التخلف المحض! هل لدى العرب نمط خاص من التخلف؟ | د. عقيل سعيد محفوض

التخلف المحض
التخلف المحض

يشهد العربُ أحوالاً مُلغزة بالفعل، فهم من أكثر المجتمعات أو الأمم شعوراً بالتفوق وامتلاك المعنى والقوة، تاريخياً وحضارياً ورمزياً، وفي القلب من ذلك دينياً؛ ومن أكثرها افتقاراً للمعنى والقوة، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وتنموياً. تناقض عميق يولد حالات انفعالية شبه جماعية ودرجات متفاوتة من الإحباط والانكسار أمام أنفسهم، وأمام العالم.


مفارقات!

والمفارقة أن كل مشروعات النهوض والتنمية لدى العرب باءت بالفشل تقريباً. وحققوا تقدماً في مؤشرات الفقر والعنف والهجرة، إلخ، وليس مؤشرات الحقوق والحريات والتنمية والمشاركة، إلخ، وهم ليسوا سواء. والمفارقة أيضاً أن العرب يمتلكون موارد كبيرة، مقارنة بغيرهم من المجتمعات والأمم حول العالم، إلا أن مؤشرات الحياة في انخفاض كبير ومؤسف، ليس في الجوانب الرمزية والقيمية والإنسانية فحسب، وإنما في الجوانب المادية، وحتى متطلبات مجرد الوجود بالحياة أو "الحياة العارية"، بتعبير معروف لـ جورجيو أغامبين. ويعيش كثير منهم تحت السلطة السيئة لـ"هرم ماسلو" المعروف.

حالة خاصة من التخلف

ربما يعاني العرب من حالة خاصة جداً من التخلف. وتتفاوت التقديرات والمحاولات الرامية لتفسير وتحليل هذا الحال. وبالطبع فإن الحديث عن تخلف لا يحيل إلى قيم أو أحوال جوهرية لديهم. والتخلف لا يشمل بالتمام كل الوجود العربي، أفراداً مجتمعات، ولو أن الظاهرة العربية تكاد تستوفي كل المعاني القائمة والممكنة لمعنى التخلف أو أكثرها، وبدرجة تميز عالية الخصوصية. وان نظرة واحدة على أحوال العرب اليوم كفيلة ببيان ذلك.

اختلال وغياب

قد لا يعود التخلف إلى نقص في الموارد والإمكانات المادية، وحتى الموارد والإمكانات الرمزية على مستوى المجتمعات والدول أو على مستوى الظاهرة العربية ككل، وإنما إلى: (ويتعلق الأـمر بـ):

o  الاختلال في الأفكار. والافتقار للدينامية اللازمة للقراءة والتقدير والاستجابة.

o  غياب الرؤية والمنظور للواقع ومشكلاته واختناقاته.

o  عدم الانتظام او الاضطراب والأزمات. والصعوبات في الوقائع والأحوال.

o  غياب الرغبة في تغيير الواقع وتحسين شروط ومتطلبات ومؤشرات الحياة.

o  الافتقار للقدرة على الفعل أي القدرة على القيام بما يلزم للقراءة وإجراء ما يلزم حيال الواقع.

o  الافتقار للهمة من أجل المتابعة كل ذلك، إذ إن التنمية وتحسين الحياة هي عملية مستمرة وهي تحت اختبار دائم.

 الحلقات المفقودة!

تستطيع المجتمعات أن تعوض "الحلقات المفقودة" المطلوبة لاكتمال سلسلة التنمية، فإذا كان نقص في الموارد المادية، يمكنها أن تُعوضه بالاستيراد مثلاً. وإذا كان نقص في الموارد الرمزية، يمكنها أن تعوضه بنقل التجارب ونقل وتوطين التكنولوجيا، وبناء رأسمال بشري. وإذا كان نقص أو اختلال في الإدارة والسياسات، فإن ديناميات السياسة وصناديق الاقتراع كفيلة بفرز وتصعيد نخب جديدة لديها برامج جديدة أو مقاربات مختلفة لتجاوز الأزمات ومتابعة التطلعات.

