عودة إلى الأرثوذكسيّة الكتابيّة
نبّه
وايتلام إلى ما تقوم به مجموعات من الباحثين الغربيين في التاريخ الكتابيّ من أجل اصطناع
"إسرائيل التاريخيّة" وتسويغ وجودها الراهن، فقد قام كلّ من إيان بروفان
(أستاذ للدراسات الكتابية في كلية ريجنت في فانكوفر، كندا) وف. فيليبس لونغ (أستاذ
العهد القديم في كلية ريجنت، فانكوفر، كندا) وتريمبر لونغمان (أستاذ في كلية
ويستمونت في سانتا باربرا، كاليفورنيا) بتأليف كتابهم المشترك "التَّاريخ الكِتابيّ
لإسرائيل (2003 م)" وجعلوا غايتهم هي وضع "التقاليد التوراتية في صميم
مشروعهم المنهجيّ لبناء تاريخ إسرائيل"، وأخذوا النصوص التناخيّة على محمل
الجِدّ بطريقة أرادوا منها إقناع القرّاء بالصدقيّة التَّاريخيّة والأركيولوجيّة لمروياتها.
ولاقى كتابهم استحسانًا وترحيبًا من قبل المثقفين الغربيين من متصهينين
ومُضَلَّلِين ممن أطلقوا في السنوات الأخيرة نداءً واضحًا مفاده أنه "يجب أن
تنتهي الشكوك كلّها في ما يتصل بتاريخ إسرائيل الكِتابيَّة".
ويكشف
وايتلام عن خطورة هذا الكتاب -إلى جانب كتب أخرى مثل: "موثوقية العهد القديم
(2003)" من تأليف كينيث أندرسون كيتشن (باحث بريطاني في الكتاب المقدس)؛ و"النصّ
والتَّاريخ: علم التأريخ ودراسة النصِّ التوراتي (2005)" لـ ينس برون كوفويدو
(أستاذ في الدراسات التناخية)؛ و"البحث عن إسرائيل ما قبل النَّفي (2004)"
لـ جون داي (أستاذ دراسات العهد القديم في جامعة أكسفورد).
ويوضِّح أنَّ
هذه الكتب تمثِّل ذروة حركة يراها مؤيدوها عودة إلى الأرثوذكسيَّة الكِتابيّة التي
يمكن أن تُفهم بصفتها إيديولوجيا تأريخيّة صهيونيّة موجَّهة ضدَّ الأصوات
المتزايدة للنُّقاد الذين لا يكتفون فقط فقط بالتشكيك في الحقيقة التاريخية للعديد
من التقاليد التَّوراتية، بل يشكِّكون أيضًا في مشروعيَّة محاولة كتابة تاريخ
إسرائيل، على مستوى المنهجيات، وأساليب النَّقد، والمصطلحات، والنتائج التي
كُرِّست على أنَّها مؤكَّدة.
سبِّحوا يهوه أيُّها المؤرِّخون!
يقف
وايتلام عند تدليس هؤلاء الكتابيين في تبرير استنباط وقائع التاريخ من النُّصوص التناخيَّة،
إذ يُعنى مثلًا بنقد كتاب "مستقبل علم الآثار التوراتي
(2004)" لـكلّ من جيمس ك . هوفماير (عالم أمريكي في العهد القديم وعالم آثار
ومصريات) وآلان ميلارد (مستشرق بريطاني). لقد حاول جيمس ك . هوفماير أن يقدِّم
أطروحة مفادها أنَّه بعد الفحص الدقيق، "يجب التعامل مع النصوص التي تبدو أنَّها
تقدم معلومات واقعية أو ملاحظات تاريخية على أنها بريئة حتى تثبت إدانتها، أو
دقيقة حتى يثبت خطؤها". وهذا يعني بالنسبة لـ وايتلام خداعًا منهجيًّا، إذ لا
يجوز –في رأيه-الانطلاق من النصّ لاختلاق الحقائق التاريخيّة المتناسبة معه، بل
يجب اتِّباع منهجيّة أكثر موضوعيّة تنطلق من الوقائع المثبتة أركيولوجيًّا من أجل
التأكُّد من صدقيّة النَّص. كما يحلل في السِّياق نفسه رأي آلان ميلارد الذي مفاده
أنَّه "على المستوى العلمي، من الصحيح جدًا القول بأن المعلومات التي تقدمها
الوثائق القديمة (الكتابيّة) يجب أن تكون موثوقة ما لم يكن هناك دليل قاطع ضدَّها
لا يمكن دحضه، أو ما لم تتوافر معلومات أخرى مناقضة تكون قوية للغاية بحيث لا يمكن
رفضها". يظهر هنا أنَّ كلام ميلارد يدلّ على أنَّه ينطلق من النُّصوص
التناخيَّة بصفتها نصوصًا تاريخيّة صحيحة بوجه عام، ومن ثَمَّ يُفنِّد أيَّ اعتراض
على أيِّ جزء منها وفقًا لمعايير استقاها من هذه النُّصوص نفسها؛ لكن يلفت وايتلام
الانتباه إلى أنَّ هوفماير وميلارد يرفعان الراية الجديدة التي ينضوي تحتها الكتابيون
الجدد الذين يصدحون وهم يحملونها بالعبارة العبريّة هاليلويا (=سبِّحوا يهوه) لإنهاء
التشكَّك والعمل على الدِّفاع عن "التَّاريخ التوراتي".
