موقفه من الرِّواية التَّوراتيَّة
ادَّعى فينكلشتاين أنَّه لم يُعوِّل على أيِّ مُنطلقات دينيَّة في إثبات موثوقيّة أحداث التَّوراة بوجهٍ عامٍّ، لأنَّه يعرف أنَّ ذلك لن يجديه فتيلًا في الأوساط العلميَّة العالميَّة من أجل الوصول إلى مقاصده الحقيقيّة. كما زعم أنَّه لم يبنِ تاريخيَّة الرواية التَّوراتيَّة على أيّ حقائق أركيولوجيّة مُخْتَلَقَة أو مُفتعَلة بسبب علمه المسبق بتهافت أيِّ محاولة من هذا القبيل، إذ لا توجد -كما هو مُثبت وتبعًا لاعترافه- أدلة تاريخيَّة لأحداث أو شخصيات فرديَّة كثيرة وردت في التوراة مثل قصص عصر الآباء (إبراهيم وإسحاق ويعقوب)، وشقّ النبي موسى بعصاه للبحر الأحمر، ونفخ الأبواق التي أسقطت أسوار أريحا، وانتصار داود على جالوت برمية حجر واحد من مقلاعه. هذه القصص كلّها -كما ارتأى- نتيجة رائعة لخيال الإنسان.
تستمدّ ما يُسمّيها فينكلشتاين "الملحمة التوراتية" قوتَها، وفق رأيه، من حقيقة أنَّها تعبير عميق منطقيّ عن مواضيع خالدة مثل تحرير "الشَّعب اليهوديّ" ومقاومته المستمرة للقمع وسعيه لتحقيق المساواة الاجتماعية. إنها تبعًا لمنظوره ملحمة تُفصِح ببلاغة عن شعور عميق الجذور بالأصول المشتركة والتجارب الجماعيَّة والمصير المشترك الذي يحتاجه كل مجتمع بشري للبقاء.
تبنَّى فينكلشتاين وجهة نظر مفادها أنَّه تَمَّت كتابة الرواية التَّوراتيّة في حقبة زمنيَّة استغرقت عمل جيلين أو ثلاثة أجيال من المؤلِّفين منذ نحو 2600 عام. وكان موطنها الأصلي ليس مملكة إسرائيل الشَّماليَّة بل مملكة يهوذا الجنوبيَّة، وهي منطقة ذات كثافة سكانيَّة قليلة تتألَّف في معظمها من الرُّعاة والفلاحين، وكانت تُحكم من مدينة مَلَكِيَّة نائية تقع على تلة ضيقة وسط هاويات صخرية شديدة الانحدار في وسط البلاد الجبليّة، واسم هذه المدينة هو جبعون التي تُعَدّ وفق رؤيته نواة مملكة إسرائيل المتَّحدة.
منهجه الأركيولوجيّ في اكتشاف جبعون
سعى فينكلشتاين على أساس عمليات التَّنقيب التي قام بها إلى اكتشاف عاصمة هذه المملكة المتَّحدة، وركَّز اهتمامه في مسوحاته على المرتفعات الوسطى بين مرج ابن عامر ووادي بئر السبع، وكشفت هذه المسوحات -وفق أبحاثه- وخاصة تلك التي أجريت في ثمانينيات القرن المنصرم، عن موجة هائلة من الاستيطان عَمَّت هذه المناطق في العصر الحديديّ الأوَّل. وعَثَرَ على أدلة أركيولوجيّة تثبت أنَّ الكثافة السُّكانية كانت في الجزء الشَّمالي من هذه المنطقة، بين "أورشليم" المزعومة ومرج ابن عامر. وقد تكون عمليَّة الاستيطان وفق فينكلشتاين قد بدأت في المرحلة الأخيرة من العصر البرونزيّ المتأخِّر (=أواخر القرن الثالث عشر أو أوائل القرن الثاني عشر قبل الميلاد)، وتسارعت في أوائل العصر الحديدي (=أواخر القرن الثاني عشر إلى منتصف القرن الحادي عشر قبل الميلاد)، وبلغت ذروتها في أواخر العصر الحديدي الأول (=أواخر القرن الحادي عشر والنصف الأول من القرن العاشر قبل الميلاد). وفي أواخر العصر الحديدي الأول، كان هناك نحو 250 موقعًا في هذه المنطقة (مقارنة بنحو 30 موقعًا في العصر البرونزي المتأخر)، بمساحة إجمالية للمناطق المُعَمَّرة يمكن تقديرها بنحو 220 هكتارًا (نحو 50 هكتارًا في العصر البرونزي المتأخر)، علمًا بأنَّ الهكتار يعادل 10000 متر مربع.
