رغم أن الادوات المعرفية لكل من ابن رشد وتوما واحدة، إلا أن الإشكالية عند توما مختلفة؛ هي ليست مشكلة معرفية، ولا تتصدى لتأكيد أهلية الفلسفة أو تثبيت مشروعيتها، بل هي مشكلة موضوعية تتعلق بمجريات الواقع الفعلي نفسه، وبالمرجعيات التي تديره وتقرر شؤونه؛ أي: هي ليست حول مشكلة التفكير وفهم النص الديني وتبيان العلاقة بينه وبين العقل -مثلما كانت عند ابن رشد-، بل كانت تتصدى بنحو جوهري لأمرين أساسيين:
أولهما: الانقسام الموضوعي الحادّ الذي تركه الإرث الأوغسطيني في المقابلة بين مملكة الأرض ومملكة السماء، واعتبار السلطة والخضوع قدراً إلهياً لعقاب الخطأة (أي: مظهر خطيئة، أو امتحان للمؤمنين واختبار للصالحين والبررة)، فكأن جميع مظاهر الوجود الإنساني الذي استدعى انتظام البشر في علاقات سياسية (أي: علاقات طاعة وخضوع)، هي بالنسبة لأوغسطين مظاهر عقاب وأثر حتمي للخطيئة الأولى.
ثانيهما: الصراع بين سلطة الكنيسة والسلطة الزمنية؛ حيث احتدم النقاش حول أولوية أو أسبقية أيِّ منهما على الآخر، وقد وصل الصراع بينهما إلى تقسيم أوروبا، وإلى انقسام الكنيسة على نفسها، وظهور عدة بابوات في أمكنة متعددة من أوروبا.
أراد توما معالجة واقع موضوعي بإسباغ مشروعية على الفعل السياسي نفسه، بصفته فعلاً مستقلاً متقوماً بذاته -من جهة-، وفك التعارض والتناقض بين مرجعيتين متزاحمتين: الكنيسة والسلطة الزمنية -من جهة أخرى-، لكن، هذه المرة لا بالتعايش السلبي والسلمي بين السلطتين، أو تقسيم المهام بينهما -مثلما اقترح جيلانوس في السابق-، بل بإنشاء مفهوم لاهوتي للسياسة مختلف عن مفهوم أوغسطين، يُشرِّع استقلالية النشاط الإنساني في تنظيم أمور الحياة.
عمد توما إلى حل مشكلة التعارض بين إرادة الله وإرادة الإنسان (وهي معضلة حاضرة في جميع نقاشات الأديان التوحيدية)؛ فلم يتصور ثنائية الزَّمني والرّوحاني شقاءً للبشرية، لكنَّه نظام شاءه اللَّه، وعلى الإنسان أن يُفكِّر ويتصرَّف وفق هذا النِّظام، ما يعني أن السلطة تضرب جذورها في الطبيعة الإنسانية نفسها، وهو محتاج إليها من أجل أن يحقق غاياته الأرضية، هي ضرورة طبيعية، وليست أثراً لخطيئة -مثلما صورها أوغسطين-.
كان توما الأكويني أول من أطلق البحث في السلطة المجردة (أي: السلطة في ذاتها)، منطلقاً من فكرة أنّ "الإنسان-الحيوان الاجتماعي" -بصفته عضواً في المدينة- مباين للـ"الإنسان-المؤمن" -الذي هو عضو في المسيحية-؛ العضو في المدينة شخصٌ سياسي؛ لأنَّه يتوحّد مع هيئة طبيعية، ويتمايز من حيث الانتماء عن الهيئة المتقشّفة الّتي تشكّلها الكنيسة، ولأن السِّياسي موجود بذاته ومتطابقٌ مع نظام وتخطيط إلهيّين، فهو لا يُنظَّم من قبل اللَّه، بل يخضع لقوانين الطَّبيعة الّتي تتحصّل للإنسان بواسطة العقل.
مراد الله عند توما لا ينحصر في الوحي للكشف عنه، بل هو حاضر في أربعة قوانين أساسية تعود جميعها إلى الله: القانون الإلهي، والقانون الأزلي، والقانون الطبيعي، والقانون البشري.
أما القانون الإلهي، فهو القانون المتعلق بالوحي الذي غرضه الخلاص الأبدي، الذي يأخذنا إلى الفضيلة الباطنية، في تطابق سلوكنا مع نوايانا، لكي ننال البركة الإلهية والخلاص الأبدي.
