النبيّ الخاتم والرسول المطاع بإذن الله | عمر الشفيع

الرسول المطاع
الرسول المطاع

هذه المقالة هي مقاربة لدلالة قوِلة (الرسول) في لسان القرآن مبعوثًا ومرسلًا وتبيين أنواع طاعة الرسول في القرآن العظيم وسوف تتلوها مقالة ثانية لمقاربة مفهومي السنّة والحديث في لسان القرآن ولسان العرب ومقالة ثالثة عن مواقف المسلمين الآنيّة من الروايات/الأحاديث.


مقامات المحمّد:

ابتدأت سورة الفاتحة في آيتها الثانية بالحمد لله ربّ العالمين والحمد مفعّلٌ في محمّد (وزن مفعّل) وبذلك فهو النبيّ الذي اكتمل عنده الحمد٬ وقد عاش ذلك المُحَمَّد (أي محمد ابن عبد الله) بين قومه بصفته النبي الخاتم رجلاً أميناً ملتزماً بالقيم والأخلاق (وَإِنّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيم ــ القلم ٤) وبالهدى المستقيم (… إِنّكَ لَعَلَى هُدَىً مُسْتَقِيم ــ الحج ٦٧) ثم أصبح رسولًا مبعوثًا ومرسلًا؛ ومن شروط الرسالة أن يكون للرسول (قوم) وأن يأتيهم (بالبيّنات)؛ وهو الأمّي الذي (بعث) رسولًا في الأميّين و(أُرسل) رسولًا رحمةً للعالمين.

وهناك (مقام محمود) للنبيّ في يوم الدين (… عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُدًا ـ الإسرااء).

وهذه المقامات الثلاثة (النبيّ والرجل والرسول) لمحمّد ابن عبد الله في عالم الشهادة مهم جداً أن نميّز بينها وهي ــ بعبارة أخرى ــ مقام النبوة ومقام الرسالة ومقام أنه رجل من الجزيرة العربيّة. (مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن (رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ) وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ـ الأحزاب ٤٠) وفي هذه الآية العظيمة نجد المقامات الثلاثة لمحمد وهي أنه رجل ورسول الله ونبيّ خاتم٬ كما تدلّ على ذلك دقّة مركّبات الآية٬ فهو الوحيد خاتم النبيّين، ولكنّه (رسول الله) مع رسل الله صالح وموسى وعيسى، فهؤلاء الأربعة هم من اقترنوا بمركّب (رسول الله) في القرآن العظيم.

وقد سبق للدكتور محمّد شحرور يرحمه الله أن فرّق بين هذه المقامات وذكر نوعين من طاعة الرسول (متّصلة ومنفصلة) وذكر النوع الثالث دون أن يسمّيه، وهنا زيادةُ تفصيلٍ لهذه المقامات الثلاثة ولأنواع طاعة الرسول الثلاثة (ضمن مقام الرسول) بزيادة بعض العلم القرآني عنها.

أوّلًا ــ في مقام الرجل فهو بشر مثلنا إلا أنه يوحى إليه: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ـ الكهف١١٠)؛ وتحكمه قاعدتا أنّه على خُلُق عظيم وأنّه على هدىً مستقيم٬ ويردّد المسلمون القاعدة الأولى وينسون القاعدة الثانية ٬ ولله الأمر من قبلُ ومن بعدٍ.

ثانيًا ــ في مقام الرسول فهو مبلغ الرسالة (القرآن) فقط بلا زيادة ولا نقصان: (مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ ــ المائدة ٩٩)٬ وقوِلة (البلاغ) وردت في القرآن ١١ مرّة ومركّب (البلاغ المبين) سبع مرّات؛ والبعض منّا يفهم أنّ البلاغ يعني أنّ الرسول يقرأ علينا القرآن فقط٬ وهذا فهمٌ يهمل معنى البلاغ ومعنى البلاغ في اقترانه بالإبانة (البلاغ المبين)٬ وهنا علينا أن نميّز بين البعث والإرسال حيث أنّ البعث هو بداية الإرسال ويكون ضرورةً في قومه والمؤمنين به ولذلك اقترن بعث محمّد رسولًا في الأميّين والمؤمنين بتلاوة الآيات وتعليم الكتاب والحكمة والتزكية:

(رَبَّنَا وَٱبْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُوا۟ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ۚ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ ﴿١٢٩ البقرة﴾‏

لَقَدْ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُوا۟ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتِهِۦ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا۟ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَٰلٍ مُّبِينٍ ﴿١٦٤ آل عمران﴾‏

هُوَ ٱلَّذِى بَعَثَ فِى ٱلْأُمِّيِّـۧنَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُوا۟ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتِهِۦ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا۟ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَٰلٍ مُّبِينٍ ﴿٢ الجمعة﴾‏

كَمَآ أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ يَتْلُوا۟ عَلَيْكُمْ ءَايَٰتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا۟ تَعْلَمُونَ ﴿١٥١ البقرة﴾‏

وتبيّن الآيات أعلاه أنّ تلاوة الآيات وتعليم الكتاب والحكمة والتزكية قد اقترنت بالرسول المبعوث (الآيات الثلاثة الأولى) والرسول المرسل كما هو واضح في الآية الأخيرة (البقرة ١٥١).