استخدم فينكلشتاين مُعامل الكثافة السُّكانيَّة المتوسطة وتوصَّل إلى أنَّ كلّ 200 شخص يعيشون في هكتار واحد، وقدَّرَ عدد سكان أواخر العصر الحديدي الأول بنحو 45000 شخص. وحدّد هؤلاء الأشخاص على أنَّهم من السُّكان الأصليين في جنوب بلاد الشام، ويتألفون من مجموعات مستقرة وما قبل رعوية، لأنَّ الحياة الريفيّة الرعويّة في رأيه لاحقة لحياة الاستقرار. واستمرَّت موجة الاستيطان في العصر الحديديّ الأول دون انقطاع إلى العصر الحديديّ الثَّاني أ (ترمز "أ" هنا إلى المرحلة الفرعيّة الأولى من العصر الحديديّ الثانيّ) عندما شكَّلَ سُكَّان المرتفعات جزءًا من مملكتي يهوذا وإسرائيل بعد انقسام المملكة المتَّحدة. وهذا يجعل ممكنًا -تَبْعًا لرؤيته- وصف سُكَّان العصر الحديديّ الأوَّل في المرتفعات بأنَّهم "إسرائيليون".
هذا، ووفقًا لتحليلات فينكلشتاين التي يريد منها الإيهام بأنَّه موضوعيّ في منهجه الأركيولوجيّ أكَّدَ أنَّ غالبيَّة مواقع العصر الحديديّ الأوَّل في المرتفعات كانت مُستوطنات صغيرة معزولة وتتوزَّع أي مستوطنة منها على مساحة تصل إلى هكتار واحد، ولم تكن مُحَصَّنة، وعادة لا تكشف عن أيِّ علامات على وجود هندسة معمارية ذات طابع مخصوص، ولا يوجد إثبات لوجود تسلسل هرميّ للمستوطنات أو تجارة طويلة المدى. ولا يمكن تمييز أيِّ موقع على أنَّه مستوطنة مركزيَّة أي مقرّ مجموعة حاكمة. ولكن يخرج فينكلشتاين بعد تقديمه لكلّ هذه الأدلة باستثناء واحد يكفي لتحقيق غايته التي هي إيجاد نواة سياسية وعسكرية للمملكة المتحدة وهذا الاستثناء هو وجود مجموعة من المواقع تقع في هضبة جبعون-بيت إيل شمال "أورشليم" المزعومة.
تقدِّم هذه المواقع في هضبة جبعون-بيت إيل وفق كلامه دليلاً على البناء العامّ للتحصينات في أواخر العصر الحديديّ الأول/أوائل العصر الحديديّ الثاني أ. وعبَّر فينكلشتاين عن دهشته من كون هذه المنطقة تتميّز بنظام كثيف من التحصينات على منطقة صغيرة المساحة. ورَجَّحَ بناءً على دراساته أنَّ جبعون إمَّا تمَّ التخلّي عنها وأعيد توطينها فقط في أواخر العصر الحديدي الثَّاني أو تقلصت بشكل كبير في الحجم في العصر الحديدي الثاني نفسه.