ثمة مجتمعات أو بلدان لديها الموارد المادية والبشرية اللازمة، ومنها عدد من المجتمعات والدول العربية، لكنها تفتقر للإرادة والسياسات والحكم الرشيد، فتبقى على حالها من تأخر أو تخلف، ومنها ما يكون درج سابقاً في مسار التقدم والتنمية، إلا أن سوء السياسات والاستجابات يجعلها في تراجع أو تأخر. ومنها من يحاول تدبر أحواله وأزماته. ومنها ما هو غارق فيها.

نكوص وارتكاس

يمكن الحديث عن نوع من "التخلف المحض" أو "التخلف الخالص"، وهو "ليس ضعف جهود التنمية"(خلدون النقيب، فقه التخلف، ص 9) أو إخفاقها فحسب، بل يعود إلى "تأخر" مقيم أو "نكوص" متكرر لجهود التنمية أيضاً. ليس لعوامل الهيمنة من الخارج فحسب، وهذا أمر لا ينبغي التغافل عنه، كما لا ينبغي المبالغة فيه، وإنما لعوامل الهيمنة والاستبداد والفساد وسوء الإدارة، في الداخل، أيضاً، وربما قبلاً.

الصحيح أن النكوص أعمق من ذلك بكثير، حتى ليبدو التخلف في مؤشرات التنمية هو ظاهر الأمر أو حصيلته، وأما العمق فهو تخلف الفكر والثقافة، وبالطبع السياسة والاجتماع وغيرهما أو ارتكاسهما إلى الماضي، أو اكتساحهما من قبل تدفقات عولمية بالغة السيولة والقوة.

وتجد في حالات التخلف تداخلاً كبيراً بين قيم الماضي وقيم الحاضر، القيم والتوجهات الأكثر حداثة والأكثر تقليدية في آن معاً. ويحدث أن تجد حداثة في أنماط الاستهلاك وبيئة الحياة والسكن والتعليم والخدمات، إلخ، إلا أن ذلك لا يعدو أن يكون قشرة رقيقة على عدّة صُعد:

o  أنماط القيم الحداثية، وحتى أنماط العمل والإنتاج.

o  ودينامية الحياة والتفاعلات الاجتماعية والموقف من الأنا والآخر.

o  والتعدد والاختلاف.

o  ومراقبة جودة الحياة. والحقوق والحريات.

وعادة ما يظهر ذلك النمط الخاص من التخلف بصور واضحة في حالات الأزمة والصراع.

ثقافة التخلف

يمكن الحديث هنا عن "ثقافة التخلف"، وهو ليس فقط "تخلف الثقافة". الثقافة التي تنتج التخلف، الثقافة التي تبرر وتعزز وتعيد إنتاج التخلف. وهي بقدر ما تنتج المجتمع، بقدر إنها نتاج أوضاعه هو نفسه. التخلف ينتج ثقافته، والثقافة تنتج التخلف أيضاً. غير أن سطح الحياة أو سطح المجتمعات، وحتى بعض الديناميات الأكثر عمقاً، تضم أنماطاً مختلفة من القيم والتفاعلات الثقافية والحداثية والعولمية، إن أمكن التعبير.

إن ثقافة العمل والإنتاج، والانضباط والانتظام، والقانون، التعدد وقبول الاختلاف، والتسامح؛ وجودها أو غيابها، أو طبيعة ذلك الوجود أو الغياب؛ هي: عوامل إنتاج للقيم، ومحددات للنظر والفعل والتفاعل الاجتماعي والاقتصادي والثقافي، وبالطبع، السياسي. وإن نظرة إلى حالة الغياب، وهي ليست محض غياب بل وجود متفاوت، تُظهر ما ندعوه "التخلف المحض" أو "الخالص" في الظاهرة العربية، ليتمثل ذلك في:

o  الغياب أو الافتقار لثقافة العمل والإنتاج أمام قوة أو غلبة ثقافة الريع والاستهلاك.

o  الافتقار للانضباط والانتظام.

o  غياب أو ضعف سلطة وحاكمية القانون.

o  الافتقار لقيم التعدد وقبول الاختلاف.

o  وبالطبع، غياب أو ضعف المشاركة في السياسات والشأن العام وغيرها.

