موسويّة فيلون السَّكندريّ بإزاء اليهوديّة الحاخاميّة | د. ناريمان عامر

فيلون السكندري
فيلون السكندري

يُطالعنا الفكر العربي المعاصر بدراساتٍ فذّةٍ تطال السَّرديات اللاهوتيّة-الاستشراقيّة الحاكمة للواقع الاجتماعيّ-السياسيّ المعاصر، ويتأرجح الموقفُ المعرفيُّ المُضْمَر والمُعلن في هذه الدِّراسات بين نقد للتَّاريخ مفاده أنَّ التَّزوير العميق طال مراحله في محطاتٍ مفصليّةٍ منها وبين نقدٍ للجغرافيا التي حُدِّدت وفق هذا التَّاريخ، على اعتبار أنَّ هذا التزوير أسقط مروياتٍ وأحداثًا تاريخيَّةً مستمدّة من جغرافيا مُعيّنة على جغرافيا أخرى مُغايرة. ولما كانت نتائج مثل هذه الدّراسات تقويضًا للمقدّس الدِّينيّ والسياسيّ على حدٍ سواء كان لابُدَّ من تقصيّ النتائج تلك وفق المُتاح لنا من أدواتٍ معرفيةٍ، نظراً لما قد يتأتّى من تغييراتٍ جذرية إذا ما هُيّئت التربة المناسبة لتبنيها. لذلك تُعَدُّ العودة لنصوص فيلون بوصفها المحطة الأولى من محطات التواشج الفلسفي والديني أمر حاسم للإضاءة على بوح مُحايد يفصح بتلقائية عن الحوامل التاريخية والجغرافية للفكر.


 اللوغوس والأسفار المنسوبة إلى النبي موسى

تُشير تواريخ الفلسفة إلى فيلون السكندري (20 ق.م -50 م) بوصفه أوَّل من مازج بين اللوغوس بمعناه الفلسفي والأسفار التي ينسبها الكهنة والحاخامات إلى النبيّ موسى، بل يُعدُّ رائد الحركة الفلسفية التي حاولت التوفيق بين الدّين والفلسفة. كما أنَّ الشَّائع عن فيلون أنَّه فيلسوفٌ يونانيٌ يهودي وفَّقَ بين الدّين (اليهودي) والفلسفة اليونانية، وكان التأويل درَّة تاج منهجه، استخدمه كأداةٍ نُقِلت عبرها الفلسفة (اليونانية) بحمولتها العقلية لتكون ركناً أساسًا في تفسير أسفار التَّوراة!

لكن يتضح بعد التأمُّل العميق أنَّ تلك الفلسفة التوفيقيّة التأويليّة التي تُنسَب إلى فيلون تحتاج إلى إعادة نظر في صدقيتها، بدءاً من التساؤل عن فيلون نفسه، إذ كيف يقال عنه إنَّه يهودي وقد خلت مؤلفاته من ذكر هذه الصفة العرقيّةِ-الدينيّةِ بالتحديد؟ وكيف يتمُّ في الوقت نفسه وصف شخصٍ ثبت أنَّه مواطن مصريّ من الإسكندرية بأنّه يونانيّ؟

