العرب و"التَخَلِّي المُتبادل" بين المجتمع والدولة | د. عقيل سعيد محفوض

تعبيرية
تعبيرية

يشهد العرب أنماطاً من "التخلّي" و"التخلّي المتبادل" بين المجتمع والدولة أو ما يُعدُّ "مجتمعاً" و"دولة" لديهم. والواقع أن العرب أخفقوا في التشكل "مجتمعات" و"دولاً" حداثية أو حديثة، بالمعنى الذي تعرفه العلوم الاجتماعية، وتعرفه بلدان كثيرة حول العالم. ولا تزال الدولة لديهم تشكلاً "غريباً" و"مستورَدَاً" و"فاشلاً". وهذا لا يخص المنطقة العربية، بل يكاد يشمل ظاهرة الدولة خارج أوربا، خلا استثناءات قليلة.





ولا تزال المجتمعات في الإقليم أقرب لـ"تكوينات اجتماعية" وليس "مجتمعات" بالمعنى الذي نعرفه. وعلى الرغم من محاولة "صناعة مجتمع"، إلا أن "التشكل الحداثي للمجتمع" –على ما يبدو- ما كانت أكثر من "قشرة رقيقة". ولم تتمكن "روح مجتمع" من أن تحكم أو تجمع أو تظلل التكوينات والهويات واتجاهات الوعي والتفكير والفعل في "المجتمعات" العربية، وهي -على أية حال- ليست سواء. 


في معنى التخلّي 

التخلّي ليس تَرْكاً أو قطعاً بالضرورة، بل تحويل وتغيير للرؤية والمنظور. والتخلّي ليس فعلاً أو خياراً واعياً بالضرورة أو على الأغلب، على الأقل في بدايات التكوين الحداثي لـ"مجتمع" و"دولة" في المنطقة العربية: 


- أول التخلّي، هو تخلّي الناس (والتكوينات الاجتماعية: قبائل وعشائر وجماعات دينية ومناطقية ولغوية، إلخ) عن أن يكونوا "مجتمعاً"، وذهبوا بعيداً في مدارك وتوجهات على حسابه وأحياناً بالضد منه. 


- ثاني التخلّي، هو تخلّي الدولة أو ما يُعدُّ دولة، إذ تخلّت عن أن تكون دولة بالفعل. والمسألة ليست مجرد إخفاق أو إحباط، بل تخلٍّ بالمعنى الجدي والعميق للكلمة. ومن الأسباب الرئيسة لذلك، هو الفساد والتسلط وتمركز المعنى والقوة حول الحاكم ونخبة أو عصبة الحكم.  


- المفارقة أن الطرفين (ما يُعدُّ مجتمعاً، وما يُعدُّ دولة) وَاصَلَا أنماطاً من التكاذب والنفاق والإكراه الاجتماعي والسياسي. ووَاصَلَا أدوارهما، بوصفهما فواعل تكوين اجتماعي (أو مجتمع) ودولي (أو دولة) على مسرح السياسة وفي فضائها، في الداخل والخارج، على أنهما مجتمع ودولة بالفعل.  


ومع صعوبة "تجسير الفجوة" بين الطرفين، وتزايد مؤشرات الإخفاق في السياسة، أخذ كل منهما (المجتمع، الدولة) يتدبر أحواله بشكل مختلف عن الآخر، ليس انفصالاً، لكن بما أمكن من "الاستقلال النسبي". بدأ "المجتمع" بـ"تدبير" الأحوال تَكَيّفاً مع ظاهرة الدولة التي لم يجدها "ممثلة له" ولم يعدّها "دولته". ثم إن الدولة نفسها أخذت بـ"التخلي" عن مسؤولياتها الاجتماعية والاقتصادية وحتى السياسية تجاه المجتمع. 


 ثمة "فجوات جيلية" كبيرة، وتشتت وتمزق وتحول في أنماط القيم حيال السياسة والدولة. وإن الفجوة بين الخطاب والواقع، والتخلف عن متابعة ما يحدث في الواقع والعالم، والتدفقات المهولة في المعلومات والأفكار والقيم، إلخ-فعلت فعلها في "المجتمع" الذي أخذ يغير رؤيته لـ"الدولة"، وفي "الدولة" التي أخذت تغير تصورها ومدركاتها عن نفسها من جهة، وتتبنى سياسات حريّة (ليبراليّة) اقتصادية مشوهة من جهة أخرى. 