ادعاء، وتمظهر، وتهديد

إن ادعاء وجود قيم وأنماط فعل وتفاعل في المجتمعات، وادعاء أو مظهرة قيم حداثية هو أحد محددات ثقافة التخلف. وإذ تجد في المجتمعات العربية ادعاءات الحداثة والعلمنة والتطور والتعدد على سطح المشهد، إلا أن البنى العميقة هي خلاف ذلك، وقد تكون على النقيض منه. هذا نمط من التخلف العميق أو المُعَنِّد، الذي يواصل "ادعاء" أو "تمثيل" التقدم أو التنمية والمشاركة.

لكن يحدث أن تجد أنماط قيم متأخرة أو متخلفة بالفعل، ليست تلقائية أو جوهرية، إنما تبدو كذلك، بتأثير عوامل اجتماعية وقيمية عديدة. ثمة مجتمعات أو مناطق أو شرائح اجتماعية تعد الانفتاح أو الحداثة أو التحديث نوعاً من التهديد لهويتها ووجودها، فتتبنى أشكال مواجهة واحتواء متعددة الأنماط، وقد يتخذ بعضها طابعاً سياسياً أو حركياً.

سؤال التخلف، سؤال الحداثة

مَثَّلَ سؤال التخلف أحد أسئلة النهضة، المقصود هو البحث في الأسباب، والعوامل وديناميات إنتاج التخلف وإعادة إنتاجه، وحراسته، وربما الافتخار أو الاعتزاز به، على ما يقول بطل مسرحية "غربة" للكاتب الراحل محمد الماغوط.

إن العرب، خلال محاولة الإجابة على "سؤال الحداثة"، أو بالأحرى "سؤال التخلف" عن مسيرة الأمم، ومحاولة "تجسير الفجوة" مع العالم المتقدم، لم يتوافقوا على فهم ما هم فيه، ولا على أنماط الاستجابة له. ولم يحسنوا الاندراج الفعال في العالم. الواقع أن بعض المحاولات والتطبيقات جعلتهم "يعاكسون" العالم أو يسيرون "عكس التاريخ"، إنما "من خارجه"، إن أمكن التعبير. ويذهبون إلى الماضي للاحتماء به أو البحث فيه عن حلول لمشكلاتهم أو إجابات على أسئلة وجودهم في العالم اليوم.

التخلف بهذا المعنى، ينتج عن أنماط الإجابة او الاستجابة على أسئلة الوجود والعالم اليوم، وأسئلة المعنى والقوة في العالم، وهو ظاهرة تاريخية، لها جذور عميقة، في مستويات:

o  وضع العرب الهامشي والطرفي في العالم. والصراع داخل المجال العربي، بين دوله، وداخل المجتمعات والدول نفسها. العرب ليسوا كتلة واحدة، ولا إيقاعاً أو تشكلاً واحداً بالتمام.

o  إخفاق العرب في الاستجابة لمتطلبات وجودهم بين الأمم، وهو اخفاق متفاوت، فيما بينهم، كما أنه متفاوت خلال التاريخ، إذ إنهم لم يكونوا سواء. ثمة من كان قوياً وصار ضعيفاً، وثمة العكس.

في الختام، من المؤسف أن بعض إجابات العرب اليوم على واقع التخلف، يُعَدُّ الأكثر سلبية والأكثر هروباً إلى الماضي، بكل ما في ذلك من أوهام ومخيالية ونكوص وانعزال وانقطاع عن حركية التاريخ ومقتضى الوجود الحر والفعال في العالم. ولا يخفى أن جانباً مما هم فيه، هو أيضاً أحد نتائج طبيعة وجودهم في العالم. وجانب منه يعود على ديناميات الهيمنة والاختراق، وديناميات الهندسة الاجتماعية عولمية التأثر والتأثير. العرب اليوم هم نتاج نظام الهيمنة العالمي والوضع الطرفي في موازين المعنى والقوة في العالم. ولا شك أن العرب ليسوا مجرد متلق سلبي، بل إن لهم دور رئيس فيما هم فيه.