 
أُصول فيلون

عاش فيلون كما هو متداول بين المؤرِّخين في الإسكندريّة، وقد أطلق فيلون على أفراد مجتمعه اسم [Ioudaios) [ουδαος) (يودايوس باللفظ الهيليني القديم)، وهذا ما تمَّ نقله وترجمته إلى اللغات الأخرى -ومنها العربيَّة- باليهود، وقد انتبه الكتّاب (اليهود) المعاصرون إلى هذا وناقشوا هذه القضيّة وفق منظوراتهم الخاصَّة؛ فمنهم من ارتأى -مثل دانكر (Danker)- أنَّ الأمر ليس مجرد خلاف لغوي، وإنما يشير إلى طمس هُوية وطنية مصريّة لهؤلاء الـ(يودايوس)، بينما وجد آخرون -مثل ليفين (Levine)- أنَّ ترجمة هذه الكلمة بـ(اليودايوس) تضعف من تيار معاداة السَّاميّة، ذلك أنَّها قد تحيل إلى ترجمة أسماء أخرى لتجمُّعات اليهود في مناطق مختلفة من العالم على نحو يكرّس هُويتهم الوطنيّة في تلك المناطق، ويقوِّض أسطورة الشَّتات والعرق اليهوديّ وأرض ميعاده، وبالتالي لا يبقى أي مسوّغ لمعاداة السَّاميَّة. هذا بالنسبة إلى تسمية الجّماعة، إلا أن شيئاً أخر صادماً يتبدى هنا؛ حيث يُشير فيلون إلى وجود ما يقارب مليون شخصٍ من أفراد ملَّته في مصر، وبالرغم من تأكيد المؤرخين على المبالغة في هذا الرقم إلا أنّ الدِّراسات المعاصرة صدّرت سؤالاً رئيساً: كيف يتواجد مثل هذا العدد أو حتّى نصفه في أرضٍ حُرِّم على (اليهود) العودة إليها والاستيطان فيها (وفقا لأسفار التوراة- الخروج والتثنية)؟ ونستطرد نحن لنتساءل: كيف لفيلون أن يقيم في مصر التي أوَّلها بأرض النجاسة؟ وما معنى أن يُشير إلى وجود العديد من رجال الدين اليودايوس المنقطعين للعبادة على أرضها؟ ربما تكون الإجابة الدقيقة بمساءلة الجغرافية، ذلك أن الاستدلال العقلي لهذه القضية يُرجح أنَّ مصر التي قالت بها الموسوية هي غير مصر التي نعرفها اليوم! وأن اليودايوس المصريين هم معتنقي الفكر الموسوي وليسوا أتباع موسى بالمعنى المباشر.

 
جدل الفلسفة والفيلولوجيا

جُمِعت أعمال فيلون في عشرة مجلدات، وكانت قد حُفظت أصلًا من قِبل آباء الكنيسة، إلا أنَّ هناك مقاطع منها وردت باللغة الأرمنيَّة (كما في شرحه لسِفْري التكوين والخروج)، وجاءت مقاطع أخرى متفرقة باليونانية القديمة! ثم أعيد جمع أعماله لتصدر في مؤلَّف واحد فيه تعليقات وانتقادات على ما تمَّ نقله في هذه المجلدات العشرة، وتأتي التعليقات على قضايا تتعلَّق بنقد أفكار تتوافق مع السَّردية اليهوديَّة المعاصرة وكيفيّة إقحامها على النصّ الأصليّ. وبالنَّظر إلى أنَّ أغلب المخطوطات محفوظة في مكتبات غربيّة، وأنَّ هناك العديد من الإشارات إلى تزوير عميق طال المخطوطات بالاستعاضة عنها بنسخ مزوَّرة تتناسب مع السَّرديات المراد تعميمها، نجد أنَّه من الصَّعب على الباحث العربيّ التَّبيُّن الدقيق والعمل الفيلولوجي الصحيح إلا باستخدام مخطوطات أصليّة لأعمال فيلون، علاوة على توظيف أدواتٍ معرفيةٍ جديدة.

 


من الفيلولوجيا إلى النّقد الأعلى

يتعامل الباحثون الغربيون مع النّقد النصّي بصفته أساس النّقد الأعلى، وهو الحقل الذي يُعالج أسئلة الأصالة والإسناد والتّفسير والتقيّيم الأدبيّ والتّاريخي. ويرجِع أوَّل استخدام لمصطلح "النّقد النّصي" في اللغة الإنكليزية إلى منتصف القرن التاسع عشر. هذا، وهناك صعوبةٌ في التّمييز الدّقيق بين عمليات النّقد النَّصِّي والنّقد الأعلى، ذلك أنَّ النّاقد حين يواجه نُسَخاً مختلفة من النّصِّ المدروس يستخدم معايير أسلوبية وغيرها من المعايير التي تنتمي إلى الفرع "الأعلى" وتتمثّل في أساليب البحث النَّصي التّاريخي. إذ تمَّ نقل النُّصوص بطرقٍ متنوعةٍ لا حصر لها تقريبًا، ولا يمكن للمعايير التي يستخدمها النّاقد النَّصي (التقنيَّة، أو اللغويَّة، أو الأدبيَّة، أو الجماليَّة) أن تكون صالحة إلا إذا تمَّ تطبيقها من موقع الوعي بمجمل الظَّروف التاريخيَّة التي تحكم كلّ حالة. وفي حالة فيلون السَّكندري لابدّ من الإشارة إلى العديد من النّقاط التي ظهرت في مؤلّفاته والتي ربما نجت من التحريف رغم كونها لا تتقاطع مع السَّرديات المُعاصرة (اللاهوتيّة بشكلٍ عام واليهودية منها بشكلٍ خاص)، وهنا تأتي أهميّة تطبيق مناهج النَّقد الأعلى على نصوصه، فيمكن الاستفادة مما أورده من مقاطع مما رُوي أنّه الترجمة السبعينية، إذ في مؤلَّفه "التفسير المجازي" ورغم تأكيده على ضرورة الالتزام الحرفيّ بقوانين الشَّريعة من أجل المحافظة على الهُوية الدينيّة لـ(اليودايوس)، إلاّ أنَّ المعرفة الحقَّة لا تأتي من الشَّريعة، بل يجب أن تكون تأويليّ

