أقدم تاريخ للفقه الإسلامي
أول من كتب عن بدايات الفقه الإسلامي ونشأته وتطوره بغية التأسيس لعلم تاريخ الفقه المستشرق الألماني إدوارد سخاو (ت: 1930) في بحثه عن (أقدم تاريخ للفقه الإسلامي)، الصادر في فيينا عام 1870، يليه المستشرق المجري جولد تسيهر (ت: 1921) في ثلاثة بحوث له: أهل الظاهر، العقيدة والشريعة في الإسلام، مادة فقه في دائرة المعارف الإسلامية، وألويس شبرنجر (ت:1893) في كتابه (مخطط تاريخ تطور الشرع الإسلامي)، ومارجليوث (ت: 1940) في كتابه (التطور المبكر للمحمدية) وجوزيف شاخت (ت: 1969) في محاضراته التي نشرها في مجلة المشرق عام 1935 حول (تاريخ الفقه الإسلامي).
أما عربياً، فكان محمد الحسن الحجوي الثعالبي هو أول من صنف في هذا العلم باللغة العربية، وذلك في كتابه (الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي) عام 1918، وتبعه الشيخ محمد الخضري بك في كتابه (تاريخ التشريع الإسلامي) الصادر في عام 1920، وتوالت بعدهما الكتابات ومنها: (خلاصة تاريخ التشريع الإسلامي) للشيخ عبد الوهاب خلاف (ت: 1956)، ومحاضرات في تاريخ الفقه الإسلامي لمحمد يوسف موسى (ت:1963)، والمدخل لدراسة الفقه الإسلامي لمحمد مصطفى شلبي (ت:1997)، وقد كثر التأليف فيه بين المعاصرين حتى بات تاريخ الفقه مادة تُدرس في كليات الشريعة والقانون وتدور مواضيعه حول التشريع في مرحلة ما قبل الإسلام، ثم التشريع في عصر الرسالة، ويتضمن أصول التشريع الإسلامي ومصادره وأساليبه. يليه التطور الفقهي والتشريعي في عهد الخلفاء الراشدين، ويتضمن طرائق الخلفاء في استنباط الأحكام الشرعية، ونماذج من اجتهاداتهم. يليه الفقه في عصر التابعين وبداية ظهور المذاهب الفقهية في الحجاز والعراق، وبداية تدوين السنة. ثم يليه الفقه في عصر ترسخ المذاهب الفقهية، ونشاط حركة التأليف الفقهي، وتبلور المنهجيات وظهور الاصطلاحات الفقهية. ثم أخيراً الفقه في العصر الحديث وضرورة استعادة الاجتهاد.
الكهانة في الإسلام
المعروف أن الرسول رفض الكهانة في الإسلام، ذلك أن الكهانة عند العرب الوثنيين كانت تعني المنجمين والعرافين وأصحاب الرمل ولم تكن تعني رجال الدين كما في المسيحية واليهودية؛ حيث يشكل الكاهن الوحدة الأساسية في المؤسسة الكهنوتية، ولم يكن الإسلام الأول بحاجة إلى مؤسسة كهنوت، فقد نشأ بسيطاً (على الفطرة) مبشراً بين الأميين، وكان غالبية مناهضيه في البداية من الكهان والمثقفين، وما زال الإسلام يحمل هذا الوسم حتى اليوم وسنفصل في ذلك لاحقاً...
لم يكن يحتاج الداخل في الإسلام خلال الحقبة المكية سوى أن ينطق بالشهادتين، وهي بمثابة عقد مع الله ورسوله، وبعد ذلك عليه أن يحفظ الفاتحة وبضع آيات من أجل تلاوة صلاته، وما يقوله الرسول من توجيهات لتحديد سلوكه وإدارة حياته، غير أن انتشار الإسلام وتوسعه في المكان وتمدده في الزمان ساهم في تشكيل كهنوته، منذ هجرة الرسول إلى المدينة وبناء مسجده الذي شكل النواة الأولى في التشريع والفقه، وتخرَّج فيها الصحابة وآل بيته الصالحين، الذين شكلوا نواة الدولة الإسلامية، وما زال تأثيرهم سارياً حتى اليوم في المحاكم الشرعية والخلافات المذهبية، وكل مسلم ملتزم طائره في عنقه حتى اليوم لا يستطيع منه فكاكاً...
