ويختلف تصنيف الاستشراق والإنثروبولوجية الدينية في الجامعات والمؤسسات التعلمية والبحثية في أوروبا، والصحيح أن الاستشراق أو بالأحرى موضوعه (أي الشرق والعالم الإسلامي) يتعرض، بوعي أو لا وعي، لنوع من "التمييز" أو "التحيز السلبي" تجاهه في الغرب، قُل: إن ثمة "وضعية خاصة" له ولموضوعه (العالم الإسلامي) عموماً، إذ يتم حصره تقريباً في أقسام الدراسات الشرقية والإسلامية، ولاحقاً العلوم السياسية ودراسات المناطق والدراسات الإقليمية، أكثر منها علوم الاجتماع والإنثروبولوجيا والدراسات الدينية إلخ (محمد أركون، معارك من أجل الأنسنة، 2001). ويختلف تلقي الاستشراق والإنثروبولوجيا الدينية من قبل المتابعين، بما فيهم فواعل ومؤسسات صنع السياسات ورسم الإستراتيجيات.
لا تمثل الدراسات الإنثروبولوجية والإنثروبولوجية الدينية حول الشرق عامة، والعرب والمسلمين بصفة خاصة، تراكماً أو تطوراً بحثياً أو معرفياً بالقدر الذي تشهده دراسات الاستشراق بالمعنى المعروف للكلمة. ولا يغير من ذلك وجود قدر متزايد نسبياً من الدراسات حول "إنثروبولوجيا الإسلام"، و"إنثروبولوجيا الشرق الأوسط" إلخ.
الإنثروبولوجيا الدينية
تركز الإنثروبولوجيا الدينية –في خطها العام- على أصول وتطور الظواهر الدينية والقيم والرموز لدى جماعات "خارج أوروبا"، كما تتكرر الإشارة، أي أفريقيا وأمريكا اللاتينية وإلى حد ما الشرق الأوسط، وجنوب وشرق آسيا، وآسيا الوسطى. ومؤخراً أوروبا نفسها، بدراسة الظواهر الدينية وتطورها والتحولات التي طرأت على أنماط القيم الدينية (حضوراً وغياباً)، ووجود أنماط من الأديان و"التمثلات" الدينية قادمة من خارج أوروبا ولم تكن موجودة فيها سابقاً أو لم تكن محل دراسات كثيرة في السابق، مثل الإسلام والبوذية.
ويمكن الحديث عن أنثروبولوجيا دينية قديمة وأخرى جديدة. تهتم الأولى قبل كل شيء بـ"أصل وطبيعة الدين". وتهتم الثانية بـ "بموقعة الأحداث الدينية في سياق الحياة الواقعية، بمعنى آخر، إنها تهتم إما بتاريخ الأفراد أو بمجموع العلاقات الاجتماعية". (باستيد، الإنثروبولوجيا الدينية، موقع حكمة، 2017).
"تهتم الإنثروبولوجيا بموقعة الحدث الديني ضمن مجموع العلاقات الاجتماعية: هل ينتمي الديني إلى البنيات الفوقية أم أنه يشكل جزءا داخل البنية؟ هل يجب اعتباره بمثابة أيديولوجية تطفو فوق الوقائع الموضوعية والتي تنتج صورة مشوهة عنها؟ ألا يمكن اعتباره مجرد لغة من اللغات التي يتم التعبير بواسطتها عبر مجموعة من الاشكال الرمزية مثل باقي أشكال التعبير ذات الطبيعة الاقتصادية والسياسية للبنية؟ وبمعنى آخر، هل يشكل الديني جزءا من البنية من نفس مرتبة الاقتصادي والسياسي؟". (باستيد، 2017). ويمكن أن تتوسل الإنثروبولوجيا الدينية مناهج مقارنة في الدراسة، فيما بين أديان أو جماعات دينية مختلفة، أو بالنسبة للدين أو الجماعة نفسها، بتشكلاتها وتمثلاتها المختلفة، إما بشكل "تطوري" أو "تزامني".
