وفي ضوء هذا التساؤل يسعى المقال إلى إبراز الإسهامات المعرفية التي أضافها الربيعي إلى السردية النقدية التي بدأها سعيد، محاولاً من جانبٍ وعيَ حدود التواصل والتفاصل بين الأطروحتين، ومسهماً من جانب آخر في إثارة تساؤلات عدّة:
ما الصلة الرابطة بين الاستشراق القديم وما بعد الاستشراق في ضوء المتغيرات الدولية؟ هل كان الغزو الأمريكي للعراق تجسيدًا لسياسات جديدة للمنطقة؟ كيف تعامل كل من سعيد والربيعي مع فكرة (الشرق المتخيل) أو (شرقنة الشرق)؟ وما الأدوار التي تلعبها النخب الفكرية والسياسية في تكريس أو مقاومة هيمنة الخطاب (الاستشراقي)؟
أولاً: دلالة الاستشراق بين الكتابين:
يؤسس كلٌّ من إدوارد سعيد وفاضل الربيعي مشروعهما على فهم مُوسَّع للاستشراق يتجاوز الأطر الأكاديمية أو المؤسساتية الضيقة، فلا يحدُّ المفهوم بالتعريف التقليدي على أنَّه دراسة الشرق لغة وأدباً وحضارة [1]، بل يمتد ليشمل مجموع الخطابات التي كُتبت عن الشرق أو التي جرى تمثيل الشرق بها، سواء أكان الخطاب معرفياً أكاديمياً أو سياسياً أو أدبياً. وفي ضوء ذلك يتحدد المقصد الدلالي للاستشراق في الكتابين على أنَّه مؤسسة تتعامل مع الشرق وتعيد إنتاجه سياسياً، إنه أسلوب من السيطرة Style For Dominating للهيمنة على الشرق وإدارته. يعرّف الربيعي ما بعد الاستشراق على نحو متساوق منهجياً مع تصور سعيد على أنه: "مجموع الكتابات والدراسات والتقارير والبحوث والمواد الفكرية والسياسية الصادرة عن الجامعات، أو عن مراكز الدراسات والبحوث في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا. وهو كذلك جميع المواد الإعلامية والتعليقات التي درست وحللت، أو علّقت على أحداث ووقائع تخص الشرق العربي المسلم، ووجدت طريقها إلى مراكز صنع القرار".
إن أهمية هذا التحديد الدلالي ترتكز على جانبين أساسيين: أولاً: توسيع مفهوميَّة الاستشراق من الدلالة الأكاديمية البحثية إلى الدلالة الثقافية-السياسية. ثانياً: مكّن هذا التحديد الموسَّع من تأسيس مقاربة نقدية للاستشراق من خارج حقل اشتغاله التقليدي، فهو دراسة لمفاعيل الاستشراق الثقافية والسياسية. فلسنا في صدد مبحث في الإبستمولوجيا؛ أي في نقد المعارف الاستشراقية ومناهجها الأكاديمية-على نحو ما نجد في نقد محمد أركون للاسشتراق الكلاسيكي، بل في سياق مساءلة للبنى السياسية والاجتماعية التي أُنتح فيها الاستشراق، وأسهم من جهة أخرى في تعزيزها.
ثانياً: الشرق المتخيل بين الاستشراق وما بعد الاستشراق:
إذا كانت الحملة الفرنسية قد دشّنت الاستشراق التقليدي حسب منظور سعيد، فإن الاحتلال الأمريكي للعراق يمكن رؤيته "كحدث افتتاحي لعصر ما بعد الاستشراق". وهنا يبرز السؤال: كيف يمكن فهم الاستمرارية والتحول في الخطاب الاستشراقي من (نابليون بونابرت) إلى (جورج دبليو بوش)؟
ضمن سياق التطورات الدولية يرى الربيعي أنَّ ثمة تحولًا جذريًا في طريقة تمثيل الشرق، إذ انتقل الخطاب الغربي من تصوير الشرق على أنه متخلف إلى تصوير العربي على أنه (إرهابي) يشكل خطرًا على الحضارة الغربية. ومعها غدت وظيفة ما بعد الاستشراق "اشتقاق أكبر قدر ممكن من الاصطلاحات المهينة والمحتقرة لموضوع الاستشراق نفسه؛ أي للإسلام". فلم يعد التركيز على تخلف الشرق حضاريًا فحسب، بل على تهديده المزعوم للأمن العالمي. هذا التحول في التمثيل الثقافي جاء ليخدم أهدافًا جديدة في إطار ما يعرف (الحرب على الإرهاب)، وهي ذريعة استخدمتها الولايات المتحدة وحلفاؤها لتبرير التدخلات العسكرية في الشرق الأوسط.
