ما
الفرقة الناجية؟
"الفرقة
الناجية" هي الجماعة التي تَعُدّ نفسها أو يَعُدّها أتباعُها التعبير أو
التجسيد الحصري لـ"الإسلام الصحيح"، وأنها تمتلك "الحقيقة المطلقة"
و"المعرفة التامة" و"الصواب المحض"، وهي وحدها التي تعبر
"الصراط المستقيم" الذي يؤدي إلى الجنة بشكل حصري أيضاً. وأما الباقي
فإلى جنهم. ولا تقف الأمور هنا، ذلك أن منطق أو ذهنية "الحديث" عادة ما
تكون جزءًا من منظومة قيم تفرض على المؤمن بها أن يُعَجِّل – ما أمكن- في إيصال
"الآخر" إلى جهنم، من خلال العنف المادي والرمزي، والتمييز والإقصاء
والإذلال.
أقرب
المعاني والدلالات لمفهوم "الفرقة" هو الجماعة من الناس التي تنهج
منهجاً معيناً في رأي أو قول يكون مفارقا لغيرها، تُعرف به، وغالباً ما يحيل
المعنى اللفظي والاصطلاحي إلى جماعة دينية تتميز عن جماعات أخرى في فهم وتلقي
الدين وممارسته، ويكون اختلافها محل تجاذب وصراع أو تمايز وتعيين، ولو أن تعيين
المعنى يتطلب التركيز على نظم المعارف والقيم والتفاعلات داخل الجماعة نفسها،
وبينها وبين غيرها من الجماعات، بشكل يعطيها سماتها العامة وهويتها.
ولا
يقتصر الأمر على الجماعات في الإسلام، بل تجد مثل ذلك في الظاهرة الدينية عموماً،
إسلامية وغير إسلامية. ولو أن التجليات الاجتماعية والسياسية تتفاوت بين دين وآخر،
جماعة وأخرى، لحظة تاريخية وأخرى. والواقع أنك تجد مثل ذلك في الظواهر
الإيديولوجية والحزبية وغيرها. وهذا باب فيه كلام كثير.
حديث
الافتراق
يستند منطق أو بالأحرى "لا منطق" الفرقة الناجية إلى حديث منسوب
للنبي محمد بن عبد الله، يقول: "تفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في
النار إلا واحدة" وفي رواية من الروايات المتعددة لهذا الحديث، أن النبي محمد
سُئل: "ومن هم يا رسول الله"؟ فقال: "من كان على مِثْلِ ما أنا
عليه". وتختلف الروايات في أمر العبارة الأخيرة.
روى أنس بن مالك (ت 90 هـ) عن النبيّ محمد قوله:
"إنّ بني إسرائيل افترقت على إحدى وسبعين فرقة، وإنّ أمّتي ستفترق على اثنتين
وسبعين فرقة، كلّها في النار إلاّ واحدة، وهي ...". هنا تختلف العبارة
الأخيرة، هي: "المتمسكون بسنتي" أو "الجماعة" لدى السنة.
و"شيعة أهل بيتي" لدى الشيعة. و"أهل العدل والتوحيد" لدى
المعتزلة. انظر على سبيل المثال: أسانيد وروايات لدى السنة (الإسفرائيني، التبصير
في الدين، 1983). ولدى الشيعة (الموسوي الشيرازي، الفرقة الناجية، 2004). ولدى
المعتزلة (محمد يحيى عِزّان، حديث افتراق الأمة، 2001). ويخلص باحثون معاصرون إلى
أن دلالة الحديث تنحصر "على الإخبار بافتراق الأمة لا غير"، (طه جابر
العلواني، العراق الحديث، ص 118)، أي ليس الحكم عليها: "مَن في الجنة"
و"مَن في النار".
كلها في الجنة، إلا واحدة
الحديث نفسه رواه الشعراني في "الميزان"، وصححه الحاكم على النحو
الآتي: "ستفترق أمتي على نيِّف وسبعين فرقة، كلها في الجنة إلا واحدة"، (الغزالي، فيصل الفرقة، ص58).
