نداءات الهوية: العرب ومحددات التفكير في الهوية الوطنية | عقيل سعيد محفوض

نداءات الهوية
نداءات الهوية

ان نداء الهوية هو في قلب الظاهرة العربية اليوم. وهو أحد مصادر أو محددات الصراع في الإقليم، وبالطبع أحد تجلياته. وثمة توظيف أو استثمار كبير في موضوع الهوية، بوصفه النداء الأكثر تلقياً لدى شرائح اجتماعية مختلفة، وقوة استقطاب وتحشيد كبيرة وربما غير مسبوقة في الإقليم اليوم. الأمر الذي يرشح موضوع الهوية لأن يشغل موقعاً مهماً في أجندات فواعل الفكر والسياسة في المنطقة العربية والمهتمين بها.


ولدى كل اصطفاف في الإقليم مَنْطِقُهُ (أو لا مَنْطِقُهُ، وربما هذيانه!) عن الهوية. يدفع الفاعل لجعل الهوية على رأس الأولويات والاهتمامات. وأكثر نداءات الهوية يتم تحت عناوين اجتماعية وثقافية ودينية ومناطقية وقبلية وبالطبع سياسية وحتى عسكرية وأمنية. وهذا قد لا يكون ظاهراً أو معلناً أو مٌوعىً به بالتمام.


في الأسئلة

يتعلق الأمر بالتفكير في أي محددات ممكنة للنظر في ظاهرة الهوية، وليس مجرد إطلاق نداء الهوية أو الاستجابة له. وثمة أسئلة في هذا الباب، من قبيل: هل يمثل ذلك النداء أولوية في الظاهرة العربية حقاً؟ وهل يكون الانطلاق في موضوع الهوية من الواقع الراهن، بكل مدارك الهوية الطارئة والحرجة فيه، وفي لحظة مخاطر وجودية في عدد من المجتمعات العربية، أم من منطق "الإمكان" في الظاهرة العربية، وهو مفتوح على مدارك ومسارات لا يمكن التنبؤ بها؟

الأسئلة كثيرة وإشكالية، وهذا من طبيعة الموضوع، الذي يتداخل أو يتمفصل مع مختلف جوانب الظاهرة الاجتماعية والسياسية، ويحتل موقعاً متقدماً في شواغل العرب اليوم، كما تتكرر الإشارة. إذ إن سؤال الهوية لا يقتصر على مجتمعات الأزمة والصراع، بل يشمل الظاهرة العربية ككل، بما في ذلك المجتمعات والبلدان الأكثر استقراراً. غير أن النص لا يتناولها (الأسئلة) جميعها، ويقتصر على ما يفترض أنها محددات للتفكير في موضوع الهوية. وهذا باب فيه كلام كثير.

المهم في ذلك هو التفكير في "الإمكان الهوياتي"، في أفق التعدد والتنوع على المستوى الوطني، وبالطبع الإقليمي والعالمي. وأيّ أفق للتفكير في الهوية الوطنية في ظل تراجع أو إجهاد مدارك ومعاني الولاء والانتماء والوطنية والدولة والسياسة وغيرها؟


لا وعي هوياتي!

ويمكن الحديث عن "لا وعي هوياتي" يكمن خلف العناوين والاصطفافات والاتجاهات والحركات الاجتماعية والسياسية المختلفة، و"لا وعي" اجتماعي وثقافي واقتصادي وسياسي، إلخ، يكمن خلف العناوين الهوياتية المطروحة أو المتداولة. وهذان "يتمفصلان" بكيفية مركبة، إن أمكن التعبير. وبالتالي، فإن كل ظاهرة هوية أو ظاهرة هوياتية "تُضمر" ظواهر اجتماعية وسياسية، إلخ، والعكس، أي كل ظاهرة اجتماعية وسياسية "تضمر" ظواهر هوياتية، قيمية وثقافية إلخ. ولدى ريجيس دوبريه وقبله كارل غوستاف يونغ كلام مهم في هذا الباب. 


تمزقات الملل والنحل

وبدا العرب، وخاصة خلال العقود أو السنوات الأخيرة، جماعات وقبائل ومللاً ونحلاً وعصائب ومناطق وجهات وتنظيمات وتشكيلات وشرائح وطبقات، منقسمة على نفسها، ومتصارعة فيما بينها، ويأكل بعضها بعضاً، أكثر منهم جماعات أو مجتمعات وطنية في أفق الدولة القائمة. وتحولت الظاهرة العربية (في الإقليم) إلى مِزَق مجتمعات وبلدان، وهويات وأفكار واتجاهات ورهانات، إلخ، منها ما هو عابر للدولة الوطنية، ومنها ما هو دونها.