تخلّي الدولة 

الواقع أن ظاهرة الدولة في المنطقة العربية ربما تكون من أقل تجارب "النقل" أو "الاستيراد" من أوربا نجاحاً، مقارنة بمناطق أخرى في العالم، مثل: أمريكا اللاتينية وجنوب شرق آسيا. ولهذا أسباب عديدة، تتجاوز طبيعة "الانتقال" و"التكيف"، إلخ، إلى أمور تتعلق بطبيعة العلاقة بين العرب والسياسة. وإذا كانت تجربة الدولة "هشة" أو "فاشلة" أو "مهددة بالفشل" عموماً، فهذا يفسر –مع عوامل أخرى- أسباب الشعور بـ"الاغتراب" و"التخلي" وربما "القطع" بين الطرفين، على ما في ذلك من تعميم حادّ نسبياً، ولكنه مبرر معرفياً واجتماعيًّا وسياسياً.


ليس ثمة ما هو أسوأ أو أخطر من الحكومات والدول، وهي في حالة "الانسحاب" و"التخلي" و"الإنكار"، مندفعةً لــ :


- تقليص الالتزامات أو الواجبات تجاه المجتمع من جهة، مثل: ضغط الإنفاق على الدعم الاجتماعي ودعم الشرائح الاجتماعية الأكثر فقراً، وإعادة توزيع الموارد المادية والمعنوية لصالح الشرائح الأكثر غنى و"الأعلى شأناً"! 


- التقوقع أو التمركز "الأَنَوِي" و"الهَوَوِي" على "أنا" السياسة والسلطة والحكم من جهة ثانية. وتقريب رجال المال والأعمال من مراكز صناعة القرار، بل وإعادة تشكيل مِحراكات صناعة السياسة، تحت عناوين الإصلاح الاجتماعي والسياسي.


- مواصلة "ادعاء" وجود دولة ومجتمع وسياسة، وحاضر ومستقبل، من جهة ثالثة. وخاصة في مجتمعات الصراع والحرب، إذ تعرضت الدولة والمجتمع لـ"ضَخَّات" أو "رَضَّات" قاسية، مثلت تهديداً وجودياً لهما.  


إن المطلوب في مثل هذه الأحول، أن تكون الدولة "اسماً على مسمى"، وان تبرر نفسها أمام المجتمع (والعالم)، بالقدر الذي يجعل الحياة ممكنة! ذلك أن "عِلَّة الدولة" "وسبب وجودها" هو الأمن بالمعنى الأساسي أو الأَوَّلي، إن أمكن التعبير، أي أمن الحياة بالمعنى المادي والحيوي، وبالطبع الأمن بالمعنى الشامل والواسع، أي الأمن الرمزي والحيوي والتنموي والمشاركة والحقوق والحريات. ولا شك أن أكثر الدول في المنطقة العربية يسقط في اختبار الأمن سواء بالمعنى الأولي أو بالمعنى الواسع.  


تخلِّي المجتمع

قد تكون المجتمعات (أو بالأحرى التكوينات الاجتماعية) في المنطقة العربية من أكثر "المجتمعات" حداثة وتقليدية في آن: الكثير من التكنولوجيا وقيم العولمة والتعليم والاستهلاك وغيرها، والكثير من قيم المحافظة والتمركزات الهووية حول القبيلة والعشيرة والطائفة والطريقة والمنطقة وغيرها. يتحدث عالم الاجتماع (السوسيولوجي) هشام شرابي عن "مجتمعات تقليدية محدثة"، (شرابي، النظام الأبوي وإشكالية تخلف المجتمع العربي، 1993).  


لم تتمكن فواعل المجتمع ونخبه الحريصة على التشكل مجتمعاً بالفعل، من أن تتجاوز مِحراكين للقوة والسلطة، إن أمكن التعبير: الأولى هو مِحراك الانقسام الاجتماعي على أسس ما قبل الحداثة: القبيلة والعشيرة والطائفة، إلخ. والثاني هو مِحراك التشكل مجتمعاً في إطار وأفق دولة، وفي ظل سلطة وقوة النظم والدول القائمة. والواقع أن الدولة تشكلت قبل أن يتشكل المجتمع، ثم إنها أخفقت في تشكيل "مجتمعها". بل ان بعض نظم الحكم جهدت كثيراً في "إعاقة تشكيل مجتمع" بالمعنى الحديث، مخافة أن يؤثر ذلك على مستقبلها. وهذه سمات النظم الاستبدادية على أية حال، والاستبداد هو سمة النظم العربية على وجه العموم. 


