوجد لكل عنصر من هذه العناصر تفرعات اختيارية تتيح مزيدا من الدقة. فالأمراض مثلاً يتفرع عنها عامل مهم هو مرض الإيدز الذي يبلغ ذروته بإبادة 4.2 مليون نسمة في عام 2015 وينتهي بالكامل عام 2070. والحقيقة أن عدد التفرعات الكلية في شجرة السكان يبلغ 350 تفرعاً، ومع أن هذا الرقم يبدو مرعباً، إلا أن المستخدم لن يكون مضطراً للسير في كافة الخيارات المتاحة، يستطيع المستخدم أن يختار ما يتماشى مع مفاهيمه وقيمه. هناك عوامل مثل معدل الدخل، ومستوى تعليم المرأة، والوضع الاجتماعي للمرأة، تدخل في تحديد عدد السكان. ولتوضيح دقة النموذج السكاني المستخدم، يكفي أن نذكر أن تفريعاً واحداً -مثل مرض الإيدز- يقود إلى خيارات فرعية.
وبنفس الطريقة السابقة يستطيع المستخدم أن يجري دراسات مستقبلية حول البيئة، بالمرور على التفرعات المختلفة التي يحويها البرنامج، هناك مثلاً معدل صرف الطاقة، وانقراض الغابات الذي يزيد من انبعاث ثاني أكسيد الكربون، والبيوت المحمية في الزراعة، واستخدام الرذاذ في الصناعة، وغازات التبريد، ومصادر الطاقة البديلة وتأثيراتها، وسنرى أن عدد الخيارات هائلة ويتيح دقة كبيرة لرسم صورة للبيئة المستقبلية.
يحتوي البرنامج على عناصر أخرى مكونة للمستقبل، مثل الاقتصاد، والغذاء والزراعة والطاقة. إن المعلومات التي يتيحها برنامج (IFs) ليست لازمة بالطبع؛ نظراً لتدخل العامل الإنساني في كل عنصر من العناصر السابقة المحددة للمستقبل، وكل ما يستطيع النموذج تقديمه هو السيناريوهات الممكنة. نستطيع أن نستشف مثلاً صورة مشرقة لسوق عالمي فيه اختراعات تقنية سريعة، وإصلاح ونمو اقتصادي متسارع، وأسواق عالمية مندمجة، والسلام يعم العالم والاستقرار. مع وجود عدم المساواة وتفاقم المشكلات البيئية، هناك صورة أخرى تعطينا عالمًا مغلقًا محصنًا، وفشلًا في نمو الأسواق، وكوارثَ اجتماعية وبيئية، واتساعَ الظلم والاضطراب، والتقهقرَ نحو الكيانات القومية الضيقة، وانحسارَ ظاهرة العولمة. إن سياسات الإنسان الحالية ومعالجاته لمشاكل الفقر والحروب والبيئة هي التي ستحدد مستقبل العالم.
على المستوى العربي، فإن نماذج الدراسات المستقبلية المستعملة حاليا في الغرب لا تتنبأ إلا بالكوارث. فمعطيات الحاضر العربي، من التفكك والتخلف والجمود، تشير كلها إلى صورة مستقبلية بالغة القتامة للمجتمعات العربية. ويعترض المفكر محمد عابد الجابري على توظيف علم المستقبليات في استشفاف مستقبل المجتمعات العربية، ويرى أن فلسفة التاريخ هي البديل لسبر أغوار المستقبل العربي. يعتقد الجابري أن حال العرب اليوم يشبه حال الشعوب الأوروبية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، حيث كانت هذه الشعوب تتطلع إلى مستقبل زاهر غير متضمن في حاضرها المعتم. وعندما يكون المستقبل غير متضمن في الحاضر فإن الدراسات المستقبلية تصبح نوعًا من العبث والتكرار والجمود. لقد تأسست الرؤية المستقبلية للشعوب الأوروبية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر استنادا إلى الأفكار الملهمة التي قدمها الفيلسوف الألماني هيجل وفيلسوف التاريخ الفرنسي كوندرسيه.
يشير كوندرسيه إلى حقيقة أنه لا حدود مرسومة لتقدُّم الملكات الإنسانية؛ لأنه لا حدّ، على الإطلاق، لنزعة الإنسان نحو الكمال. ولأنه لا يوجد نزعة أقوى من هذه النزعة لدى الإنسان، فإن مسيرة الكمال سوف تستمر ما دامت الكرة الأرضية باقية، وسوف يأتي يوم لن يكون على وجه الأرض سوى الأمم الحرّة. إن الواقع العربي يحتاج لهذا النوع من فلسفة التاريخ الذي يحطم كل معطيات الحاضر ويمنعها من أن تسافر معنا للمستقبل. وبالرغم من أن الحضارة العربية عرفت فلسفة التاريخ عن طريق العلامة ابن خلدون، إلا أن ظهور ابن خلدون تزامن مع أفول الحضارة العربية وخروجها من التاريخ، وجاءت فلسفة ابن خلدون التاريخية لتؤرخ لحادثة الأفول.