ولو أن أزمة المجتمعات والبلدان العربية -في أصلها أو في جانب كبير منها- ليست محض أزمات "مِلَل ونِحَل". ويبدو الحديث عن الهوية _في جانب منه_ استمراراً للأزمات والتجاذبات والصراعات، إنما بوسائل أخرى. وأما التفكير في "هويات وطنية"، في مجتمعات الصراع وغيرها، فيبدو مهمة بالغة الصعوبة اليوم.


أوطان غير نهائية

لا ننفي وجود فواعل لديها "مدارك هوية وطنية" في عدد من المجتمعات-الدول العربية، لكن، قلما تجد أفراداً أو مجموعات أو كتلاً اجتماعية أو سياسية تؤمن بأن "الدولة" القائمة هي "وطن تام ونهائي". وليس بين أبناء أكثر البلدان العربية الكثير من التوافق على معنى وجودهم وانتمائهم لبلدانهم. وتتجاذبهم أحوال ووقائع ومدارك وتقديرات ورهانات كثيرة ومتناقضة أو سيالة، إن أمكن التعبير، والصحيح أن كثيرين منهم لا يهجس صراحة في أمر الهوية، وثمة من لا يُدرج الموضوع في قائمة الاهتمامات والمعاني والأولويات.


التمرين على التفكير

إن السؤال عن محددات "الهوية الوطنية" هو سؤال إشكالي. والحديث عنه هو نوع من "التمرين" على التفكير في "هوية لَازِمَة" أو "هوية واجبة"، نوع من "التحليل"، ليس تحليل ظاهرة واقعية، بقدر ما هو تحليل في المتخيل أو المأمول، ويمثل جزءا من ديناميات بناء "مشروع وطني"، يجب أن تهتم وتنهم به فواعل الاجتماع والفكر والسياسة في بلدان وأوطان الإقليم، إذا أرادوا أن تكون أو تعود أوطانهم وبلدانهم، موحدة وآمنة ومستقرة، وبالطبع تشاركيةً وتعدديةً، على حساسية وخلافية ذلك!


الأولوية؟

هذا ليس من أجل التقليل من أهمية وإلحاح السؤال أو النداء، ما يحدث هو التساؤل عن أولويته أو أهميته النسبية في الأجندات والشواغل الآن. وثمة بالقطع من يُشكِّك في أولوية التفكير في الهوية. الهدف هو "مَوضِعَة" السؤال في إطار أو سياق بالغ التركيب والتعقيد. وهذا من المحددات الرئيسة للتفكير في الهوية، في سورية وغيرها.

الواضح أن ان مدارك الهوية لدى بعض الفواعل النشطة والحاكمة، إن أمكن التعبير، لا يندرج في "مشروع وطني" أو في أفق هوية وطنية سورية ذات قوامة وأولوية على الهويات والانتماءات الفرعية الأخرى. لا قاعدة توافق عمومي مستقر هنا. هل قلت "مشروعاً وطنياً"؟ ألا يبدو ذلك كما لو أنه كلام مستعاد من فترة سابقة، كلام منتهي الصلاحية، ولا يسمعه أحد تقريباً؟ 


تهديد وجودي

المشكلة هي كيف يمكن التفكير في الهوية، في أفق مجتمع ودولة مهددين وجودياً، وليس انطلاقاً من فواعل وجماعات وكيانات وهويات "ما دون الدولة" أو "عابرة للدولة"؟ الواقع ان التفكير في "هوية وطنية" يحيل إلى أمر من الصعب التوافق عليه، تتطلب الهوية الوطنية "توافقاً" على معنى وطن ومجتمع ودولة، وهذا أمر متعذر أو بالغ الصعوبة، بل لعل التفكير في ذلك هو من الأمور الخلافية. ويبدو أن الصراع هو على كل ذلك، أي على تحديد معنى وطن ومجتمع ودولة، ليس بما هي قيم بذاتها، وإنما بما هي "موضوعات" يدور الصراع للسيطرة عليها هي نفسها أيضاً.