وفي رواية عند الديلمي تقول: "الهالك منها واحدة"، قال بعض الفقهاء هي "الزنادقة". وفي رواية عن أنس أن
النبي قال: "كلها في الجنة إلا واحدة، وهي الزنادقة". وفي رواية عن أحمد بن حنبل أنه قال: "وهي الجماعة". وفي
رواية أخرى "ما أنا عليه وأصحابي". (رشيد رضا، تفسير المنار، ج8، ص 221.).
وتجد مثل ذلك كثيرًا في الكتب والمصنفات الدينية.
مُنْتَج سياسي؟
ان
اختلاف العبارة الأخيرة في الروايات يفسر "التوافق الموضوعي"
و"التواطؤ التاريخي" على استخدام "متن" الحديث أو المقاطع
الأولى منه، وإدخال إضافات قصدية في المقطع الأخير لأغراض دينية وسياسية.
وعلى
الرغم من عدم القطع بصحة الحديث، في وجهيه الرئيسين المذكورين أعلاه، إلا أنه
مستخدم على نطاق واسع، ولكن بوجهه الأول، بمعنى "كلها في النار إلا
واحدة". ومن الواضح أن الوجه الثاني، أي "كلها في الجنة إلا
واحدة"، لا يفيد كثيراً في السجال، أو قُل: في الصراع السياسي والديني؛ ولذا
تجده مهجوراً تقريباً.
ويبدو
-حسب تقديرات محمد عابد الجابري- أن السنة هم من وضعوه، وهم أكثر استخداماً له،
وأن ظهوره كان في فترة الصراع بين الإمام علي ومعاوية، (الجابري، الفرقة الناجية
وثقافة الفتنة، مجلة فكر ونقد)، أي في ظروف حرب، وربما كان ذلك جزءًا من متطلباتها.
وهذا يحيل إلى ظروف أو رهانات سياسية أنتجت الحديث المذكور أو أنها وَظّفَتهُ
سياسياً في حروب طاحنة على مدى التاريخي الإسلامي.
منطق،
لا منطق!
يتعلق
الأمر بـ"منطق الفرقة الناجية" وليس مجرد "حديث" أو "فكرة
إيمانية أو فقهية". وان "هذا التصور رسّخته كتب الفرق الإسلامية ... إن
القول بأن هنالك حقيقة إسلامية مثالية وجوهرية مستمرة على مدار التاريخ؛ ليس إلا
وهماً أسطورياً لا علاقة له بالواقع ... فهم يتوهمون أن الإسلام السني كان موجوداً
منذ البداية، وعلى مستوى لحظة القرآن، ولكن ذلك ليس إلا وهماً وسراباً". (أركون،
الفكر الإسلامي، ص 247). ولدى الشيعة التصور والتفكير نفسه تقريباً.
الأصل،
التوظيف!
وطالما أن "الحديث" أصبح جزءًا من
متطلبات مواجهة، وأداة من أدوات التعضيد والتجييش الديني والإيديولوجي وحتى
العسكري، فلا يعود التدقيق في صِدْقِهَ أو صِحَّتِهِ هو الأصل، وإنما في توظيفه
واستثماره. والملاحظ أن ابن تيمية مثلاً "غمز في قوة صحته .. مع أنه يصححه
لأنه يوافق مذهبه". (جابر عصفور، الفرقة الناجية، الأهرام، 9-8-2015). وكان وَضعُ الأحاديث جزءًا من ديناميات الصراع
السياسي والاجتماعي والتاريخي كما هو معروف.
إذا كان حديث "الفرقة الناجية" أو
اختلاقه، ممارسة دينية، فإن الأغراض السياسية واضحة، وهي استخدامه في الحرب بين فواعل
واصطفافات الرعيل الأول، ثم في كل التجاذبات اللاحقة بين الفرق والمذاهب الإسلامية.
والهدف منه هو "نسخ" أو ربما "إعادة إنتاج" مستمرة للمواقف
المتعلقة باللحظة النبوية وإلى حدٍ ما الراشدية، وخاصة ما يتصل بـ"الإمامة"
أو الحكم والسلطة. وهذا يُذكِّرُ بعبارة لـلشهرستاني تقول: "وأعظم خلاف بين
الأمة خلاف الإمامة، إذ ما سُلَّ سيفٌ في الإسلام على قاعدة
دينية مثل ما سُلَّ على الإمامة في كل زمان". (الشهرستاني، المِلَل
والنِّحَل، ج1، ص 24).