. واللافت في تأويله أنَّه يستخدم مصطلح الإنسان لا بمعنى اليهوديّ أحد أفراد شعب الله المختار؛ بل بالمعنى العامّ الذي يشمل أفراد الإنسانيّة كلّها، لذلك لم نجد لمفهوم الأغيار التوراتيّ اللاحق مكانًا في تأويلاته! ولقد اكتسبت المفاهيم الموسويّة مع تأويله معنى جديدًا، فقد أعاد تأويل الأرض باعتبارها معرفة الله وحكمته، وعلى هذا فقد أهمل فكرة أرض الميعاد. ولم يُظهِرْ أيَّ اهتمام بها، حتّى في المناقشات التي أجراها حول إبراهيم أو إسحق أو يعقوب. كما أصبح الوعد بدفن يوسف في أرض الميعاد عند فيلون أملاً في أن تسكن روحه "مدن الفضيلة". ولم تعد كنعان مكانًا للوعد الدينيّ، بل أصبحت مجرد استعارة لخلاص النَّفْس من علائق المادَّة، وعلى هذا فإنَّ موسى لم يقدْ شعب إسرائيل إلى الأرض الموعودة، بل إلى مستوى أعلى من النُّضج والحكمة، علمًا أنَّ استحضار فيلون للنبي موسى في مؤلَّفاته يُظهر فهمَه للفرق بين موسى بصفته موضوعًا للتأويل الرمزيّ، وموسى كما طرحه على نحوٍ مزيّف الحاخامات اليهود في مصر في عصر فيلون نفسه، وحتى على مستوى ما قدّمه فيلون في الإسخاتولوجيا (علم الأُخْرَويّات)، لم يكترث بتجميع اليهود في أرض الميعاد من أجل التحضير لنهاية العالم، بل بدلاً من ذلك فَهِمَ أرض ميعادهم على أنّها خلاص نفوسهم بارتقائهم إلى العالم الآخر العقليّ على الطَّريقة الأفلاطونيَّة، فقد كان يُكَرِّس تصوّرًا عن الآخرة مختلفًا عمّا تكرِّسه السَّرديات (اليهودية) الحاخاميَّة؛ ولذلك نُظِر إلى فيلون على أنّه قام بعمليّة توفيق بين الفلسفة الهلينيّة والدِّين "اليهوديّ" على نحو فيه تجديد لروح هذا الدِّين، غير أنَّ هذه النّظرة نفسها تحتاج إلى إعادة تقييم.

 تعرَّفت بلاد هيلاس (اليونان) وفقاً لتاريخ هيرودوت على مجموعة دينيّة تزعم أنّها من أتباع النبي موسى بعد أن سمح لهم الملك الفارسي زركسيس الأوَّل بالسَّفر إليها عام ٤٠٠ ق م، وكانوا يدعون بالرومانيوت. ثم على المستوى الفلسفي أطلق نومينيوس الأفامي (٢٠٤-٢٧٠) م -مؤسِّس الأفلاطونيّة المُحْدَثة-على أفلاطون لقب (موسى النّاطق بالإيتيكيّة)، وله كتاب مفقود بعنوان "مذاهب أفلاطون السِّرية".