الحاجة إلى مؤسسة كهنوتية
فمع دخول جيش المسلمين إلى سورية وبداية تأسيس الدولة الأموية، واجه المسلمون نظاماً مدنياً وسياسياً متفوقاً عليهم من حيث الثقافة والإدارة، وكان التشريع الروماني هو ما ينظم حياة المسيحيين في سورية، وقد احتاج المقاتلون والداخلون الجدد في الإسلام إلى تشريع وقضاء يميزهم عن غيرهم من (المشركين)، فتنطح المحدثون والرواة من الصحابة للمهمة فكانت إدارتهم سماعية غير مدونة وغير مكتملة وفيها الكثير من الارتجال في القضايا والأحداث المستجدة عليهم... ولأنه لم يكن يوجد في مكة أو المدينة مدرسة لتأهيل المختصين بالشؤون الدينية فقد اعتمد المسلمون على الحفظة والصحابة حتى لو كانوا أميين لا يقرؤون، ولا حرج في ذلك فالنبي الكريم ذاته كان أمياً... فكل من يروي حديثاً عن الرسول ويحفظ شيئاً من القرآن كان يستطيع أن ينضوي في الإكليروس الديني ويراكم محفوظاته بنقل ما قاله غيره، مع احتساب التغيير الذي يطرأ على ذاكرة البشر عبر تسلسل الرواة حيث تأثر الإسلام بسماتهم الشخصية والأخلاقية بينما كانوا يراكمون سمعتهم وشهرتهم بقربهم من الولاة والخلفاء ثم أضاف الزمن إليها هالة من القداسة حتى غدت منزلتهم في المجتمع أكثر أهمية من المقاتل والتاجر والفلاح والعامل ويكاد واحدهم يشارك السلطات السياسية سطوتها من حيث تأثيره على الجمهور، فقد كان كلاهما، رجل الدين والسياسي، يعيشان على جهد وإنتاج جمهور المسلمين ومن في ذمَّتهم بالطبع، وكان الكتاب المقدس أداة سيطرتهم، وشروحاتهم له وسيلة رزقهم ومصدر حظوتهم.. فقد تطورت منزلة (العاملين عليها) إلى مرتبة أئمة مجتهدين يهتدي الناس بعلمهم حتى أواخر الدولة الأموية منذ بدأ كهنوت المذاهب بالتشكل، إذ نشأ مذهب الإمام أبي حنيفة في العراق، والإمام مالك في المدينة...
كان دخول الجيوش الإسلامية إلى البلدان الجديدة منظماً يواكب فيه القرَّاء الجند، حيث واجهوا مسائل جديدة تحتاج إلى تشريع لم يكونوا يعرفونه في جزيرة العرب؛ فنظام الريِّ في مصر والعراق يُخالف نظام الري في الجزيرة، والمسائل المالية باتت معقدة ومختلفة عن الشؤون المالية بجزيرة العرب، وقضايا توطين الجيش وقوانين معاملة المغلوبين وعلاقة المسلمين بهم، وما يُؤخذ من الضرائب ممن أسلم وممن لم يسلم، وظهرت أشكال من الزواج لم يكن يعرفها العرب، وتفاصيل في طريقة التقاضي، لم يكن لهم بها عهد وجنايات لم يكن يرتكبها العرب في حياتهم البسيطة؛ ومثل ذلك في سائر الشؤون الداخلية والخارجية، حيث واجه المشرعون الأوائل أمراً عظيماً وقضايا معقدة لم ترد في آيات الكتاب والسنة، ومن هنا بدأت حاجة المسلمين إلى مؤسسة كهنوتية تدير شؤونهم، كون (علمائهم) يقولون بأن الإسلام دين ودنيا. وبالطبع فإن العالم بالشريعة الذي أصبح اسمه شيخاً هو من يفترض أن تعتمده مؤسسة الكهنوت.
الشيخ من القبيلة إلى الدين
فبعدما كانت كلمة الشيخ تطلق على رئيس القبيلة أو الجماعة، إلا أنها استخدمت كصفة دينية أواخر القرن الرابع للهجرة في خراسان، ثم أصبحت منصباً رسمياً على يد السلطان العثماني محمد الفاتح في منتصف القرن الخامس عشر ميلادي، وغدت مشيخة الإسلام مؤسسة إدارية وقانونية مهمتها إرساء المنطلقات النظرية للسياسة السلطانية عبر فتاويها واجتهاداتها في عهد السلطان سليمان القانوني. ونحن اليوم ورثنا نسخة الكهنوت العثماني دونما تغيير كما هو واضح في المحاكم الشرعية وقانون الأحوال الشخصية والمحاكم المذهبية..