الاستشراق
يركز الاستشراق على دراسة المجال الإسلامي والشرقي، كما سبقت الإشارة. وهو ليس التعرف على الشرق بالمعنى العلمي أو المعرفي والتعمق في معرفته فحسب، وإنما هو "تشكيل" لموضوع المعرفة أي للشرق نفسه أيضاً، و"تَمَثُّلٌ" لأولويات ورهانات العارف أو الفاعل. (انظر: إدوارد سعيد، الاستشراق). وثمة كلام كثير في هذا الباب. انظر مثلاً إسهامات: محمد أركون وأنور عبد الملك وعبد الإله بلقزيز وفاضل الربيعي وجوزيف مسعد وغيرهم.
ولا يقتصر اهتمام الاستشراق على الدين أو الظواهر الدينية أو اللغوية أو الاجتماعية، والآداب والمعارف وأنماط القيم والعيش والسلوك، ولو أنه غالباً ما يركز على المعاني أو السمات الدينية للمجتمعات الإسلامية. ويحيل إلى "ارتباط عضوي" بين الدين والاجتماع والثقافة والسياسة إلخ في تلك المجتمعات أو العوالم.
بل ان الدين أو العامل الديني، بالمعنى الواسع لهما، يشغلان "موقعاً تأسيساً" و"مقاماً تفسيرياً" في الظواهر الاجتماعية، ليس على مستوى المجتمعات والبلدان والجماعات الدينية المسلمة حول العالم فقط، وإنما على مستوى وجود جماعات أو جاليات مسلمة في مجتمعات وبلدان غير مسلمة عموماً، أيضاً. ثمة بُعد "فوق دولتي" في تأثير العامل الديني، وهذا أمر صحيح وواقعي. وهو ما يفسر –مع عوامل أخرى- إيقاع أو تواتر الحديث عن "أمة إسلامية" و"عالم إسلامي". وهذا باب فيه كلام كثير.
الافتراق
لكن، في واقع الحال، تفترق الإنثروبولوجيا الدينية والاستشراق في الموضوع، ذلك أن الإنثروبولوجيا الدينية تركز على ظواهر تخص الدين والظواهر الدينية أساساً أو أن ذلك يكون بمثابة بؤرة أو محرق التركيز لدراسة ظواهر وتداخلات وتشكلات اجتماعية وقيمية وسلوكية مختلفة. ولجهة النطاق الجغرافي، إذ تركز على عوالم خارج أوروبا، من دون إيلاء الشرق اعتباراً كبيراً.
وأما الاستشراق فيركز على "الشرق"، ويتناول جوانب مختلفة من اجتماعه وثقافته ولغاته وأديانه (أو بالأحرى دينه الرئيس وهو الإسلام وتشكلاته المذهبية المختلفة)، وتاريخه، وتفاعلاته مع الغرب والعالم. والواقع أنه أخذ يركز على القيم والعوامل التي تحرك مجتمعات الشرق سياسياً، ومنها دراسات العنف والتطرف والكراهية إلخ أكثر منه على دراسات الثقافة والحضارة واللغات إلخ، وهذا يفسر التراجع النسبي في القيمة المعرفية للاستشراق مقارنة بما كانت عليه قبل عدة سنوات أو عدة عقود. وهذا أيضاً يتطلب المزيد من التقصي والتدقيق.
إن تحول الاستشراق للتركيز على "السياسات" أثر بشكل متزايد على طبيعة مخرجاته البحثية والمعرفية، وأثر على طبيعة المنهجيات والمقاربات، وأصبح أقل هِمَّةً في تنويع المداخل وزوايا النظر والتفكير والتحليل. وهذا وجه من أوجه "الافتراق" بينه وبين الإنثروبولوجية الدينية، على ما في ذلك من تعميم قد يكون متعجلاً بعض الشيء.