ويعد
حديث "الفرقة الناجية" بنسخته السنية استكمالاً أو استئنافاً نصياً
ولغوياً وبلاغياً لـ"حدث السقيفة" من حيث إن "حدث السقيفة" هو
"حدث مُؤسِّس" لـ"الحكم" بالمعنى السياسي. وحديث "الفرقة
الناجية" مكمل أو مُعضِّدٌ له بالمعنى الديني. وأما النسخة الشيعية منه
فتعدُّه استمراراً نصياً ولغوياً وبلاغياً لـ"حدث غدير خم". وهما حدثان
متناقضان أو متعاكسان كل من منظوره. وسوف تواصل كتب الفرق والمذاهب وعلوم الكلام وغيرها
ذلك، منذئذٍ وحتى الآن، قائمة على قاعدة التكفير والخروج عن خط "الإسلام
الصحيح" أو ذهنية "الفرقة الناجية". وكلٌّ بما لديهم فرحون!
توافق موضوعي، تواطؤ تاريخي!
وهكذا
فإن الأغراض السياسية واضحة، ولم تنته بوقتها آنذاك، بل امتد تأثيرُها إلى اللحظة
الراهنة، وأصبحت جزءاً من دينامية "إنتاج الواقع" و"إعادة
إنتاجه". وما حَدَثَ أنه لم يتم التعاطي النَّشِط مع الحديث واتخاذ موقف
مناهض له أو الكشف عن رهاناته ومنطقه (أو لا منطقه)، بل حدث "توافق موضوعي"
أو "تواطؤ تاريخي" بين مختلف الأطراف والفواعل بحيث تمت "إعادة
إنتاج" مستمرة له بصيغ مختلفة، وإدراجه في مدارك ورهانات دينية وسياسية
واضحة، ومواجهات أو "مزاودات محاكاتية" مستمرة لـ "النموذج
الأصل"، وهو "إسلام النبوة"، بكل التطورات الميثية والمخيالية حوله.
يتسم الحديثُ عن "الحديثِ" بأهمية
كبيرة، ليس لأنه أحد أسس المنظومة الفقهية أو الإيديولوجية لـ"إنتاج"
العنف والتكفير لدى مختلف الجماعات الجهادية في المنطقة فحسب، وإنما لأن الجماعات
نفسها، بل البيئة نفسها، مسكونة بمدارك دينية غير بعيدة، بل وثيقة الصلة، بتلك
اللحظة التي أنتجت "الحديث"، أيضاً.
حراس
"الفرقة الناجية"
وتقوم خطابات وممارسات التكفير في العالم اليوم،
على منطق "الفرقة الناجية" أو "الفرقة المنصورة"، وأن صاحب الخطاب
يمثل، من منظوره، "الإسلام الصحيح" أو "الإسلام القويم"، وأن
ما عداه، ومن خرج عن أمره وطاعته هو في ضلال ووجب قتاله. وهذا لا يتعلق بالمذاهب
والجماعات غير المسلمة فحسب، وإنما بالمذاهب والفرق والطرق في إطار الإسلام أيضاً،
وحتى بين التنظيمات والجماعات التي تنطلق من الرؤية العقدية أو المذهبية نفسها،
وحيث أمكن وجود الدين في الصراع السياسي.
في الختام
يشكك كثيرون في صحة حديث "الفرقة الناجية"، لكن
الجميع تقريباً يعده صحيحاً. والمسألة ليست مسألةَ "حديث" أو
"لاهوت ديني" و"قواعد فقهية" فحسب، بل منظور وبنية ذهنية
إدراكية، تتجاوز المعطى الديني إلى الطبقات العميقة في الوعي واللاوعي. وتتصرف فواعل
السياسة والفكر والدين والاجتماع وغيرها، كما لو أن كلا منهم هو "الفرقة
الناجية". ويتحول "الحديث" إياه من "نص" أو
"خطاب" لغوي وبلاغي وفقهي، إلى نوع من ميتافيزيقيا اجتماعية وسياسية وجهادية/عنفية،
ثقيلة الوطأة، تخترق الظاهرة العربية والإسلامية كَسَهْمٍ من الماضي إلى الحاضر
وربما المستقبل.