وإن
نظرة واحدة إلى الإقليم تُظهر حجم النزاعات والحروب فيه، على أسس إثنية ودينية
وثقافية واجتماعية واقتصادية وجهوية/مناطقية الخ كما يُظهر حجم الإخفاق في التشكل
مجتمعات حداثية ووطنية، مقارنة بأوربا وعدد من بلدان آسيا وأمريكا اللاتينية. ويبدو
أن قرناً أو أكثر من التحديث السياسي والبنى الكيانية/الدولتية، والتنمية والتعليم
والتيارات السياسية والفكرية وغيرها، لم تحقق تقدماً مهماً أو مستقراً على صعيد بناء
مجتمعات وهويات وطنية، ولم تقطع مع مرحلة التكوينات القبلية وتكوينات "ما دون
الدولة". وهذا من أهم سمات الظاهرة العربية اليوم.
في
السؤال
لكن،
لماذا تتسم المجتمعات (أو ما يُعَدُّ مجتمعات!) في المنطقة العربية بـ"الهشاشة"
و"القابلية" للانقسام والصراع، على أسس دينية أو قبلية الخ وخاصة عندما
تضعف السلطة المركزية؟ ولماذا تبدو القبيلة أو الطائفة أو العصبة قَوَّامَة على
المجتمع والدولة في آن؟ ولماذا لم يمكن تغيير الديناميات العميقة للتكوين
الاجتماعي في البلدان العربية على الرغم من التطورات الحداثية التي طالت الظاهرة
العربية منذ صدمة الاحتكاك بالغرب و"التحرر من الاستعمار" وقيام
"الدولة الوطنية" أو "دولة ما بعد الاستعمار"، وصولاً إلى
صدمات وتدفقات العولمة وعالم ما بعد الحداثة اليوم؟
لا
يريد النص نعي فكرة مجتمع أو نفي وجود مجتمع لدى العرب بالتمام، ولا القول
باستحالة وجوده، وإنما قراءة الإخفاق في التشكل مجتمعات، والتفكير في مشكلات
التكوين الاجتماعي، والدعوة لمزيد من البحث في موضوع على قدر كبير من الأهمية
والإلحاح، إذا ما أراد العرب أن يتجاوزوا ما هم فيه من اختلال واعتلال في الاجتماع
والسياسة والتنمية والاستقرار. وان من المهم طرح الأسئلة والقراءة النقدية للواقع،
بما أمكن من دقة ووضوح وموضوعية. والنظر في إمكان التغيير والتجاوز.
تواضعات
ومجازات!
يبدو
الحديث عن مجتمع أو مجتمعات في الإقليم أقرب لـ "تواضعات بلاغية" أو
"مجازات لغوية" لا تحيل إلى واقع أو وقائع بالفعل، ونوعاً من
"الالتباس الجماعي" بتأثير إيديولوجيات وأنماط قيم رسمية أو شبه رسمية،
وأحياناً نوع من "المخيالية" أو "الأمل". وأحياناً ما يكون
الحديث عن مجتمع أقرب لـ "حكم العادة" منه إلى "واقع حقيقي"
و"روح مجتمع" و"إرادة اجتماعية". وثمة نوع من الإيمان بالحاجة
لمجتمع يقوم على أساس المواطنة والهوية الجمعية والروابط العابرة للجماعات
والتكوينات الخ ولكن يحدث ذلك من دون استعداد للإيفاء بمتطلباته! ولم يكن من اليسر
تجاوز منطق "المِلَل والنِّحَل" إلى منطق المجتمع، بالمعنى الحديث
للكلمة.
قشرة
جوز!