وأما القانون الأزلي، فيتمثل في القوانين التي أودعها الله في الكون؛ فالله هو الحاكم الأزلي لكل شيء في الكون، وحكمة الله تتبدى في قوانين الكون وحركة الاشياء فيه، ولما كان الإنسان جزءًا من النظام الكوني وخاضعًا له، فهنالك قانون أزلي كامن في داخله، هو القانون الطبيعي.
فالقانون الطبيعيّ إذًا يمثل مجمل القواعد الأخلاقية الكلية، وهي موجودة في المؤمن وغير المؤمن، ويعلّمنا تجنب الشر وفعل الخير، وأن نعيش مع بعضنا بسلام.
أما القوانين البشرية فهي ليست سوى تجسيد وتفصيل زمكاني للقوانين الطبيعية؛ فالقانون الطبيعي أزلي، أما القانون البشري فهو المسعى التاريخي للإنسان في تشخيص القوانين الطبيعية في الوجود. فالمشروعية هنا لا تقتصر على القانون الطبيعي، بل تشمل الجهد والترتيب الإنسانيين في تنظيم شؤزن الحياة على قاعدة عقلية، وبذلك يكون الفعل السياسي (ومنه السّلطة)، تجسيداً لإرادة الله وتحقيقاً دائماً لإرادته في مجرى التاريخ ما دام أنه جاء من وحي القانون الطبيعي وإملاءاته.
فالغاية من الخلق بحسب توما هي تحقيق العدالة، لكن الله لم يبين لنا كيف يكون ذلك، بل ترك الأمر لنا، وفوَّضنا تحقيق العدالة وفق توجيهات القانون الطبيعي الكامن فينا. هذا يجعل أشكال السلطات والنظم السياسية تجلّيًا لإرادة الله، لا بمعنى الحق الإلهي الذي ادّعته الكنيسة، بل بمعنى أنها ثمرة توجيهاتٍ ودوافعٍ للقانون الطبيعي الموجود في كل كائن عاقل، وبهذا فنحن نطيع الله في كل شؤوننا ونشاطنا، لا عبر الوحي فحسب، بل عبر القانون الطبيعي الذي غرضه تحقيق السعادة الإنسانية، ويوجه الإنسان في أفعاله الخارجية، وهو أمر لا تقتصر مهمته على فرد بعينه، بل هي مهمة جماعية يشارك في تحقيقها الجميع، الحاكم والمحكوم معاً؛ لكون القانون الطبيعي موجودًا في كل فرد منا ومحفورًا في قلبه، ويجسد إرادة الله.
لم تعد السلطة وفق توما مجال تفكير لاهوتي، ولم يعد النص الديني مرجعاً لتحديد حقيقتها أو طبيعة عملها، أو حتى وظائفها. ولما كانت السلطة من ضرورات الطبيعة، فإنها تصبح من اختصاص العقل، وليس من اختصاص علم اللاهوت. أما ثنائية الزمني والروحي، فهذا قدر إلهي أراده الله وعلينا تدبيره، بالتالي، لم تعد معه شؤون المدينة من مختصات الكنيسة، وباتت عضوية المدينة عضوية إنسانية ومدنية يكون تدبرها وتدبيرها على قاعدة عقلية، وغايتها الخير المشترك والصالح العام لا الصلاح الأخروي، بذلك، يكون توما قد رسخ استقلالية السِّياسي نهائيا عن الكنيسة، مُشكلاً البذرة الأولى للعلمانية.
انطلاقاً مما ذكر، يمكننا إظهار مواقع التوافق والاختلاف بين توما وابن رشد:
• التقى الاثنان على أن الله مصدر جميع الحقائق؛ فالحقيقة واحدة ومنبعها واحد، ولا يمكن أن يحصل تعارض بين الوحي والعقل، لكنهما اختلفا في موضوع المعالجة أو المشكلة؛ فابن رشد بقيت إشكاليته منحصرة في كيفية تحديد الحقيقة الدينية والتعرف إليها، ولم تكن مسائل السياسة مدرجة ضمن موضوعات التفكير النظري حينها، في حين، انطلق توما من عمارة لاهوتية جاهزة، وعمد إلى التأسيس لواقع موضوعي هو الانتظام السياسي.
• اشتغل ابن رشد على التأسيس، في حين اشتغل توما على المأسسة.
