ويظهر من خلال ما يتولَّد عن ذلك النزاع من أطروحات، أنّ ثمّة فريقاً يحتمي بخصوصيّة الموضوع المبحوث للاعتراض على بعض الصيغ الصارمة، في النظر إلى إعمال منهج بعينه، كما يظهر أنّ ثمة فريقاً ثانياً يحتمي بكونيّة المنهج انتصاراً لصلاحيّته في أي موضوع مهما كانت خصوصيته، وبين الفريقَين ثمة طائفة ثالثة، تتسم بكثير من المرونة بشأن العلاقة بين الموضوع والمنهج، فلا ترى ضيراً في استدعاء مناهج مختلفة في دراسة الموضوع الواحد؛ حيث تعمل على التنويع المنهجيّ بحسب ما يتناسب ورهاناتها وانتظاراتها مما تقاربه من أسئلة وقضايا.
إن "نزاع المناهج" في السياق الفكريّ العربيّ المعاصر، له صلة وطيدة، بما يترتّب عن إعمالها من تصوُّرات لها تأثيراتها على أمهات المسائل في هذا السياق؛ من قبيل: قضايا الهوية والكونية، ومداخل التقدم الحضاريّ، والعلاقة بالتراث والحاضر، وغير ذلك مما يستحوذ على اهتمامات المفكرين العرب. في هذا الصدد، تبدو المسألة الدينية في الفكر العربيّ المعاصر من بين أشدّ الانشغالات الفكريّة تعلُّقاً بسؤال المنهج، حيث الاحتراب محتدم بخصوص السؤال الآتي: أيّ المداخل المنهجيّة أجدر من غيرها بدراسة الدين وقضاياه؟ وإن ذهبت فرقة من فرق الفكر العربيّ إلى الاعتقاد بأنه: "ليس في الإمكان أبدع مما كان"؛ حيث اعتياضها عما يستجد من طروح في المنهج، بما ساقه الأُوَّل من نظر وتفكّر، فإنّ فرقاً غيرها -على تفاوت بينها- رأت في الذّهول عن المستجدّات المنهجيّة تلك، انصرافاً عن "آداب البحث" ومقتضياته، فطفقت تبحث عن الطرق الكفيلة باستثمار المنهجيّات الحديثة والمعاصرة في إعادة قراءة ما يتعلّق بالتراث الدينيّ من إشكالات وقضايا.
من هذا الأفق المنهجيّ، تحوز أبحاث عبد المجيد الشرفي أهميتها؛ بحكم شجاعة صاحبها في الإقرار بوجوب استحداث مسارب منهجية ونظرية جديدة مغايرة عن الموروث التقليدي، بل إن الشجاعة تلك، لم تقف عند حدّ الدعوة إلى الاستحداث ذاك، وإنما تخطتها إلى الإنجاز الفعليّ لمشروع قراءة التراث الديني انطلاقاً من العتاد المنهجيّ الحديث والمعاصر، وقد كان جلياً أن اختلاف المناهج يفضي وجوباً إلى اختلاف النتائج، ومن ثمّة اختلاف المنظورات في كليتها وجذريّتها؛ فليس المنهج والحال على ما ذكرنا، مجرد "خطوات وإجراءات تقنية" لا تغيّر من واقع "الظاهرة المدروسة" شيئاً، بقدر ما هو عامل حاسم في تشكيل -وإعادة تشكيل- تلك الظاهرة نفسها، وما مردّ التفاوت -في أحايين عديدة- بشأن ما يظفر به المرء من نتائج ومنظورات، تخصّ ما يعكف على دراسته من ظواهر وتجارب وقضايا، سوى العدّة المنهجيّة الموجّهة للعمل والبحث. ينتسب عبد المجيد الشرفي إلى اتّجاه منهجيّ حداثيّ في النّظر والكتابة والتفكير، وهو الاتّجاه الّذي لا يتردّد في استلهام النداء الكانطي القائل بشجاعة العقل وجرأته في التفكير من غير وصايات.