ويقوِّض وايتلام في الاتجاه نفسه دعوى ديفيد
ميرلينغ (أمين متحف هورن الأثري وأستاذ مشارك في تاريخ العصور القديمة بجامعة
أندروز) التي طرحها في بحث له بعنوان "العلاقة بين علم الآثار والكتاب
المقدس: التوقعات والواقع" إذ زعم أنَّ "عدم وجود دليل لا يعني عدم وجود
شيء"، مضيفًا أن "عدم وجود دليل لا يمكن أن يؤكد أو ينفي موثوقية أي قصة
توراتية". ويظهر أنَّ ميرلينغ يترك القصص التوراتيّة المفتقرة إلى أدلة
تاريخيّة معلّقة بين الحقيقة والخيال، أي لا يمكن الحكم بصدقيتها أو زيفها كي تبقى
حيّة دائمًا!
مبدأ التكذيب والغياب
ارتأى
وايتلام أنَّ هؤلاء الكتابيين الجدد يستندون إلى مبدأٍ أسماه "مبدأ التكذيب والغياب":
يعني التكذيب ضرورة أن تكون القصص الواردة في النصوص التناخيّة بوجه عامّ قابلة
للتكذيب فقط على أساس أدلة أثرية أو تاريخية قاطعة. أما الغياب فيعني أنَّ عدم
وجود دليل على صحة قصة تناخيّة معيَّنة لا يعني بالضرورة أن القصة غير صحيحة، فقد
يكون السبب في عدم وجود دليل هو أننا لم نعثر عليه بعد أو أن هناك تفسيرات أخرى
ممكنة.
وينبِّه وايتلام إلى أنَّه سيكون لمثل هذا
المبدأ، كما يدعو إليه المدافعون عن "التَّاريخ التوراتي"، عواقب بعيدة
المدى على كتابة تاريخ البشريَّة. ويقول على سبيل السخرية من أنصار هذا المبدأ:
إنَّ مصادرنا الرئيسة في هذه الحالة عن تاريخ الهند القديمة مثلًا يجب أن تكون البهاغافاد
غيتا the Bhagavad Gita
(=كتاب مقدس هندوسي يعود تاريخه إلى القرن الثاني أو الأول قبل الميلاد)، وخطاب
كريشنا (=أحد الآلهة الهندوسيَّة) على ساحة المعركة، بما في ذلك الماهابهاراتا،
الملحمة السنسكريتية العظيمة بوصفها للصراعات بين الملوك والعرَّافين والآلهة.
أتان بلعام الناطقة
يتابع وايتلام تهكُّمَه بصيغة تحذيريّة: يجب على
أي شخص يفكر بشكل صحيح من أجل عدم إدانته بأنه غير عقلانيّ والحيلولة دون احتجازه
في مصحَّة عقلية أن يقبل القصة التوراتية الآتية: "فَفَتَحَ
الرَّبُّ فَمَ الأَتَانِ، فَقَالَتْ لِبَلْعَامَ: «مَاذَا صَنَعْتُ بِكَ حَتَّى
ضَرَبْتَنِي الآنَ ثَلاَثَ دَفَعَاتٍ؟» فَقَالَ بَلْعَامُ لِلأَتَانِ: «لأَنَّكِ
ازْدَرَيْتِ بِي. لَوْ كَانَ فِي يَدِي سَيْفٌ لَكُنْتُ الآنَ قَدْ قَتَلْتُكِ».
فَقَالَتِ الأَتَانُ لِبَلْعَامَ: «أَلَسْتُ أَنَا أَتَانَكَ الَّتِي رَكِبْتَ
عَلَيْهَا مُنْذُ وُجُودِكَ إِلَى هذَا الْيَوْمِ؟ هَلْ تَعَوَّدْتُ أَنْ أَفْعَلَ
بِكَ هكَذَا؟» فَقَالَ: «لاَ»." (سِفْر العدد 22: 28-30).
إذا رفض أي
عاقل هذه القصة عن قدرة الأتان على الكلام، فإن ردّ المؤرِّخين الكتابيين الجدد
الذين يسترشدون بمبدأ التكذيب والغياب هو أن أتان بلعام كانت موهوبة للغاية، أو أن
أي أتان في العصر الحديث أصبحت لا تقدر على الكلام، أو أنها خجولة بطبيعتها.