غير أن الشيخ عموماً هو مجرد حافظة تنمو وتتوسع بالسماع أكثر من التفكير والاجتهاد، لذلك تم وسمهم بعد مرور قرنين بجماعة النقل في مقابل الفلاسفة الذين تأثروا بثقافات البلدان المفتوحة ووُسِموا بأهل العقل.. فمع تواتر السماع والحاجة إلى شرح معاني القرآن المدون بلهجة قريش المكية وإعادة صياغتها بلهجة أهل الشام والعراق ومصر والمغرب وثقافاتهم المتنوعة، توسع منهاج (العاملين عليها)، وبدأت مهنة الكاهن تتوضح وتأخذ مكانتها في الدولة والمجتمع، وباتوا يستخدمون الكتاب للتدخل في تفاصيل حياة العبد المؤمن، بما فيه التداوي والتنجيم، بادعاء أنها من العلوم الإلهية التي لا يعلمها إلا الخاصة ممن أطلق عليهم صفة العلماء، الذين توسعوا كثيرا بالشرح والتفقه وإصدار آلاف الكتب والنشرات، حتى بات حجم الدين أكبر من استيعاب المسلم واحتياجاته وبات بحاجة إلى ملقن ومترجم مختص يشرح ويفتي له فيما لا يعلمه من المعارف الدينية المتراكمة في الزمن، وبات المسلم الملتزم غير قادر على التفكير اللاهوتي بعقله الحر وغدا مرتبطاً بوسيط رباني هو شيخه الذي يسلمه أمره ويستفتيه بكل شؤون حياته، فيبين له الكاهن الشيخ ما ينهاه عنه الرب وما يبيحه له، وهو بالعموم سوف يكون رباً متناسقاً مع المذهب السُّني إذا كان الوسيط سنياً، ومع الرب الشيعي إذا كان الشيخ من الشيعة، وكذا هو مع كهنوت الطوائف الباقية المختلفة حول الشرح والتأويل والتفسير، والتكفير أيضاً لمن يخالفهم الرأي، وغالبا ما تتوحد كلمتهم على اختلاف مذاهبهم ضد المجتهد إن كان علمانيا، فحرية الرأي ممنوعة وتوصم بالزندقة عند أرباب المذاهب، وبالتالي فإن دور الشيخ في المؤسسة الدينية الإسلامية اليوم لا يختلف كثيراً عن دور القس والبطرك في المؤسسة المسيحية سابقا، بعدما غدت المؤسسات المذهبية تحكم حياة المسلم في الدنيا والآخرة، بل ويمكنها أن تنفيه أو تحذفه من الحياة في حال خروجه عن دين آبائه! فمع ازدياد سطوة المؤسسة الدينية عبر القرون المتعاقبة بات الفرد المسلم مملوكاً لها، حيث يصنف كافراً أو مرتداً في حال خروجه عنها، وهو مؤمن بقدر ما يخدمها ويتبرع لها... إذاً، يمكننا القول أنه لا دين بلا كهنوت وأن المؤسسة الدينية الإسلامية، مثل أختها المسيحية، باتت تعمل كوسيط بين المؤمن وربه وتقول له ما يريده وما لا يريده الرب منه.
استقطاب الشيوخ
فلطالما عملت السلطات على استقطاب الوسطاء الإلهيين، وتنظيم خدمتهم عبر مؤسسات تابعة لها، وبالتالي فقد تم إلحاق الديني بالسياسي وبات من الطبيعي أن تضع السلطات المشتركة مقياساً دنيوياً لسلوك العباد حيث تعلمهم شؤون الدنيا قبل الدين (انقلاب مؤسسة الأزهر الفاطمية 180 درجة بعدما صارت أيوبية)!؟ وما زالت في خدمة الحاكم بينما الحاكم لا يتدخل في مسألة تحديثها بما يواكب العصر ما دام أنها تدعو وتستنجد ربها لنصرته ومؤازرته في الدعاء والاستمطار والإشراف على المناهج المدرسية بحيث لا يخالف العلم أساطير الأولين!