ولأنه كذلك، فإنه لا يتردد في استدعاء أحدث المناهج لدراسة أسئلة التراث والدّين، بل ولا يتردّد في رفض طرائق الأسلاف ورؤيتهم المنهجيّة لتلك الأسئلة، فهي عنده قاصرة عن الاضطلاع بمهمّة الإفصاح عن المعنى المنشود لـ"الاجتهاد"، بما هو مساءلة للموروث ويقظة عقلية تجاه المعهود من القول والحُكم. إنّ لهذا التطلّع إلى استحداث طريقة مغايرة في النظر والتفكير مبرراته من داخل السياق الديني نفسه، بحسب عبد المجيد الشرفي، وليست الدعوة إلى الاجتهاد سوى علامة من علامات ذلك التطلع، فلقد دعا هذا السياق إلى الاجتهاد وإعمال العقل في شأن الدين والإنسان وما يقترن بهما من موضوعات ومشكلات، غير أن الشرفي لا يفهم "الاجتهاد" على ما فهمه به التقليد الديني، من جهة أنه لا يكتفي بالاجتهاد ضمن حدود مرسومة سلفاً، بمقدار ما يتجه بالأساس إلى الاجتهاد خارج التصور التقليدي للاجتهاد نفسه.
يستدعي الشرفي "الأفق الاجتهادي" القديم، لينعطف به، ويقوده إلى ما لا قِبَل لصورته التقليديّة بالتفكير فيه، مستفيداً من الثورات المعرفيّة والمنهجيّة في العصر الحالي، ففي مقابل "الاجتهاد المسيّج"، الذي ما تفتأ المقاربات التقليدية للتراث الديني تتمدّحه، يؤكد الشرفي على مسيس حاجة الفكر العربيّ إلى "اجتهاد مفتوح" من غير سياجات قبليّة مانعة لحركة العقل القائم به، وإذا ما كان اجتهاد القدامى محكوماً بحُدود أدواتهم النظريّة وقتئذ، فإنّ المطلوب من اجتهاد اليوم، أن يُجنّد معارف العصر في كلّ المجالات؛ لتجديد النّظر في المسألة الدينيّة، وما يقترن بها من أسئلة ومفاهيم. يرمي الاجتهاد كما يراه الشرفي، إلى تغيير معنى الاجتهاد نفسه، ثمّ الإقدام على ممارسته بحسب هذه الدلالة الجديدة، وتأسيساً لذلك، يوجّه الشرفي سهام النّقد إلى الآليات المنهجية والمحددات القبلية لذلك المعنى التقليدي للاجتهاد؛ حيث ما يفتأ يعلن تبرُّمه من آلة القياس، وأمثَلَة الأسلاف، وأقنمة بعض الشخصيات المؤثرة في تاريخ الإسلام، وكلّها مياسم مميزة للاجتهاد في دلالته التقليديّة.
في إطار هذا الفهم المفتوح لمعنى الاجتهاد، يعتني الشرفي بمسألة المنهج عناية واضحة، ويعيب في هذا الصّدد على التصور التقليديّ للاجتهاد الدينيّ عجزه عن استدخال المناهج الحديثة في مقاربته القضايا الدينية، حتى صار الدّين غريباً عن الحياة المعاصرة والمجتمعات القائمة، ومن الجليّ انهجاس الشرفي بتلك الغرابة (والغربة) في معظم تآليفه، بل قد تكون الباعث الأوّل عنده على التماس تجديد النظر في الدّين، أو قل تحديثه بتحديث أدوات النظر فيه. لقد أفضى احتكار المؤسسات الدينية التقليدية لأمر ذلك النّظر إلى تعطيل تحيينه مع العصر، والحؤول دون ملاءمته مع احتياجات الإنسان المعاصر. ولأن المؤسسات تلك واقعة في غالبها الأعم في إسار "التقليد" و"المحافظة"، فإنّها ظلَّت تُصفّح نفسها ضدّ كل ما من شأنه أن يُتلف تصورها لمعنى الدين وأثره في الحياة والعصر.