الهوية الفرعية

لا هوية فرعية كافية، لا تستطيع الهويات الفرعية أن تقوم بديلاً عن مجتمع ودولة، الظاهرة العربية والإقليمية لا تحتمل ذلك، كما أن البداهة تقتضي أن يكون الجميع في خط معنى يمكن التوافق عليه لمجتمع ودولة، وليس أفق "مِلَل ونِحَل" وقبائل وعشائر ومناطق وجهات إلخ، كما تتكرر الإشارة، حتى لو كانت ظروف الصراع أقرب لتأييد الفرعي والهوياتي على حساب الاجتماعي والوطني والقُطري.


الإمكان، بداهة التنوع

من المحددات الرئيسة للتفكير في الهوية، هو ليس الواقع الراهن، وإنما "الأفق" و"الإمكان"، قد يبدو الكلام متناقضاً. وبالتالي من المهم ألا ينطلق ذلك من الواقع الراهن، لأن ثمة تشوهات ومدارك "هوية طارئة" بتأثير الأزمات العميقة والممتدة في عدد من المجتمعات والبلدان: طائفية وجهوية/مناطقية خاصة. والصحيح هو التفكير في أي "إمكان" لـ"هوية وطنية"، ليس اسقاطاً لإيديولوجية بعينها على واقع غير مُتَحَكَّم به، ولا تطبيقاً لفكرة مستوردة، ولا استدعاء لأفكار من ماضينا، أو أفكار من ماضي أو حاضر غيرنا.

ومن محددات التفكير في الهوية، الانطلاق من الوعي بـ"بداهة" التعدد والتنوع الاجتماعي والثقافي والديني والقيمي، إلخ، في المجتمع، ومن أن الظاهرة الوطنية متداخلة بشكل كبير مع الإطار الإقليمي ومع العالم، وإن الهويات الوطنية ليست محض إنتاج داخلي أو ذاتي، مثلما أن الدولة نفسها ليست محض إنتاج داخلي أو ذاتي. وهذا باب فيه كلام كثير.


الحاجة للهوية

هذا يعني أن ينطلق التفكير من "الهوية التي يحتاجها" كل مجتمع ودولة، في أفق قابلية جدية وحيوية للاستمرار والاستقرار، وبالطبع في أفق إقليمي وفضاء ثقافي وتاريخي، وأفق عالمي، يشهد سيولة في التدفقات في كل شيء، بما في ذلك معاني الهوية والولاء والانتماء، وهذا أمر على قدر كبير من الأهمية، إذ إن وجود ملايين العرب خارج بلدانهم، وخارج الإقليم، وخاصة من مجتمعات وبلدان الصراع والهجرة، يتطلب توسيع أفق أو معنى الهوية، وتغيير "البؤرة المركزية" أو "خط المعنى" الرئيس من "السياسي" و"القُطري" إلى "القيمي" و"الثقافي" و"الرمزي".

لكن، هل يمكن التفكير في "الهوية الوطنية"، وحتى "الثقافية والرمزية"، مع إلحاح التفكير في تدبير مجرد العيش أو مجرد الحياة بالمعنى البيولوجي والفيزيولوجي، كما هو حال مجتمعات وبلدان الحرب والصراع، وحيث يشهد بعضها حالات انقسام اجتماعي وهوياتي حاد، وتدخلات خارجية على قدر كبير من التعقيد والخطورة؟  

في الختام،

الواقع أن نداء الهوية هو "نداء عالمي"، ولا يقتصر على الإقليم. وعادة لا يحضر نداء أو سؤال الهوية منفرداً، بل يترافق أو يتداخل مع نداءات كثيرة، وأنماط من الأزمات والصراعات والمخاوف والمخاطر ذات الطابع الوجودي. وهذا دليل تأزم أو اعتلال أكثر منه دليل صحة وعافية!

وعادة ما ينعكس ظرف ذلك "النداء" ودوافعه وإلحاحه على طبيعة التفكير فيه، الأمر الذي يظهرُ تأزماً وربما اختلالاً أو عدم توافق حول أطر ومحددات وخطوط التفكير في الموضوع، حتى ليبدو كل تفكير في الهوية، هو نفسه مصدر تأزم وأحياناً احتدام بين الأطراف. وهذا يتطلب قدراً كبيراً (قد لا يكون متوفراً دوماً) من التبصر والعقلانية.