وليس ثمة ما هو أسوأ أو أخطر على "روح" و"فكرة مجتمع" من أن يكون الناس:


- في حالة "تخلٍّ" عن القضايا الكبرى والسياسات العليا، بما في ذلك السلطة والدولة نفسها. ويمثل التوجه المحموم للهجرة إلى الخارج، التعبير الأكثر كثافة بهذا الخصوص. 


- و"ارتداد" إلى حالة الملة والنِّحلة والقبيلة، التي لم يغادرها أو لم يقطع معها بالأساس، بما هي بديل للدولة في حالة "اللادولة".


- مندفعين لتدبير شروط "الحياة العارية"، بتعبير جورجيو أغامبين، ما أمكن من شروط، وما أمكن من حياة، في ظل سلطة الدولة نفسها أو خارجها، وفي مقابل الدولة أو في مواجهتها وعلى حسابها أيضاً. 


ظاهرة مهاجرة

الخطير هو أن السعي لـ"تدبير الحياة" دفع ملايين الناس للهجرة إلى أوربا وغيرها، هروباً من بلدانهم ومواطنهم الأصلية، وبحثاً عن حياة ممكنة، ومستقبل مأمول، ومن دون أي أفق للعودة. هل ثمة ما يدفع الناس للعودة إلى بلدان ومجتمعات "فاشلة"؟ هل ثمة من يفكر في عودة أو إعادة المهاجرين؟ وهل ثمّة ما يعيدهم؟  


تحول العرب إلى "ظاهرة مهاجرة"، كما لو أن الهجرة (وهذا من باب التندر) "سنة نبوية"، وبالطبع سنة اجتماعية وإنسانية (أنثروبولوجية) وقيمية لها جذور ضاربة في التاريخ، وتمثل اليوم استجابة عقلانية وواقعية لإكراهات الحياة ولتطلعات العيش الحر! 


اسم على مسمى

ان المطلوب في هذه الحالة، ان يكون المجتمع "اسماً على مسمى"، ان يبرر نفسه، وان يكون قادراً على "إنتاج دولته" أو التأثير فيها، والحفاظ على وحدته وهويته ومِحراكات التفاعل بين تكويناته الداخلية، وبينه وبين الدولة، بما في ذلك مِحراكات التوازن والأمن والتنمية والاستقرار ،إلخ. والواقع أن عدداً من المجتمعات العربية "أخفق" في اختبار الوحدة والتماسك الداخلي أو الذاتي، ولم يتمكن من أن يوازن علاقاته وتفاعلاته مع نظام الحكم والدولة. والصحيح أن العقد الاجتماعي انفجر أو تضرر بشكل حاد في غير بلد عربي، وخاصة بلدان الصراع والحرب. 


في الختام، 

يشهد العرب، مجتمعات ودولاً، أو ما يعد كذلك، أنماطاً مركبة من التخلي، تخلٍ عن معنى وفكرة مجتمع ودولة، وبالطبع تخلٍ للمجتمع تجاه الدولة، والعكس، وثمَّة ما هو أبعد من ذلك، ويتمثل في العزوف عن الانهمام في السياسة والشأن العام، والاندفاع الجنونيّ (الهستيري) نحو الهجرة من بلدانٍ" الداخل فيها مفقود، والخارج منها مولود"، كما لو أن الأمل بوجود مجتمع ودولة غائب بالتمام، أو يتضاءل بشكل خطير، من منظور شريحة متزايدة من الناس. 


ولا يبدو أن ثمة وصفة ناجعة لأن يتجاوز العرب ما هم فيه، والعودة إلى أنفسهم وتدبير أحوالهم، على أهمية وأولوية ذلك. لعل الوصفة الأكثر قبولاً وتلقياً اليوم، من قبل شريحة كبيرة من الناس، هي: كيف يمكن الخروج من هذا الجحيم؟