بسبب هذا الاستحواذ أولاً، وبسبب انصراف كثير من "أمراء الفكر" في السياق العربي الإسلامي عن شأن الدين، اعتقاداً أنه ليس من "شأنهم الفكري" ثانياً، وبسبب ما يثيره الاقتراب من الدّين من جلبة وتهديد للمفكّر وأمنه وأمانه ثالثاً، فإنّ المؤسسات الدينية التقليدية انتصبت بوصفها "اللسان الناطق" باسم الدين، بل باتت وكأنها "لسان الله" في عباده، غافلةً عما بين "الدين" و"الله" من فروق ومسافات. إننا نجد أنفسنا تبعاً لأطروحات الشرفي، أمام تخبُّط بخصوص العلاقة بين الدين والمنهج الحديث. يورّث هذا التخبط فجوات وهوّات تزداد اتّساعاً مع استمرار المؤسسات الدينية في الوصاية على الدين، وانسحاب المفكرين المتملكين لناصية المعرفة العصرية والمنهج الحديث، من الإسهام في تقديم قراءات مختلفة لذلك الدّين، على النّحو الذي شهدته المسيحية واليهودية وغيرهما.
إن مأتى الفجوة والتخبط بين الدين والمنهج الحديث على ما صوّره الشرفي متجلّ في كون المالكين للحق المطلق في الحديث باسم الدين وفي الدين غرباء عن المناهج والمعارف الحديثة، في حين أن المتملكين لتلك المناهج والمستوعبين لتلك المعارف غرباء عن الدين ومدوّناته. عن هذا التخبط، وعن تلك الفجوة، يمكن ترتيب خلاصة تقول بامتناع الكتابة الجادة والتفكير اليقظ في الدين عن الفريقَين معاً؛ إذ يعجز المطّلعون على مكتسبات الفكر الحديث عن استثمار المناهج الحديثة في دراسة الشأن الديني، لأنهم معرضون لكل أشكال المنع والتسييج (المؤسسي والسيكولوجي والثقافي)، في حين يخفق القيّمون على المؤسسات الدينية على ابتعاث فهم جديد للدين مناسب للعصر، بحكم رسوخ التقليد فيهم، وامتناعهم عن تجديد مناهجهم ومداركهم.
كثيراً ما يقود جهل الإنسان بالأشياء إلى رفضها ومعاداتها ورميها بأحكام قد لا تستوفيها حقّها. ولأن رؤوس المؤسسة الدّينية والأوصياء على مختلف امتداداتها في المجتمع والدولة والإعلام، غالباً ما يجهلون المستجدات الحديثة في الثقافة والعلم والفكر من جهة، فإنهم، ولعدم اطمئنانهم إلى كل ما يزعج القائم ويربك المألوف من جهة ثانية، وسداً للذرائع الموصلة إلى ما قد يخدش القائم والموروث من جهة ثالثة، يعجزون عن استثمار تلك المستجدات المنهجية الحديثة في بحوثهم ودراساتهم بخصوص الدين.
تقوم الحاجة هنا إذن، إلى اجتهاد مغاير، يتحرّك خارج معنى الاجتهاد المألوف في الدراسات الدينية مثلما أسلفنا الذّكر، وهو الاجتهاد الذي يتبلور عبر التوطين لهذه المناهج الحديثة أولاً، وإعمالها، ثانياً، بجرأة وشجاعة على كل الظواهر المدروسة؛ بما فيها تلك التي ظلَّت ردحاً من الزمن مُصفَّحة ضدّ التفكير النقديّ المفتوح لداع من الدّواعي. لا اجتهاد، والحال على ما فات ذكره، من غير الأخذ بمستجدّات هذه المناهج وثرائها المعرفيّ، بحكم ما تسمح به هذه المناهج من دراسة مغايرة للدراسات التقليدية للدين، ولا اجتهاد من دون التحرر من قبضة السياجات اللاهوتية المضروبة على الدين، وفي هذا التنبيه والإقدام تكمن أهمية أبحاث الشرفي وأطاريحه.