• أقام توما ثنائية في الطبيعة الإنسانية: الحيوان السياسي (أو عضو المدينة) من جهة، والمؤمن أو (الحقيقة الباطنية والروحية للإنسان) من جهة أخرى، هي ثنائية تستوجب قيام ثنائية خارجية تعكسها في الخارج وتجسدها: كنيسة وسلطة زمنية، كل يطيع الآخر في مجاله، أما ابن رشد فلم يكن لديه ثنائيات، بل بقيت الحقيقة موحدة لديه رغم تنوع مصادرها، كأن كلًا من العقل والوحي تعبيران مختلفان عن حقيقة واحدة مثلما يقول الفارابي: الأولى بالبرهان والثانية بالخيال والمحاكاة، ما يعني أن مجالات المعنى في النص بقيت عند ابن رشد واسعة وشاملة لكل شيء، في حين صارت عند توما مقيدة ومحصورة في دائرة الخلاص.
• احتفظ ابن رشد بوحدة النص وسعته لكل أمور الحياة، بما بشمل الانتظام العمومي، في حين قيَّد توما مساحة النص وحصره في أمور الخلاص الباطنية، مفسحاً المجال لتأسيس واقع سياسي متحرر من المرجعية الدينية.
• فصل توما بين الأختين الرضيعتين: الشريعة والحكمة، وأعطى لكل منها وظيفتها ومجال عملها، لا تخرج عنه، في حين أبقى ابن رشد الأختين معاً ليكونا مرجعاً وأساساً لكل حقيقة؛ لهذا كانت العلاقة بين النص والعقل عند ابن رشد تكاملية، يقوم العقل بملء فراغات النص، مع بقاء شمول سلطة النص وصلاحية قوله في كل مجالات الحياة، الدنيوية والاخروية، هذا يعني أن الشرع عند ابن رشد هو نمط حياة وسلوك، دين ودنيا، حياة وآخرة، لا يمكن الفصل بينهما، بالمقابل فإن ثنائية الوحي والعقل الذي يختزنه القانون الطبيعي، أفسح المجال عند توما إلى تأسيس واقع سياسي مستقل عن الدين، بحكم أنها ثنائية متأصلة في طبيعة الإنسان نفسه ونمط وجوده، أما ابن رشد فقد بقي المجالان الديني والسياسي متداخلان رغم تقريره استقلال العقل عن الشرع، فالعقل والشرع يفترقان في طبيعة نشاط كل منهما، لكنهما يتطابقان ويجب أن يتطابقا في مجال الواقع الموضوعي الذي يتأسس على الحق والحقيقة المطلقة: "الحق لا يضاد الحق بل يوافقه ويشهد له".
• الثنائية عند توما هي ثنائية موضوعية تجسدها الثنائية الواقعية في التكوين الإنساني نفسه، أما ثنائية ابن رشد فتقتصر على مصادر الحقيقة التي تبقى واحدة من غير انقسام.
• مع توما، ارتسمت فكرة دولة القانون ومشروع القانون الطبيعي، هي رؤية تركز على المجتمع كوحدة طبيعية منبثقة عن تخطيط إلهي، وتستمد هويتها من توجهها نحو تحقيق الصالح العام الذي يؤسس القانون ويمنح السلطة مشروعيتها، فيصبح نظام المدينة والدولة نظام تحقيق المصلحة المشتركة وفقاً للعقل. بالتالي، صار العقل عند توما عقل المصلحة العامة والخير العامين، في حين بقي عند ابن رشد العقل الكوني الأزلي أو الجوهراني الذي لا يعرفه إلا الفيلسوف.
• مع صيرورة العقل جزءًا من الطبيعة الإنسانية عند توما، لا عقلا أزليا جوهرانيا كما عند ابن رشد، صار بإمكان التفكير العقلي أن يتخذ في مرحلة لاحقة في المجال الغربي طابعاً فردياً مهمته تسيير عمل الإنسان الفرد وتشخيص مضارّه ومفاسده، ما جعل الاجتماع الإنساني لا يقوم على التطابق مع العقل الكوني المستقل عن الفرد، بل على توافق العقول الفردية في تحديد الصالح العام، أي بات العقل عقلاً جمعياً (collective)، انتقل من اعتباره عقلاً كونياً وجوهرانياً، إلى أن يكون عقلاً اعتبارياً تدبيرياً ومتعدداً لا يتوحد إلا بالتوافق والإجماع البشريين.
• مع توما، انتقل العقل من الوحدة والتطابق إلى التعدد والفرادة، يشترك جميع الافراد مهما كانت درجة معارفهم وفطنتهم في تحديده أو إظهاره، كونه جزءًا من طبيعة كل فرد وتكوينه، في حين، بقي مع ابن رشد عقلاً أزلياً لا يكشف عن قوانينه وأحكامه سوى الفيلسوف أو النبي.
• أراد ابن رشد عقلنة الوحي، أما توما، فعمل على عقلنة الواقع خارج الوحي.