يدعي
كثيرون وجود "مجتمع" يقوم على "المواطنة" في إطار وأفق دولة،
لكن المدعين هم أول من يتصرف خلاف ذلك، وينكرون أنهم يفعلون. ثمة نوع من
"الادعاء" بوجود مجتمع وليس مجرد "مِلَل ونِحَل" وجماعات
وطوائف الخ وهو "ادعاء جماعي" تقريباً، يدفع فواعل كثيرة، من مختلف
الشرائح والتشكلات والطبقات الخ، لـ"تمثيل" ذلك "الادعاء"
وربما "الوهم". والصحيح أن ثمة نوع من "النفاق الجماعي"
تقريباً، على ما في التعبير من حِدَّة، يعلن فواعله غير ما يضمرون. الأمر الذي
يجعل فكرة مجتمع مجرد "قشرة" على السطح تخفي أو تغطي أنماطاً من البنى
والتفاعلات والتوجهات والرهانات القبلية والطائفية الخ.
مقام
الدولة أو السلطة
إن
المجتمعات "لا تنشأ إلا في كنف دول"، و"لا سبيل إلى أن يعيش مجتمع
من دون دولة". (عبد الإله بلقزيز، المجتمع والدولة، 2008، ص 13). والواقع أن
الدولة تنشأ من تنظيم المجتمع ذاته، أو يُفترض بها ذلك. لكن الدولة يمكن أن تنشأ بـ
"وازع خارجي" أو بـ"قرار من أعلى"، أي أن قوة ما تفرض سيطرتها،
ثم تعلن "سلطة" و"دولة". ولا يشترط وجودُها أو تشكُّلُها وجودَ
"مجتمع" بالضرورة، في لحظة التأسيس والتشكل على الأقل. ويُفترض أن تُقيم
السلطة، التي تقوم مقام الدولة، "مجتمعها"، وان "تُشَكِّلَهٌ"
أو "تُخَلِّقَه"، ثم أن تُصبح هي نفسها -فيما بعد- تجلياً أو تعبيراً
له.
ثم
ان ما قام في الإقليم لم يكن دولة بالفعل أو في العمق، بل أقرب لـ"سلطة".
وما حاولت السلطة أن "تقيمه" ما كان مجتمعاً بقدر ما أنه "تشكيل"
لتكوينات اجتماعية، له شكل مجتمع. وان الحديث عن اهتزاز مجتمع (أو ما يعد مجتمعاً)
عندما تهتز الدولة هو أمر مفهوم. وإذا أمكن التوافق على أن ظاهرة الدولة في
المنطقة العربية "هشة" و"غير مستقرة" و"مخترقة"
و"إشكالية" إلى أبعد الحدود، أمكن فهم كيف ينسحب جانب كبير من ذلك على
المجتمعات العربية نفسها.
تكوينات
مِلَل ونِّحَل
وهكذا،
تبدو البلدان العربية "دولاً" أو "أشباه دول" إنما "لا
مجتمعات لها" أو "لا مجتمعات فيها"، بالمعنى الحداثي المعروف في
العلوم الاجتماعية. وهذا يضعها على حافة الصراع والحرب، بمجرد أن اختل ميزان
المعنى والقوة، أو اختلت قدرة النظام السياسي على الضبط الداخلي أو توفرت ظروف
للتدخل الخارجي. والواقع أن ثمة تداخل بين عوامل الاضطراب والصراع، إذ تبدو
البلدان في الإقليم كما لو أنها تكوينات "مِلَل ونِحَل"، كما تتكرر
الإشارة، مُجتَمِعَة بقوة السلطة، وليس بقوة وعيها وروحها وانتمائها الجمعي
وتنظيمها الذاتي، و"مفخخة بالعنف"، و"لا داخل لها". وهذا يفسر
انفراط عقدها واحترابها، بمجرد اختلال السلطة أو الدولة.