إن التبدلات في طبيعة التمثيل الاستشراقي لم تؤدِ لتبدلات في الوظيفة، فكلا التمثيلين الاستشراقي وما بعده قد تشابكا بإرادة القوة الاستعمارية، وما التمثلات المنتجة عن الشرق المتخلف من حملة نابليون إلى تمثلات الشرق الإرهابي المتزامنة والسابقة أحيانًا للحملة الأمريكية على العراق سوى تعبير عن إرادة القوة الغربية.
إن ما انتهى إليه الربيعي يؤكد أن القوة والمعنى وجهان لعملة واحدة، وبتعبير فريدرك نيتشه: "إن للطبيعة (الإنسان والمجتمع) تاريخاً هو بالضبط تاريخ تعاقب القوى التي سيطرت على تلك الطبيعة ومنحتها دلالاتها ومعانيها. إنَّه ما من ظاهرة إلا لها معنى يختلف ويتبدل ويتحول ويتغير بتغير واختلاف وتعاقب القوى التي سيطرت عليها". من هذا السياق يمكن النظر إلى الاستشراق على أنه أحد مفرزات المخيال الغربي، فليس الاستشراق علاقة الشرق (الواقعي) بـ (الوعي الغربي)، بل علاقة الوعي الغربي بمتخيله عن الآخر، وهو متخيل يجسد إرادة القوة، ومنه يجري تخليق الآخر الشرقي. ويبقى التساؤل: هل توقف الربيعي عند تشخيص السياقات الدولية، أم أنه سعى لتمديد أطروحته صوب الفاعلين الجدد في الخطاب الاستشراقي؟
ثالثاً: الفاعلون الجدد في خطاب ما بعد الاستشراق:
بينما يرتكز نقد سعيد على مستشرقي الغرب من: باحثين وسياسيين وأدباء، يتجه الربيعي لتوسيع هذه الرؤية مُمدّاً النقد صوب النخب العربية التي تبنَّت الخطاب الاستشراقي الجديد. وفي حين يُنظر إلى نقد سعيد على أنه أحادي الجانب؛ موجهٌ لنقد الذات الغربية، يطرح الربيعي نمطًا نقديًا مزدوجًا أكثر تعقيدًا.إن نقد التمثيلات الاستشراقية في مشروع الربيعي يتجاوز حدود وعي الذات الغربية للآخر؛ إذ ينتقل بنقده من الاستشراق بوصفه خطابَ سلطةٍ إلى الاستتباع بوصفه خضوعاً لتلك السلطة، فنقد الاستشراق ينبغي أن يكون متزامناً مع نقد الذات التابعة. تأسيساً على ذلك يواصل الربيعي نهج سعيد بالنظر إلى الاستشراق على أنه بنية ثقافية مهيمنة، لكنه من جهة أخرى يُعمِّق نقده ليشمل النخب العربية التي تبنَّت خطاب ما بعد الاستشراق ثقافياً وأعادت تكريسه واقعياً. إنَّ هذا المسعى النقدي سوّغ إجراء إبدالٍ معرفيٍّ على نهج سعيد، واجتراح مصطلح جديد لاستيعاب متغيرات الخطاب الاستشراقي، إذ إنَّ "أكثر ما يميز ما بعد الاستشراق عن الاستشراق القديم، ويجعل منه علماً قائماً بذاته (...) هو أنه لم يعد يستعين بدارسين غربيين وحسب، وإنما كذلك بجيش من الدراسين والمحللين العرب والمسلمين".