ثمة فجوة علمية ومعرفية بين الإنثروبولوجية الدينية والاستشراق، إذ إن تقنيات البحث في الإنثروبولوجيا الدينية لا تحضر في دراسات الاستشراق إلا بحدود قليلة. وبالتالي ما نتحدث عنه هنا هو الحاجة لـ"تجسير الفجوة" العلمية والمنهجية بينهما.
التقاطع
يُفتَرَض أن يكون "تداخلٌ" أو "تقاطع" بين الإنثروبولوجيا الدينية والاستشراق من حيث النطاق الجغرافي، والتشكلات الاجتماعية والثقافية والقيمية، وإلى حد ما من حيث المناهج والمقاربات في العلوم الاجتماعية. ويتعلق الأمر بدائرة الجغرافيا الإسلامية (أو جغرافيا العالم الإسلامي) على العموم وبعض الامتدادات والتشكلات الدينية خارجه. ولو أن ذلك التقاطع قائم، إنما في حيز الإمكان أكثر من الواقع، وبقدر قليل جداً من التجليات الدرسية والبحثية، إذ لا يزال الشرق قليل الحضور في الإنثروبولوجيا الدينية.
ولا تزال الإنثروبولوجيا الدينية قليلة الحضور نسبياً في الحيز المعروف لـ"الاستشراق" أو "العالم الإسلامي". وثمة إسهامات حول "أنثروبولوجيا الإسلام" و"المجتمعات الإسلامية" انظر مثلاً: طلال أسد (الإسلام والإنثروبولوجيا، 2004) وليلى أبو لغد (نطاقات النظريّة في أنثروبولوجيا العالم العربيّ، دراسة، 2013). وأبو بكر باقادر (انثروبولوجيا الإسلام، 2005).
الانهمام والتأثير المتبادل
إن التركيز على دراسة مجتمعات "إسلامية"، بكل تنوعاتها وتجاربها وتشكلاتها الدينية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية إلخ من منظور الإنثروبولوجية الدينية يمكن أن يعطي الأخيرة دفعاً أكبر، بجعل موضوعها أكثر تنوعاً وعمقاً واتساعاً وتجريبية، ويجعل استخلاصاتها وتعميماتها أكثر دقة وشمولاً للظاهرة الدينية حول العالم.
وإن الخبرة والمعارف المتحصلة أو المتراكمة في دراسات الإنثروبولوجيا الدينية حول العالم يمكن أن تساعد في تناول ظواهر "مجتمعات الاستشراق" أو "مجتمعات الشرق" أو المجتمعات الموصوفة إسلامية، لجهة تمكين باحثي الاستشراق من توسل أدوات ومفاهيم ومقاربات في تحليل البعد الديني في مختلف الظواهر التي يبحثونها. ويحرر الظاهرة الدينية في عالم الشرق والاستشراق من المدارك والصور النمطية حول موقع الدين من الظاهرة الشرقية والعربية الإسلامية، كما يحرر الدراسات الدينية والتعليم الديني والدعوة والإرشاد من الأساليب التقليدية التي أصبحت عبئاً ثقيلاً وقيداً أكثر مما هي فرصة.
في الختام،
إن بين الاستشراق والإنثروبولوجية الدينية "تقاطع" أو "تداخل" و"افتراق". وثمة حاجة للانهمام والاندراج المتبادل فيما بينهما، فيما يخص دراسات الشرق عامة والمنطقة العربية والعالم الإسلامي بصفة خاصة، ذلك أن الإقليم بحاجة للمزيد من التدبير والتقدير المعرفي وتوسل مداخل بحث وتفكير متنوعة ومختلفة المرجعيات والخبرات، فضلاً عن أن الإنثروبولوجيا الدينية يمكن أن تكسب الكثير بانفتاحها على عوالم الشرق والإسلام والعرب، بكل تنوعاتها وتمثلاتها الحضارية والفكرية والقيمية والسلوكية إلخ