تقليدية
مُحدثة
قد
يجد المتلقي مؤشرات على وجود "مجتمع حداثي" أو ذي "سِمَات حداثية"
و"هوية جمعية". وقد يجد بالمقابل مؤشرات على افتقار العرب للتشكل مجتمعاً
أو مجتمعات حداثية في كل بلد، وإخفاقهم في تجاوز القَبَلِيَّة والطائفية الخ. ويبدو
أن ثمة مجتمعات "تقليدية محدثة"، تقليدية في الطبقات ونظم القيم القارة
والمُعَنِّدَة، وحداثية في بعض أنماط العيش وأنماط السلوك والتمظهر والاستهلاك
واللباس والطعام والمسكن، وبعض أنماط التشكل الحداثي للبنى والقيم التقليدية
نفسها، وخاصة استخدام تقنيات الحداثة والعولمة والاتصال والتنظيم في عيشها
والتعبير عن نفسها وتدبير شؤونها، ما يعني وجود نوع من "التداخل" في البنى
والتفاعلات، بين تقليدية وحداثية في آن معاً، إنما بقدر قليل من "التكييف"
و"الانسجام" الذي "تديره" السلطة أو الدولة أساساً.
الهوية
والتحديث
صحيح
أن العامل الهووي، الإثني والديني والقبلي الخ، "تراجع نسبياً" أو
"تنحى" إلى خلفية المشهد، إبان عصر التحديث السياسي وتشكيل الدولة
الحديثة ودولة ما بعد الاستعمار، وبروز تيارات وسياسات النهضة، والتنمية والتحديث،
والمشروعات الطموحة العابرة للدولة، إلا أنه كان "حاضراً" و"محدداً
فعلياً" في كثير من السياسات وتقديرات وديناميات الحكم في عدد من بلدان
الإقليم، ولكن بشكل "مضمر" أو "مسكوت عنه" على مستوى الخطاب
الثقافي والسياسي. والواقع أن ديناميات المِلَّة، أي ديناميات القبيلة أو العشيرة
أو الجماعة اللغوية أو الدينية الخ، وقوماتها، أي قوتها وأولويتها وتأثيرها، سرعان
ما تظهر إلى السطح في لحظات التوتر والاختلال.
والواقع
أن وجود "مجتمع" في إطار دولة، والحديث هنا عن الإقليم، لا يعني وجوده
بالمعنى العميق للكلمة، ولا وجوده المنفصل أو المتمايز عن الدولة، ولا يعني
"قوامته" على تكويناته هو نفسه، كما لا يعني وجود روح مجتمع وفكرة مجتمع
في أفق دولة. هذه مسألة إشكالية إلى أبعد الحدود. وقد تجد صورة مجتمع أو شكل مجتمع
عندما يتعلق الأمر بـ"الخارج"، لكن هذا لا ينسحب على كل الظواهر
والتفاعلات في "الداخل".
في الختام،
قد تبدو المِلَّة أو الجماعة قَوَّامَة على المجتمع، إلا
أن الناس لا تتخذ من إثنياتها أو أديانها ومذاهبها وطوائفها ولغاتها الخ مدخلاً أو
عنواناً نهائياً لهوياتها، أو منظاراً أحدياً ترى العالم من خلاله، وإذا حدث أن
أصبحت الهويات التقليدية أو الوشائجية محدداً للوعي والفعل السياسي والاجتماعي،
فعادة ما يكون ذلك جزء من ديناميات تفكير وفعل وتأثير متعددة، يكون العامل الهووي
نفسه أحدها. ومن تلك الديناميات: العامل الاقتصادي، وطبيعة السياسات ونظم الحكم،
ونظم القيم وتحولاتها واتجاهاتها لدى الناس والشرائح والطبقات والجماعات، وفواعل
الفكر والسياسة: أفراداً ومجموعات وشبكات الخ، وطبيعة النظام السياسي والدولة،
وبالطبع البيئة الإقليمية والدولية.
وفي كلام منسوب لـ "هيغل"، يقول: ان
"تحليل الجوزة يعني كسرها". وان تحليل الظاهرة العربية يعني الكشف عما
فيها من اختلالات واختناقات على صعيد "المجتمعات" و"الدول"! وقد
يطول مسار العرب نحو التشكل مجتمعاً أو مجتمعات حداثية، على أساس المواطنة، وفي
أفق دول وطنية. وان الطريق شاق، ودونه صعوبات كثيرة، إلا أن توافر الهمة والإرادة
كفيل بفعل الكثير.