والأمر الآخر هو:

(وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ ٱللَّهِ … ٦٤ النساء)

وطاعة الرسول (في رسالته) اقترنت في هذه الآية بــ (إذن الله).

 ورسالة رسولنا هي القرآن العظيم، وفيه جاءت طاعة الرسول على ثلاثة أنواع وهي:

 أ. (الطاعة المتصلة) التي ترد فيها قوِلة (أطيعوا) مرة واحدة ذاكرةً طاعة واحدة هي طاعة الله سبحانه وتعالى والرسول مثل: “وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ” ـ آل عمران ١٣٢. وعلينا أن نلاحظ ــ مرّةً أخرى ــ أن قوِلة (أطيعوا) وردت مرّة واحدة، وهذا يدل على طاعة متصلة للرسالة والرسول في حياته وبعد مماته، والرسول هنا مرسل فهو من الرسل المرسلين وهو نفسه القرآن بعد موت الرسول.

 ب. (الطاعة المنفردة) التي جاءت للرسول محمّد وحده في الآية ٥٦ من سورة النور والتي نطيعه فيها في إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وهي تحتاج إلى تدبر منفصل؛ وهي: (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ـ النور ٥٦)؛ والمقصود هنا الرسول في حياته والقرآن بعد ذلك.

 ج. (الطاعة المنفصلة) التي تتكرر فيها قوِلة (أطيعوا) متتابعةً مرة لله ومرة للرسول مثل: (وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَاحْذَرُواْ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ ـ المائدة ٣٢)؛ وعلينا أن نلاحظ أن قول الطاعة يرد مكرراً مرتين وهذا يعني أن طاعة الرسول منفصلة عن طاعة الله وتابعة لها، وهذا هو الرسول المبعوث تنبيهًا بأولويّة طاعته في حياته أثناء تنزيل الفرقان، وبعد ذلك طاعته في القرآن.

 ثالثًا ــ وفي مقام النبوة فهو النبيّ الخاتم ولم تقترن قوِلة (النبيّ) معرّفةً بالـ التعريف في كلّ القرآن إلّا مع النبيّ محمّد وحده ممّا يدلّ على اكتمال النبوّة عنده؛ وفي مقام النبوّة فهو مطبّق لهُدى الله في بناء مجتمعه اعتمادًا على البناء الحضاري لذلك المجتمع، ولم يرد في القرآن مركب (أطيعوا النبي) إطلاقاً لأن الطاعة للرسالة وليست للنبوّة، فالنبوّة تخضع للتصديق أو التكذيب والرسالة تخضع للطاعة أو المعصية؛ وفي هذا المقام (أي: مقام النبوّة) يصلّي الله وملائكته على النبيّ ونصلّي نحن عليه ونسلّم٬ ومقام الرسالة لم يقترن بصلاة الله وملائكته على الرسول.

 ومحمد معصوم في مقام الرسالة فقط لأنها مقترنة بالتبليغ المشتمل على تلاوة الآيات وتعليم الكتاب والحكمة والتزكية: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ (بَلِّغْ) مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ (يَعْصِمُكَ) مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ـ المائدة٦٧)؛ ونلاحظ أن الخطاب من مقام الرسالة (يا أيها الرسول)، وجاء في الآية مركب (والله يعصمك من الناس) في هذا المقام الرسالي وليس في مقام النبوة؛ أما في مقام النبوة فهو مطبّقٌ حكيم لهُدى الله وقد يخطئ فينزل الفرقان ويصوبه مثل: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ـ التحريم ١)؛ ونلاحظ ــ كذلك ــ أن الخطاب من مقام النبوة (يا أيها النبي) وليس (يا أيها الرسول).

 

الخلاصة:

وفي الختام، محمّد بن عبد الله هو المحمّد الذي اكتمل عنده الحمد في الحياة الدنيا و(.. عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُدًا ـ الإسراء) في يوم الدين؛ وهو النبيّ المعرّف بالـ التعريف الذي اكتملت عنده النبوّة وهو كذلك (رسول الله) الذي بُعث في الأميّين والمؤمنين مبلّغًا إيّاهم الرسالة بتلاوة الآيات وتعليم الكتاب والحكمة والتزكية وأُرسل للناس رحمةً للعالمين ومطاعٌ في تبليغ رسالته بإذن الله.

والله أعلم.

 

المصدر: القرآن العظيم