هذا التحول المعرفي من الاستشراق إلى ما بعده يُفهَم في سياق التحول من الاستعمار التقليدي القديم إلى الاستعمار الجديد؛ أي: الانتقال من الاستعمار السياسي الجغرافي المباشر إلى الاستعمار الثقافي الاقتصادي، وبعبارة أنطونيو غرامشي: كان مرتكز الاستعمار التقليدي هو السيطرة (Hegemony) بالقمع المباشر، أما في الاستعمار الجديد، فإن السلطة ستأخذ شكلاً آخراً أكثر جذرية وأقل مباشرة متمثلةً بـالهيمنة (Domination)؛ حيث اعتماد الوسائل الإقناعية الضمنية التي تتشرّب في الذات المهيمن عليها، فيصبح المُهيمَن عليه ناطقاً بمصالح المُهيمِن، هذا التحول ينقل سلطة الاستشراق من خطاب خارجي عن الآخر إلى الاستتباع؛ أي خضوع الذات داخلياً لسلطة الآخر.
من هذا السياق تتمثّل مقصدية الربيعي في تشخيص العطب المستدام في النخب العربية، التي تعيش حالة من التناقض والانفصال بين ما تدعيه وما تمارسه، بين ما تعوّل عليه وما تنتهجه من أسباب. هذه النخب منفصمة عندما تجمع بين المتناقضات، متوهمة أن الاستعمار الخارجي يمكن أن يجلب الحرية السياسية الداخلية. قد مثّل هذا التوجه بعض النخب العربية في بدايات القرن العشرين، مثل: الفيلسوف والشاعر العراقي جميل صدقي الزهاوي الذي كتب قصيدته الشهيرة (ولاء الإنكليز) 1897، ومعروف الرصافي الذي مجّد الاحتلال البريطاني للعراق بقصيدته الموجَّهة للجنرال مود (فاتح بغداد) 1917. هذه النزعة تكرّرت بصورة أشد وضوحًا لدى النخب العراقية قبيل الاحتلال الأمريكي وبعده، فكانت ممهدة له قبل الاحتلال، ومسوّغة لأساطيره الاستعمارية بعد الاحتلال.
شخصيات مثل: أحمد الجلبي، الذي كان أحد أبرز المروجين للحرب على العراق ما لبث أن أصبح لاعبًا رئيسيًا في العملية السياسية التي فرضتها الولايات المتحدة، وهو يجسد أنموذجًا واضحًا للنخب التي خضعت للسياسات الأمريكية وروّجت لاستراتيجياتها في المنطقة. مثال آخر: إياد علاوي، الذي عُيَّن رئيسًا للوزراء بعد الاحتلال، وكان من أبرز الداعمين للسياسات الأمريكية. يضاف إليهم طاقم كامل من النخب الأكاديمية التي تعمل بمراكز الأبحاث الغربية من أمثال فؤاد عجمي الذي يعدُّه الربيعي أنموذجًا يُعمّم على كثير من النخب العاملة في مراكز الأبحاث الغربية، والفاعلة في مراكز القرار الغربي.
في ضوء هذا التشخيص النقدي يطرح الربيعي تساؤلات حيوية تحفز على استئناف السؤال النقدي في الاستشراق، وهي أسئلة عن الدور الذي تلعبه النخب العربية: كيف لهذه النخب أن تدعي الحرص على مستقبل بلدانها وهي تروج لخطاب استشراقي جديد يخدم أهداف الاحتلال؟ هل يمكن لهذه النخب أن تتحرر من إرث الاستشراق وتبني خطابًا يعبر حقًا عن مصالح شعوبها؟ وهل تتكرر الأخطاء نفسها مع الأجيال الجديدة منذ ثورة الشريف الحسين إلى يومنا هذا، فتنساق نخبنا على نحو متواتر خلف القوى الخارجية تحت شعارات براقة؟
بهذا النهج النقدي سعى الربيعي إلى كسر ثنائية (الشرق) و(الغرب) مسلطًا الضوء على التواطؤ الداخلي في العالم العربي الذي يعزّز من قوة الخطاب الاستعماري الجديد، وفي ضوء ذلك يسعى الربيعي لفتح رؤية أعمق للعلاقة المعقدة بين المعرفة والسلطة، ليس فقط من منظور خارجي، على نحو ما قدّمه إدوارد سعيد، بل من داخل الذات المستعمَرة أيضًا، فلم يكتفِ بتمديد أطروحة سعيد على الراهن المعاصر بفتح أسئلة الاستشراق على الألفية الثالثة، بل أضاف إليها بُعدًا نقديًا جديدًا من خلال تسليط الضوء على دور النخب العربية في تكريس الاستشراق الجديد.