لكن يبقى سؤال مهم جدًا وهو كيف استطاع فينكلشتاين تحديد هويّة سكان هذه المرتفعات تحديدًا مدينة جبعون بصفتهم من الإسرائيليين؟
نظريته عن عظام الخنازير
ينبغي الانتباه هنا إلى أنَّ فينكلشتاين عَدَّ الإسرائيليين سكانًا أصليين في جنوب بلاد الشَّام على أساس أنَّ الخروج من مصر كان قصة من نسج خيال مؤلِّفي التَّوراة، ودعم رأيه في تحديد هُويتهم بصفتهم سُكانًا أصليين بتأكيده أنَّ المناطق التي سكنها هؤلاء الإسرائيليون كانت خالية -وفق ما كشفته التنقيبات- من عظام الخنازير منذ مطلع العصر الحديديّ على عكس المناطق الفلسطينيّة التي كانت توجد فيها نسبة عالية من عظام الخنازير، وهذا يدلّ أنثروبولوجيًّا -وفق تخرُّصاته- على أنَّ إسرائيليي العصر الحديديّ طبقوا شريعتهم التي تنصّ على تحريم لحم الخنزير؛ لكنَّ فلسطينيي العصر الحديدي كانوا وثنيين ولذلك لم يكن لحم الخنزير محرَّمًا عندهم. والحقيقة أنَّ هذا الاستنتاجَ مبنيٌّ على أصولٍ لاهوتيَّة مثيرةٍ للسخريّة، ويمكن دحضه ببساطة، إذ إنَّ الفينيقيين كانوا يحرِّمون أكل لحم الخنزير كما ذكر الفيلسوف الفينيقيّ الأصل فرفوريوس الصُّوريّ (234-305 م) في كتابه "الامتناع عن أكل اللحوم"، ولا شك في أنَّ وجود الفينيقيين المهاجرين من جنوب شبه الجزيرة العربيَّة إلى فلسطين هو الوجود التَّاريخيّ الحقيقيّ وليس لليهود -الذين يزعمون أنهم من بني إسرائيل- أي وجود مُثبَت آنذاك. ومهما يكن من شيء انتهى فينكلشتاين من هذا الاستنتاج المتهافت إلى أنَّ المناطق الخالية من عظام الخنازير لا بدّ من أن تكون إسرائيليّة، وارتأى أنَّ أهم هذه المناطق مدينة جبعون.
خلل منهجيّ
لكن تظهر هنا إشكالية عالية التعقيد، لكنها تكشف على نحو واضح جدًا خلل منهجيّة فينكلشتاين، فإذا كان فينكلشتاين قد توصَّل إلى أنَّ جبعون هي عاصمة المملكة المتَّحدة المزعومة، فمن أين سيأتي بأحداث تاريخيّة ليُلفقها على نحو تنطبق فيه على هذه المملكة عينها؟ ويُعدّ مسلّمًا به أنّه لا يوجد أي دليل أركيولوجي –ماديّ عن وجود مملكة من هذا القبيل في فلسطين، فما كان منه إلا أن عَطَفَ نظريّته عن عظام الخنازير على نصوص استنسبها من الكتاب المقدّس العبريّ.
أكَّدَ فينكلشتاين هنا أنَّ شاول شخصيَّة تاريخيَّة حقيقيَّة، وكان ملكًا فعلًا، ويرجع تاريخه بشكل دقيق إلى أوائل القرن العاشر قبل الميلاد. امتد حكم شاول الفعلي من جبعون عبر السَّامرة حتى وادي يزرعيل في الشَّمال. وبالتالي كانت هناك مملكة يحكمها شاول في القرن العاشر قبل الميلاد تضم كلًّا من يهوذا والسَّامرة، وتُحكم من عاصمة يهوذا (=جبعون)، أي تضم أجزاء رئيسة من مملكة إسرائيل الشَّماليّة. لكن من أين أتى فينكلشتاين بهذه المعلومات التي عدَّها موثوقة عن وجود مدينة اسمها جبعون وكون شاول ملكًا كان موجودًا فعلًا في هذه المدينة؟