وبعد ذلك، قام جدلٌ بين القدّيس أوغسطين ومُعَلِّمه الأسقف أمبروز (٣٤٠-٣٩٧) م حول أفلاطون، فقد كان أمبروز يعتقد أنَّ أفلاطون كان قد تأثر بالنبي إرميا حين زار مصر، بينما يرى أوغسطين أن أفلاطون كان قد زار مصر بعد وفاة إرميا وأنَّه قد تأثر بالنقاش مع الكهنة! وبالمحصلة فقد أجمع كلاهما على تأثُّر أفلاطون بمعتقدات المصريين من الذين يزعمون أنّهم من الموسويين، وهكذا فإنَّ السَّائد في القرون الميلاديَّة الأولى أنَّ أفلاطون، وبالتالي الهلينيين، كانوا قد تأثروا بالأفكار الموسويّة، وجاء فكر فيلون نتيجة هذا التصالح مع الفلسفة الهلينيّة. ولكن في الحقيقة لم تكن الفلسفة الهلينيّة كما يُزعم رافدًا لفكر فيلون؛ ذلك أنَّ مصر وسوريا وبلاد الرافدين وفارس كانت بلاداً تضجُّ بالغنوصية المُغفلة تاريخيًّا، لذلك نرجّح أنَّ "الموسويّة" التي تبنَّاها فيلون قبل تدوينها كانت قد نهلت من معين الغنوصيَّة. ولعلَّ في إشارة فيلون لفرقة الأسينيين المنتمية لهذا النسق إضافةً إلى رغبته في اعتزال الناس للتفرّغ لتأملاته والحصول على خلاصه تأكيدًا على نزعته "الموسويّة-الغنوصيَّة". وتكشف مخطوطات نجع حمادي في هذا الاتِّجاه عن ١٣ نصَّاً في الشيثية (نسبةً إلى شيث ابن نوح)، وتذكر ما ورد عن شيث وهو في حالة وجد روحيّ وصل في نهايتها لرؤية الملأ الأعلى.


المُنجز الفيلوني

إذن، أصبحنا أمام مُناخٍ مختلفٍ عما تمَّ تداوله بشأن فيلون، فهو متشبعٌ بثقافةٍ غنوصيّة كانت مُنتشرة في الإسكندرية، ومتحدثٌ وقارئ بالإيتكية، يتبع اليودايوس، منخرطٌ في الشأن العام لأبناء ملّته، ولمثقفي ذاك العصر. نظر فيلون إلى صاحب شريعته "موسى" نظرة ثلاثية الأبعاد، فقد وجد فيه القائد والمشرِّع والنبي، وبالرغم من أن فكرة الملك المؤلَّه كانت سائدة، وكانت قوانينه سارية، إلا أن قدسية قوانينه كانت تنتهي بموته. وقد فارق موسى وفق تأويل فيلون لنبوّته هذا النمط بقوله بإلهٍ متعالٍ وأكد أنَّ القوانين التي قال بها قوانين مكتوبة بيد الإله الأبديّ، الأمر الذي سيهبها الدوام والقدسية المؤبدة. لذلك نرجِّح أنَّ ما تمَّ على يد فيلون هو تأويل ما نُسِب إلى موسى في أفق الوعي الكوني لتلك الثقافة الغنوصيَّة ونقلها من حالتها الشفاهيَّة إلى حالة النصّ الكتابيّ. وبذلك حَقَنَ فيلون السَّكندري الوعي الكتابي بالوعي الكونيّ الغنوصي القديم، مستلهماً أساليب الغنوص (رحلة المعرفة)، وإشاراته (التأويل والمجاز)، ومفرداته (اللوغوس، والعقل، والكائنات العلوية، والخلاص،..)، ومحطات الفضيلة التي يجب أن تمر بها النَّفْس وصولًا إلى الملأ الأعلى.

وبذلك نرى أن العودة لنصوص فيلون تضعضع السرديّة الثّقافية القائلة بتأثر السكندرانيين ومنهم فيلون بالفلسفة الهلينية، إذ يُرجح تأثُّر كلا الطرفين بالغنوصيّة الشرقيّة. كما تكشف هذه النصوص عن تناقضٍ أصيل بين الفكر الموسوي المنتشر بين اليودايوس المصريين والأفكار اليهودية الحاخامية المعاصرة، الأمر الذي يقوّض توصيفه بالفيلسوف اليوناني اليهودي، فثقافته شرقية، وفكره لا يمت لليهودية المعاصرة بصلة، بل إنّ مؤلفاته خلت بشكلٍ كامل من أي ذكر للفظ (يهودي) أو (يهودية). لِنُؤكد على أنَّ مُساءلة المقدّمات أمر واجب قبل الخوض بالتفاصيل.