وعندما يتم الاحتجاج عليهم بأن هناك أدلة دامغة على انتماء الأُتُن إلى نوع
حيوانيّ غير ناطق أو غير متكلَّم "يردد المؤرخ الترتيلة نفسها: "عدم
وجود دليل لا يعني عدم وجود شيء". وهكذا يصبح النّص التَّوراتي أعلى من التَّحليل
النَّقدي والمقارنة. وعلى أساس استخدام هذا المبدأ المزدوج - مبدأ التكذيب والغياب-
من الصعب تصور ما قد يبدو عليه الدليل الذي يمكن حسبانه تكذيبًا للإملاءات
اللاهوتيَّة الواردة في النصوص التناخيَة بعامَّة والتوراتيَّة منها بخاصَّة.
استنادًا إلى هذه المنطق، يجب علينا قبول "المعنى البسيط" للنص." وبذا يفرض الكتابيون الجُدد تاريخ إسرائيل
ليس فقط على مناهج التأريخ في الأكاديميات والجامعات والدوائر الاستشراقيّة
الغربيَّة؛ بل على طُرق التفكير في حقيقة الوجود بسبب هذه الإملاءات اللاهوتيّة
على الوعي الجمعيّ المرافقة للقصص التناخيَّة التي تتحوَّل بدورها إلى تاريخ
حقيقيّ.
استنساب النُّصوص
كان
وايتلام واعيًا لقضيّة مهمة وهي أنَّه حتى في مؤلَّفات الكتابيين الأقل مغالاةً يوجد
عيب منهجيّ بسبب استخدامهم غير المتسق للتقاليد الكتابية، فإذا كان ممكنًا لبعضهم
استخدام نصوص كتابية محدّدة كمصدر مثلًا لحكم سليمان، فلماذا يتم استبعاد نصوص في
سِفْر التَّكوين وصولًا إلى سِفْر القضاة كمصدر لحقبة إبراهيم، والخروج، أو الاستيطان
في كنعان...؟ ويتساءل: ما الذي يميز هذه الروايات بحيث توفر في حالة واحدة مخصوصة
نافذة مباشرة موثوقة على الماضي، ولكن في الحالة الأخرى يُقال إنها أسطورة أو
خرافة أو قصة أو ما شابه ذلك؟ إذن، يوجد استنساب خطير في اختيار النصوص الكتابيّة
التي يُبنى عليها تاريخ إسرائيل، إذ عندما يكتشف هؤلاء الكِتابيون من علماء آثار
وجغرافيين ومؤرِّخين تهافت رواية تناخيّة معيّنة بسبب الكشوف العلميّة الموضوعيّة
يتخلون عنها وينتقلون إلى رواية لم تتهافت بعد.
قفزة كتابية لكن إلى الوراء
يُلاحِظ
وايتلام أنَّ الكتابيين رغم أنَّهم يزعمون التزام المعايير الإبستمولوجيّة في
مناهجهم التأريخيّة، إلا أنَّهم فشلوا في تقديم تاريخ يمكن التعرُّف عليه بأي معنى
أو قبوله خارج نطاق خطاب الدراسات الكتابية. إذا عَقَدنا مقارنة بين كتبهم وكتب من
قبيل "التنوير: بريطانيا وخلق العالم الحديث" لروي بورتر (2000)، أو
"أسياد الآفاق: تاريخ الإمبراطورية العثمانية" لجيسون غودوين (1999)، أو
"البلقان The Balkans"
لمارك مازاور (2000)، فإنَّنا سنكتشف أنَّ أعمالهم ليست نماذج في كتابة التاريخ،
ولكنها مناقشات للمشكلات المتعلقة بفهم النصوص الكتابية والتفسيرات المتأصِّلة
فيها بقصد الاستثمار اللاهوتيّ –اليهويّ في التاريخ لصالح اختلاق إسرائيل القديمة.
وعليه، إنَّ كل جهود الكتابيين الجُدد لا تعدو أن تكون قفزة إلى الوراء، أي إلى الحقبة
السابقة للنَّقد عندما كانت التقاليد الكتابية محميَّة لاهوتيًّا من الفحص النقدي.
لقد استطاع
وايتلام بوساطة وعيه النقدي العميق أن يبيِّن في أعماله وفي مقدمتها كتابه
"اختراع إسرائيل القديمة (1996)" كيف طُمِس التَّاريخ الحقيقيّ لفلسطين
القديمة لصالح البحث الزائف عن إسرائيل التاريخيَّة، وكشفَ التحايل التأريخيّ الذي
قام به المؤرِّخون وعلماء الآثار والمستشرقون الكتابيون لإلباس إسرائيل القديمة لَبوس
دولة قومية أوروبية مستغِلين في ذلك تأسيس "دولة إسرائيل" في عام 1948.