يتضح تمامًا أنَّ فينكلشتاين لا ينطلق من إثباتات تاريخيَّة فيما يتعلَّق بوجود شاول بقدْر ما ينطلق من نصّ التَّناخ الذي يتألَّف من ثلاثة أقسام هي: التَّوراة (=أسفار موسى الخمسة) والأنبياء والمكتوبات. ولئن كان قد عَدَّ التَّوراة من نسج الخيال إلا أنَّه بخصوص وجود شاول قَبِلَ أسفارًا من قسم الأنبياء من التَّناخ بصفتها نصوصًا تاريخيّة تعبِّر عن واقع حقيقيّ تدعمه أدلته الأركيولوجيَّة المزعومة؛ لذلك عَوَّلَ على ما ورد في سِفْر صموئيل الأوَّل من قسم الأنبياء من أنَّ النبيّ صموئيل مَسَحَ شاول بصفته ملكًا بوحيٍ إلهيّ: "غَدًا فِي مِثْلِ الآنَ أُرْسِلُ إِلَيْكَ رَجُلًا مِنْ أَرْضِ بَنْيَامِينَ، فَامْسَحْهُ رَئِيسًا لِشَعْبِي إِسْرَائِيلَ، فَيُخَلِّصَ شَعْبِي مِنْ يَدِ الْفِلِسْطِينِيِّينَ، لأَنِّي نَظَرْتُ إِلَى شَعْبِي لأَنَّ صُرَاخَهُمْ قَدْ جَاءَ إِلَيَّ. فَلَمَّا رَأَى صَمُوئِيلُ شَاوُلَ أَجَابَهُ الرَّبُّ: هُوَذَا الرَّجُلُ الَّذِي كَلَّمْتُكَ عَنْهُ. هذَا يَضْبِطُ شَعْبِي." (صموئيل الأول 9: 16-17). وهنا يظهر بجلاء أنَّ فينكلشتاين جعل شاول ملكًا انطلاقًا من هذا النصّ وليس من دلائل تاريخيّة فعليّة، ثم ربط شاول بجبعون من المنطلق نفسه استنادًل إلى عبارات من قبيل: "وَالْجِبْعُونِيُّونَ لَيْسُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَلْ مِنْ بَقَايَا الأَمُورِيِّينَ، وَقَدْ حَلَفَ لَهُمْ بَنُو إِسْرَائِيلَ، وَطَلَبَ شَاوُلُ أَنْ يَقْتُلَهُمْ لأَجْلِ غَيْرَتِهِ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَيَهُوذَا." (صموئيل الثَّاني 21: 2) وبذا يكون فينكلشتاين قد حقق غاية مزدوجة وهي: توكيد وجود مملكة متَّحدة تُعدّ النَّواة التَّاريخيَّة لـ"دولة إسرائيل" الحالية، هذا من ناحية؛ ومن ناحية أخرى يكون أثبت أنَّ هناك نصوصًا تاريخيّة حقيقيّة في التَّناخ يجب الأخذ بها!
إذن، انبثقَ النِّظام السياسيّ لإسرائيل التَّاريخيّة وفق مزاعم فينكلشتاين مع شاول في مدينة جبعون القديمة ومعه بدأ تكوين "المملكة المتَّحدة" في الكتاب المقدَّس العِبْري؛ لكن ما يجب الانتباه إليه أنَّ هذه المملكة المتَّحدة تأسست حتى قبل زمن داود وسليمان. ويقتضي هذا التَّحليل أنَّ مملكة إسرائيل الشَّمالية كانت تطوُّرًا متأخِّرًا، مستقلاً عن يهوذا التي تمثّل في رأيه أصل المملكة المتَّحدة، وبالتالي تصبح مملكة إسرائيل الشَّماليّة هي المنشقَّة عن المملكة المتَّحدة، وليس العكس كما هو دارج بين كثير من المؤرِّخين. ولم يتردد فينكلشتاين في تنصيب داود بعد شاول ملكًا على هذه المملكة المتّحدة، لكنه يتحاذق بتصريحه بأنَّه لا يمكن أن يُعْرَف على وجه اليقين ما إذا كان داود قد حكم بعد شاول أو ما إذا كان هناك تداخل بين مملكتيهما.
ولا يسعنا إلا أن نعبِّر عن الشُّعور بالحزن العميق من تصديق هذه التُّرهات في الأوساط الأكاديميّة العالميّة حتى المتخصِّصة منها على نحو يحوّلها إلى حقائق لا يمكن المساس بها، لكن الأدهى من ذلك أن يُطرح فكر فينكلشتاين في بعض الأوساط الثقافيّة العربيّة بصفته مرجعًا مُعتمدًا ضدّ الصهيونيّة.